خيالُ الظِّلّ

قصة: روعة سنبل

كاتبة سورية

"ماذا لو ترككَ ظلّك؟

لو رحلتَ، وبقي على جدار.

لو مِتّ، وتاه في مدى.

لو نمتَ، فسرى.

لو ضحكتَ، فبكى.

لو مكثتَ، فمضى.

لو صمتَّ، وحكى.."

ستقرأ سطوري السّابقة بعين النّاقد كعادتك، ستعلّق قائلًا: "لا بأس بها كمحاولة شعريّة!".

كنتُ سأعتبرُها مثلك، ما يشبه شعرًا، محض استعاراتٍ وكناياتٍ، لو لم يحصل معي ما حصل منذ شهور.

في تلك اللّيلة، انقطع التّيّار الكهربائيّ فجأة، فارتطم برأسي شيءٌ لم أتبيّنه، قبضتُ عليه بقوّة، تخبّطَ محاولًا الفرار، ثمّ سكن!

 تحسّستُه بيديّ، فظهرت معالمُه: رأسٌ، جذعٌ، ذراعان، قدمان.

ابتسمتُ، لم أجد صعوبة في التّعرُّف عليه، فقبل قليل كنتُ أتسلّى بمناجاته هامسةً، مستلقيّةً على ظهري في سريري، رأسي مستندٌ فوق كفّيّ المتشابكتين بخمول على وسادتي، أستجدي نومًا يجافيني، وأتأمّله بمودّة، أسودَ، يكبرني بمرّات، منعكسًا أعلى الجدار، يكاد يتسلّق طرف السّقف.

مددتُ يدي إلى طاولة قرب سريري، أشعلتُ مصباحًا يدويًّا، عندها تأكّدت أنّه هو، ظِلّي، وقع بغتة.

ستبتسم الآن، ستقول كعادتكَ إنّ خيالي واسع!

صرنا صديقين، أنا وهو، كلّ مساء، أخلع ظلّي، أنفضه جيّدًا، أمسِّده بيدي، بحرص أعلّقه على مشجبٍ أفقيّ مثبّت على باب خزانتي من الدّاخل. 

ما زلتُ كما تعرفني، أعاني من وسواس نظافة، لم يَسلَمْ منه ظلّي، أغسله بين الوقت والآخر بمسحوق غسيل خاص بالثّياب الدّاكنة، كي لا يبهت سواده، أحرص على استخدام حرارة منخفضة كي يبقى أملسَ دون تجاعيد، أستخدم معطّر غسيلٍ أزرق اللون، كنتَ تستطيبه على ثيابي ووسادتي وشرشف سريري، أتذْكُرُه؟

كلّ مساء أطبع قبلة على جبينه قبل أن أنام، وأغلق خزانتي.

أتدري أنّني أغبط ظِلّي؟ حرٌّ هو، لا تعيقه مسافة، ولا يحكمه قانون.

حين يشتدّ الحنينُ به في بعض اللّيالي، يعذّبه الشّوق، ينقر على باب الخزانة من الدّاخل، أنسلُّ من فراشي، أفتحُ له، يغادر، يغيب ساعات.

يوقظني عندما يعود، أنظر إلى عينيه الممتنّتين، أعانقه، أتجنّب طرح الأسئلة، أشمّ فيه روائح غائبين أشتاقهم، وآخرين محرّمٌ عليّ لقاؤهم؛ أبكي، فيمسح بإصبعه السّوداء دموعي، يشدّني إلى صدره أكثر.

رائحتكَ.. أشمّها أحيانًا!

أبقى في فراشي، بينما ينصرف هو إلى الخزانة، يتعلّق بنفسه على المشجب، يغمز لي بعينه قبل أن يغلق الباب خلفه.

 في الصّباح، أفرد ظلّي على سريري، نتحدّث قليلًا قبل أن أرتديه.

 

أخبَرَني الكثير.

أخبَرَني يومًا أنّ لكلّ شيء ظِلًّا: للفرح ظِلّ وللحزن ظِلّ، للصّوت ظِلّ وللرّائحة ظِلّ، للموت ظِلّ، للغياب ظِلّ.

أخبَرَني أنّ الظّلال باقيةٌ، لا تفنى، لا تُخلق من عدم، نموت ويواري أجسادنا التّرابُ، لكنّ ظلالنا تبقى، تتسكّع في هذا العالم. 

أخبَرَني أنّ الظلال الغائبةَ إلى أصحابها تحنّ، تئنّ، تتراكض نحو الزّوايا لتختبئ كفئرانٍ مذعورة، أو تطوف في دوائر كأسراب حمام. 

أخبَرَني أنّ ظلال الأحبّة تداوم الوصل ولو بانتِ الأجساد!

 أتدري؟ لن تعرفني الآن إن رأيتني، تغيّرتُ كثيرًا في غيابكَ، أدمنتُ صحبة الظّلال، حتّى كدتُ أنتمي إليها، استطعتُ رؤيتها حتّى في العتم المطبِق، أتقنتُ مثلها الارتعاش بحزن على ضوء الشّموع، والتراكض بطيشٍ أمام أنوار السّيّارات، لم يعُد لي كيانٌ محدَّد، أمتدُّ تارةً وأنكمش أخرى، أصغُرُ، أكبُرُ، ضائعةٌ أنا، أنتقل بخفّة من الأيمان إلى الشّمائل، تلاشت ملامحي، وسكنني السّواد.

ستبتسم الآن بأسى، ستقول إنّني جننتُ تمامًا.

لمْ تصدّقني بعد؛ حسنًا: أتذكُر حين استيقظتْ زوجتكَ مذعورةً منذ ثلاث ليال أو أربع؟ أخبرَتْكَ أنّ البدر كان مكتملًا في منامها، وحين كادت قبلة منك تنطبع على جبينها، دفعَتْها يد ٌسوداء، فهوَت من شاهق؛ لن تصدّق كم ضحكنا أنا وظلّي حين حكى لي!

 لا تعقدْ حاجبيك! صدّقني كان مجرَّد مزاح، ظِلّي خفيف الظّلّ!!

اسمع! صباحَ الأمس، ألم يخبركَ طفلكَ أنّه استيقظ فزعًا في الظلام؟ لكنّ صوتًا همس في أذنه بأغنية حتى نام! 

طفلكَ! أتدري كم أحبُّه؟ أحبُّه لأنّ فيه بعضًا منك.

وأنتَ، أخبرْني الصّدق، كم مرّة لمحتَ عينيّ تبرقان في عتمة ليلك؟ كم مرّة في الظّلمة لفحتْ أنفاسي وجهَك، مسحتْ كفّيْ بحنوّ رأسَك، واحتضنتْ ذراعاي حنينك؟ 

ما زلتَ غير مصدِّق!! ليتكَ تراه الآن، ملتصقًا أمامي على الجدار، يسترق النّظر إلى شاشتي المضيئة، ليقرأ رسالتي إليك، يبتسم مرّة، يعبس مرّة.

صارتِ الرّسالة طويلة، كثيرة الكلام أنا، كعهدكَ بي.

 كُن بخير.

 قبلاتي لطفلك.

مهلًا.. 

قبل أن أضغط زرّ الإرسال، يغادر ظلّي الجدار الآن، يقترب منّي، ينقر على كتفي، يبتسم، أفسح له مجالًا أمام لوحة المفاتيح، يجلس، يريد أن يكتب لك!

يكتب فأمحو، أنهاه فلا ينتهي، يدفعني بمرفقه، يدفعني حتى أصير ملتصقة بالجدار، أسترق النّظر إلى شاشتي المضيئة، أراقبه يكتب لك:

"عُدْ، أخبرِ الغائبين أن يعودوا، ظلالهم ما زالت هنا.

عُدْ، تشتاقك هي، حدّ الجنون..".