مغامراتٌ استكشافيٌّة في متجر البقالة

 قصة: مصطفى النفيسي

كاتب مغربي

 

 كان "دحمان" يلبث في متجره طيلة النهار (كم يطول نهار "دحمان"؟!) كفأر جبان. يحتمي من صهد الصيف وأمطار الشتاء بغطاء أبلته السنون. يضعه فوق باب دكانه. غطاء أصبح مترهلًا كبشرة العجائز. ما الذي كان يدعو "دحمان" إلى أن يقبع بإصرار محاربٍ فيتناميٍّ داخل متجره طيلة النهار؟! 

كان يدجّج هذا الباب بأربعة أقفال حديديّة، ثم يتلو أدعيةً كثيرةً قبل أن ينصرف ليلًا، وهو يهرش فروة رأسه متلصّصًا بأعينه الشبيهة بمصابيح أماميّة في سيارة مستعملة، قبل أن يكون أحد محترفي كهرباء السيارات قد حرص، مستعينًا بحنكته المهنيّة طبعًا، على أن تبدوان كعينين بشريّتين عاديّتين، لا تضاهيهما في لمعانهما أيّ أعين أخرى. لكنهما تبالغان في اللّمعان إلى حدّ الاتِّقاد شررًا وخبثًا. فتكاد تعتقد أنَّه يضع قطعتين من الجمر الملتهب وراء نظارته الطبيّة السميكة، أو فقط يكون قد اختلس أعين لعبة ابنه الـ"سبايدرمان"، ووضعهما في محجريه. وبما أنك متأكد بشكل لا يتيح لك الشكّ ولا التردُّد أنَّ ابنه لا يملك لعبة كتلك، فالاحتمال الأوَّل هو الأقرب إلى الصواب.

تعتيم: أناس آخرون لا يختلفون كثيرا عن "دحمان"!

أليس صائبًا ما قلته إلى حدّ الآن، حتى إنكَ تستطيع أن تراهن كل أصدقائك على ذلك؟

كل مَن سوَّلت له نفسه تكذيبك، ستهزمه دون أن تطرأ على بالك فكرة الخسارة! ولكنكَ لم تدخل أبدًا في أيّ رهانات، ولو على سبيل المزاح، لأنَّ الرهانات لا تعنيك، بل هي -بالنسبة إليكَ طبعًا- أشبه بأن تضع دجاجة في صندوق شفاف، أو سجين في السجن الانفرادي، وتقف تتفرج عليهما. لذلك فالرهانات تغيظك، أو توخيًّا للصدق، أنت تعتبرها كمآزق رفيعة الطراز، يصعب الخروج منها بسرعة. فهي تضمّ مفاوز وسراديب كثيفة كتلك التي تجدها في الرسوم السمجة الموجودة في صفحات التسلية لمجلات الأطفال، والمخصَّصة لإرضاء فضول لصوص صغار -الذين لن يختلفوا كثيرًا عن "دحمان" حينما سيكبرون- يبحثون عن كنوز لا تحرسها العفاريت. يجعلون منها فرصة لن تتكرر ثانية لإرضاء ميولات نرجسيّة سابقة لأوانها، بل ومتسرعة، وغير مخطط لها للاغتناء المبكر، مثلما يفعل متسلقو سلالم الحياة الجدد، والحاصلون بشكل عرضيّ على مصابيح يدوية تنير لهم السكك الحلزونية والملتوية كأمعاء خروف، والمرصّعة بدعوات الأمهات، والتي تقود إلى رفوف اللهو المحرَّمة على صغار القطط والأرانب الأليفة. هل نصلح نحن كي نكون قططًا وأرانب أليفة؟! تستطيعون أن تجدوا أمثال هؤلاء دون أن يصيبكم دوار البحر أو الطائرة، ودون أن تفقدوا سعرات حرارية كثيرة -لتذهب نصائح الحمية إلى الجحيم- إذا كنتم من هواة المصارعة الحرّة (ألم يصرع دحمان كلَّ سكان الحيّ، مستعينًا بجبنه طبعًا؟!). 

تستطيعون أيضًا أن تجدوا أمثال هؤلاء، دون أن تكونوا قد ابتعدتم عن منازلكم، إذا كنتم لا تريدون تفويت مسابقات "الرقص مع النجوم"* على شاشة التلفاز، أو من الذين يودّون تعلُّم طرق سهلة لإخفاء التجاعيد من خلال برنامج "أوبرا"**، أو إذا كنتم فقط من الأزواج الطيّعين، الذين لا يتوانون عن إرضاء زوجاتهم، إرضاءات تتراوح بين إرضاءات المطبخ وإرضاءات الرحلات الاستكشافية المرخَّصة إلى أدغال متجر البقالة حيث ستجدون "دحمان".

إذا كنتم إذن من محبّي الرحلات الاستكشافيّة إلى عرين متجر بقالة الحيّ، ستجدون رجلًا كهلًا، اعترى الشيبُ رأسه. يطغى أنفٌ أفطس على ملامح وجهه، اسمه "دحمان". هل كنتم تظنون أنَّه شخص آخر غيره؟ من يستطيع أن يحلَّ محلّ رجل كـ"دحمان"؟

إنَّه رجلٌ لا يستطيع التخلي أبدًا عن متجره. فحتى حينما يذهب لتناول غدائه، فهو لا يفعل ذلك إلا بعد الثانية زوالًا، أي بعد أن يتأكد بأنَّه قد أجاب عن أسئلة المستكشفين الجريئين، والذين يحملون رخصًا موقَّعة من طرف زوجاتهم -وهي رخص تختلف كليًّا عن رخص الصيد أو السياقة- وأشفى غليلهم، وتأكد من تدوين أسئلتهم -مرفقة بأجوبته طبعًا- دون سهو أو نسيان، في أرشيف المتجر، من خلال المراجعة الدقيقة والصارمة. وهي مهمّة يسيرة على رجل مثله، ما دام يملك عينين يخضعهما للصيانة الدورية لدى كهربائيّي السيارات الموجودين على مشارف حيِّه السكنيّ. كما يجيب عنها بدقة منقطعة النظير، بما أنَّها تتعلق فقط بجزيرته الشخصيّة التي يحفظ تضاريسها وفلواتها الصغيرة، والتي يستطيع أن يقدِّمها دون وصلاتٍ إشهاريّة سياحيّة أو مرشدين مؤهلين جغرافيًّا، يحشرون أنوفهم في كل صغيرة و كبيرة.

"دحمان" المسكين.. هه.. ألم يكن مسكينًا يومًا ما؟ على الأقل كان مسكينًا حينما كان لا يزال مبتدئًا. يدهس بأرجله السلع المتكدسة في كل مكان، وهو يبحث عن "ياغورت" بعينه، أو علبة بسكويت لطفل ملحاح، فيتحوَّل إلى أعمى لا يكاد يميِّز أيّ شيء. يسخر منه الصبيان صارخين: "وادحمان، وادحمان!"، ثم يشيرون له بالأصبع الوسطى، أو بألسنتهم، إذا لم تُجدِ حركة الأصبع نفعًا، فيرميهم بفردة من حذائه، وهو يشتم آباءهم وأمهاتهم، وأحد الشيوخ يجبر خاطره، ويدعوه إلى لعنة الشيطان. وإذا لم يستجب يقول له: "ألن تلعن الشيطان؟!". فيرد عليه دحمان: "لقد لعنتُ هذا الشيطان!". ليردف الشيخ في إصرار: "افعلها جهرًا آصاحبي! واه حتى أنت! مالك راسك قاصح؟!". والآخر، أي "دحمان"، يهرش راحة يده متجنبًا النظر إليه.

تفصيل: البقال يستدعي سكان الحيّ لأمر يهمّه.  

من هو بقال الحيّ هذا؟ 

 هو بقّالٌ يمتلك خزانة عامرة. تمتلئ جنباتها بدفاتر صغيرة مهلهلة الأوراق، غاصّة بأسماء المتبضعين المخذولين بدورهم من قبل رواتب مقزومة، أتت على عافيتها مؤسسات مختصّة في القروض، بنكيّة وغير بنكيّة. يمهلهم إلى حين انتهاء الشهر، ثم يبدأ في استدعائهم الواحد تلو الآخر، ليكتشفوا أنَّه يملك ذاكرةً حديديّة (هي في الحقيقة ذاكرة الدفاتر الملعونة). إنها ذاكرة تشبه ذاكرة المحاربين.

بقّال الحيّ إذن، الغارق حتى أذنيه، وربما أكثر من ذلك، في عمليات حسابية معقدة. يستعين بآلات حسابيّة، تطلق أزيزًا عجيبًا: زن.. زن.. زن، مستغرقًا في خلوته كما يفعل هواة اليوغا، بوزرته الزرقاء التي يحرص على عدم تنظيفها نكاية بكل الملصقات الإشهاريّة، التي يضيق بها باب متجره، والتي تعرض صور علب مساحيق التصبين، وكأنَّها أيقونات قديمة تستعمل للتبرُّك ولجلب الحظ. تحت وزرته الزرقاء تجد قميصًا غامق اللون. هو في الأغلب بنّي. تزدحم داخله ألوان أخرى، يصعب حصرها، فتصبح لونًا يقترب من الغامق. لون يكاد يجعلني أقول: "إنَّ قميصه كان دون لون". وطبعًا هو يتجنَّب انتعال الأحذية "الروميّة" (العصريّة)، مفضلًا "البلغة" حتى يريح قدميه. أمامه ينتصب دومًا إبريق يعفيه من الذهاب إلى المنزل لاحتساء كؤوس الشاي، حتى يتجنَّب تذمُّرات زبائنه أثناء غيابه.

 كان هذا هو" دحمان": البقّالُ الذي يعتمر "شاشية" حمراء، والذي يمتلك ذاكرة أعتى من ذاكرتي. أنا الذي لا أفلح في تذكُّر المكان الذي وضعتُ به مفاتيح البيت، إلا بعد أن أعلن حالة الاستنفار في المنزل، وأضع أصابعي أكثر من مرّة على جبيني. أكوِّر قبضة يدي كما يفعل الملاكمون، أضرب سطح المائدة المغطّى بغطاء، قالت عنه أمّي: "إنَّه مبتذل، ويجب تغييره متى كانت الفرصة سانحة". وأتساءل هل ستسنح لنا الفرصة؟ وهل كانت الفرصة سانحة في يوم ما؟ أم أننا نخرج من ورطة لندخل إلى متاهات أخرى؟ 

إنَّها ذاكرتي التي لم تعُد تسعفني في تذكُّر أسماء تلامذتي، أو الأطعمة التي تناولتها البارحة، أو حتى أثمنة المواد التي اجتلبتها من السوق. فلا تنقذني إلا تلك الورقة المجعدة، التي يكون قد دسّها البقّال في جيبي (هل هو دحمان؟!). وأنا أطمئنه بأنّني لن أعيد عمليّة الحساب في المنزل. وهو يعلّل ضرورة تسلُّمي لورقة الحساب بأنَّ الفواتير أصبحت ضروريّة، كدليل على انتقالنا إلى عصر حداثي بامتياز!