النافذة 46

 

قصة: إيمان سعيد حسن شريف

كاتبة مصرية

 

في عربةِ القطارِ الأخيرةِ، كان مكاني، انتقيتُ كرسيًّا بجانبِ النافذةِ، لم أعبأْ برقمِ الكرسيّ الذي حدّدتْهُ لي التذكرةُ، ولم أهتمّ لماذا كان حظّي بالعربة الأخيرة، لقد تعوّدتُ على ذلك طوالَ حياتي؛ أن يأتيني كلُّ شيءٍ متأخرًا، أو ألحقُ بالشيءِ متأخرةً، أذكرُ حين طلبتُ من أبي تلك الدميةَ التي كنتُ أُشاهدُها خلفَ زجاجِ المتجرِ، جاءني أبي بها بعد ما يقربُ من خمسِ سنوات حين انتهتْ رغبتى بها.

تركتُ النافذةَ مفتوحةً ولم يهمّني البردُ القارصُ لشهرِ يناير، وإن كان أصحابي يرونَ أنَّ من الجنونِ ذهابي إلى الإسكندرية في ذلك الوقت، ولكنْ هي عادتي بل وشوقي إلى البحرِ في ذلك الوقت. أطلقَ القطارُ صافرتَهُ معلنًا الرحيل، بدأ البردُ يدخلُ فارتديتُ معطفي. جاء بائعُ الشاي، طلبتُ فنجانًا، بعد ضجيجٍ هائلٍ للركابِ هدأ الجميعُ، منهم مَن نام، وهناك مَن انشغلَ في الهاتفِ، أمّا أنا فلم أجدْ ما يشغلُني، اقترحتُ على نفسي، ماذا لو قمتُ بإحصاءِ كلِّ نوافذِ عربةِ القطارِ التي أستقلّها والمجاورةِ لها؟ لعلّ هذا الشيءَ يلهيني بعضَ الوقتِ، حسنًا! سأبدأُ من الآخرِ يمينًا، العربةُ المجاورةُ تبدو لي نوافذُها بعيدةً جدًا لكني سأحاولُ، تبدو لي الصورةُ مهتزةً ومشوّشةً، لكني مصرّةٌ على العدِّ، واحدة، اثنتان، سبع، خمس عشرةَ، سبعٌ وعشرون... 

لو أنّني لحقتُ بقطارِ الخامسةِ لكنتُ الآن في البيت، لكنَّها الصُّدفةُ التي أتاحتْ لي فرصةَ مقابلتِها وأنا أعبرُ طريقَ الكورنيش، رأيتُها بعد سنواتٍ عديدةٍ لا أذكرُ كم عددُها، قد تكون نسيتني، لكنني أبدًا لم أنسَها؛ "أبلة نبيلة"- جارةَ عمّتي في الحيّ القديم الذي كانت تسكنُ فيه، ناديتُها:

- أبلة نبيلة. 

ارتفع صوتي مُناديًا مرَّةً أخرى، نظرَتْ لي وعلى وجهِها دهشةٌ لم تتمكّنْ منها بعد حتى صرخَتْ: "أميرة". ضحكتُ وحمدتُ الله أنها تذكَّرتْني، لقد تغيّرتْ كثيرًا؛ تلك السنواتُ الكثيرةُ لم تتركْ لها شيئًا على حالهِ، غير أنها ما زالتْ نشيطةً كما أذكرُها.

- كيف حالُكِ يا أميرة؟ 

قالتْها وكأنَّها استعادتْ شيئًا من قاعِ ذاكرتِها، وراحت في نوبةِ أسئلةٍ عن عمّتي، وأمي وأبي، وأيام كنّا نزورُ فيها عمّتي وكانت تأتي لتجلسَ معهم ساعةَ العصاري، أخبرتني أنني لم أتغيَّرْ كثيرًا على الرغم من كلِّ هذه السنين التي مرَّتْ على تلك الوحمةِ التي ترتسمُ على الخدِّ الأيمن وتميّزُني، وعينيّ الخضراوتين الواسعتين، أردفَتْ: "ما زلتِ جميلةً يا أميرة على الرغم من كلِّ هذا العمرِ"، وامتدَّتْ يدُها مصافحةً إيّاه، وقبَّلتْ يديه قائلةً: "يا حبيبتي يا أميرة خلّي بالك مِنُّه دَه بركة، وارضي بنصيبِك؛ سيجازيكِ اللهُ عنه خيرًا"، وسألتني: "ألم تنجبي غيره؟"، فهززتُ رأسي نافيةً، ثم أردفَتْ: "ربنا يبارك لكِ فيه"، وراحتْ تتحدَّثُ عن أشياءَ كثيرةٍ، فهي من ذلك الصنفِ من الناس، ممَّن يستطيعون استدعاءَ كلِّ ما في قاعِ الذاكرة، ويترككَ تتحسَّرُ تارةً وتسعدُ تارةً على ما فاتك. تركتني ورحلتْ. عبرتُ الكورنيش، ثم مكثتُ هناك في مواجهةِ البحرِ؛ بحرِ الإسكندرية الذي لا يهدأ.

احمرَّ قرصُ الشمسِ وبدأ الغروبُ يلقي بلونِه القاتمِ على المياه الزرقاءَ، يحيلُها هناك عند الأطرافِ إلى الزرقةِ القاتمةِ الممزوجةِ باللونِ الأحمر، هياجُ البحرِ يشتدُّ، أعلمُ جيّدًا أنّه يريدُ وداعي، وكأنّه عندما يُلقي ذلك الرّذاذ الخفيف فإنَّه يحتضنُني للمرّةِ الأخيرة، فلن أعودَ إليه إلا العام القادم، سرقني الوقتُ وفاتني قطارُ الخامسةِ، وبعد صمتٍ طويلٍ همسَ لي: "ميرا أنا أشعرُ بالبرد"، نظرتُ إليه مبتسمةً، لقد ظنَّتْ "أبلة نبيلة" أنه ابني؛ فقد انتقلَتْ من حيّ عمّتي القديمِ قبل أن تلدَه أمّي، هو أخي الصغير الذي جاء للدنيا وأنا عمري خمسةَ عشرَ عامًا، فرحتُ به؛ فهو أخي الوحيدُ الذي سيشغلُني عن تلك الوحدةِ، اهتممتُ به مع أمي وحين ظهرَتْ عليه علاماتٌ تنبئُ بأنّه غيرُ طبيعيّ، وبعد جولةٍ كبيرةٍ عند الأخصائيين، اتَّضحَ أنه مصابٌ بتأخُّرٍ عقليّ بسبب انقطاعِ الأوكسجين عن مخِّهِ بعض الدقائق، وأكَّد آخر أنه مصابٌ بـ"متلازمة داون"، ومع تقدُّمِ العمرِ ثبتَ ذلك، لكنَّ أمي كانت تخرجُ من مأزقِ ذلك السؤالِ التي كانت تقع فيه دائمًا مع أفرادِ العائلةِ حين يرونَه معها هامسين لها: "يا حبيبتي ماذا به؟"، فكانت تردُّ عليهم وكأنَّها تتخلصُ من عارٍ لحقَ بها أنَّ الأوكسجين قد تأخّر عنه بعضَ الدقائق وقتَ الولادةِ، وكما تعوَّدَ أن يبترَني أشياءَ كثيرة فاختاروا له اسم "أمير" بعد أن بتروا من اسمي تاء التأنيث حتى نكون "أميرة وأمير" لا يشعرُ بهما أحدٌ في هذه المملكةِ التي أخذني إليها أمير ليبعدَني عن تلك الحياة.

حين صار عمرُه ست سنوات ألحقناهُ بإحدى المدارسِ الفكريّة، وكنت أذهبُ أنا به وأعود، حتى ذلك اليوم؛ حين رآني "خالد" الذي كان يسكنُ في العمارةِ المقابلةِ لنا، ذلك الشاب الذي كنتُ أشعرُ ناحيتَه بإحساسٍ لن أنساه، رأيتُه هو الآخر في عينيه كلَّ يومٍ وهو يقفُ في شبّاكِ حجرتِهِ يرقبُ خروجي، أمّا الآن ما عاد يخرجُ وأوصدَ الشباكَ. 

كَبُرَ "أمير" وكلّ يومٍ يتعلّقُ بي أكثرَ من ذي قبل، وأنا أيضًا أتعلّقُ به أكثر، أخذني إلى ذلك العالمِ الذي يعيشُهُ وحده، اهتممتُ بكلِّ تفاصيلِ حياتِه؛ جئتُ بالكتبِ، وقرأتُ كثيرًا عن ما قد يُكدّرُ صفوَهُ، وما يسعده، انتهيتُ من الدراسةِ الجامعيّةِ والتحقتُ بإحدى المدارسِ كمُدرِّسة للتربيةِ الفنيّةِ، حتى ذلك اليوم الذي تعرّفتُ فيه على الأستاذ "علي" مُدرِّسِ الأحياء وكان بيننا إعجابٌ سرعان ما تطوّرَ إلى حُبٍّ، وبدأنا في الترتيب لخطوةِ التقدُّمِ لخطبتي، وبالفعل جاء "علي" إلى بيتنا وكانت السعادةُ كلُّها تملأُ البيتَ، حتى دخل علينا "أمير" حجرة الجلوسِ، وجلسَ بجواري سائلًا: "ميرا مين دَه"، جاءتْ أمّي على الفور وأخذتْه، ولكنْ راح "علي" في نوبةِ أسئلةٍ؛ "لماذا لم تخبريني عنه؟"، رحتُ أخبرُهُ أنَّ الأوكسجين قد انقطعَ عنه أثناء الولادةِ؛ لذلك تأخرَ عقله، لكنه أوضح لي أنَّ تلك العلاماتِ الموجودةَ على جسدِه وشكل وجههِ تؤكدُ أنه "منغولي"، وخرج من داخله فجأةً أستاذُ الأحياء وأخذ يتكلّمُ عن "كروموسوم 21" وغير ذلك من كلامٍ يخصُّ علمَ الوراثةِ، استاذنَ وتحجّجَ بأنَّ هناك مَن ينتظرُه.

ليلٌ طويلٌ تدورُ فيه رأسي من التفكير، بل قربت على الانفجار، ترى هل هي مؤامرةٌ من ذلك الجين عليَّ؟ هل قصد ذلك الجينُ أن يؤخِّرَ حياتي؟ بل قصدَ أن يقضي عليها، أم أنه قصدَ أن يرسمَ لي حياةً أخرى؟ 

طلبتُ نقلي من المدرسة، هل أحتاجُ إلى الهربِ من عينيه أم أبحثُ عن فرصةٍ أخرى؟ بالفعل كنتُ أبحثُ عن فرصةٍ أخرى، وفي تلك المرّةِ جاء لي عريسٌ آخر؛ ذلك اليوم الذي جاءتْ فيه صديقتي "وفاء" وكانت قاصدة ما تفعله؛ وهو أنْ تجلس مع "أمير" في حجرتِه ولا يخرجُ منها، هذا ما رتّبتُه مع أمّي، ولكن تنهارُ كلُّ الترتيباتِ حين تُغرَسُ السكّينُ في يدِ "أمير" وهو يقشِّرُ البرتقال، في دقيقةٍ ترَكَتْهُ فيها وذهبَتْ إلى المطبخِ، خرجَ من حجرتِه قاصدًا حجرة الضيوفِ حيث كان العريسُ الذي تنتظره أمي، هو وأسرته، دخل علينا الحجرةَ باكيًا ومناديًا عليَّ أنا؛ استأذنَ الجميعُ، العريسُ وأسرتُه ورحلوا، ولم أهتمّْ بكلِّ ذلك، بل أخذتُه في حضني ونمنا على سريرٍ واحدٍ ولم أعبأ بما حدثَ، ولم أهتمّ إنْ كان الأوكسجين تأخَّر عن عقله حتى يؤخِّرَ كلَّ حياتي، طيلةَ هذه السنوات، ولم أهتمّ حتى بمؤامرة ذلك الجينِ الذي عاندني ليحيلَ حياتي إلى كلِّ هذا الشقاءِ كما تقولُ أمّي، بل رحتُ أهتمُّ به أكثر وأكثر فلا يأكلُ إلا معي ولا يلعبُ إلا معي ولم يعُد يضحكُ إلا لي ولا يبكي إلا في حضني. مات أبي وأنا في الخامسةِ والثلاثين، وماتت أمّي بعد أن أوصتني عليه "دون وصيةٍ يا أمي، استريحي، أمير أصبح كلَّ حياتي التي قُدِّرتْ لي ورسمَها لي كروموسوم 21 منذ عشرين عامًا".

 

استيقظَ "أمير" من نومٍ عميقٍ وضحكَ لصوتِ صافرةِ القطارِ التي يطلقُها كلّما غادرنا محطةً، ثم نام مرةً أخرى. أحكمتُ عليه الغطاءَ متأمّلةً وجهَهُ باحثةً في ملامحِهِ عن شيءٍ يُشبهُني، يُقنعُني بأنَّه ابني كما اعتقدَتْ "أبلة نبيلة" ويعتقدُ الآخرون، إلا أنَّ تلك المتلازمةَ تجعلُهم لا يشبهون إلا أنفسَهم، ابتسمتُ لضحكتِهِ الملائكيّةِ وعدتُ إلى مزاولةِ عَدِّ النوافذِ، لقد توقفتُ حيث تلك النافذة التي أجلسُ الآن بجوارِها، وأرى الخارجَ من خلالها كلَّ هذا الظلام، ثمةَ مصابيح إنارةٍ تظهرُ فجأةً وتختفي فجأة، القمر يلقي بنوره على الأرض فتظهر أشياءُ وتختفي الأخرى، النجومُ تبدأ في التلاشي، الضباب يستعدّ لحجب المشهد، إنَّها آخر نافذة في العربة أجلس بجوارها؛ النافذة 46