صورةُ الأوبئةِ في أدبِ حنّا مينة، من خلال "بقايا صور" و"المستنقع"

 

 

-عبد الغني الخلفي

باحث وناقد (المغرب)

 

-1-

خلال شهر مارس من العام الماضي، شهد العالمُ تفشّي فيروس "كورونا" المُستجد، فيروس أحدث خلخلة في إيقاع الحياة العادي ووتيرتها المألوفة، وفرض تغييرًا واضحًا في ممارستنا لحياتنا كما دأبنا عليها، إذ صرنا مُلزمين بالمُكوث في البيت والخضوع لحجرٍ صحّيّ لتفادي تفشّيه وتفاقمه. هذه العزلةُ، رُبما، قد تكون مفيدةً لنا، كونها ستُساعدنا على إعادة ترتيب علاقتنا بالوجود والأشياء من حولنا، وبما كان يستحوذ على اهتماماتنا سابقًا، بحكم أنَّ تعاملنا مع كلِّ ذلك، لا بدَّ وأن يتغير عما كان مألوفًا وسائدًا، ولو إلى حين. 

فعلاقتُنا بالقراءةِ والكتبِ- مثلًا- توطّدت أكثر، وزاد معدّلُ قراءتنا بشكل لافت، كما زاد الإقبال خصوصًا على الأعمال الإبداعيّة التي لها صلة وثيقة بمستجدات العصر. فيروس "كورونا" أثّر سلبًا في نوعية محددة من الكتب التّي سيتمّ تأجيل قراءتها إلى وقت لاحق، وفي المقابل أعاد الحياةَ لكُتبٍ أخرى كانت مهملةً أو منسيّة، بحُكم أنّ المواضيع والقضايا التي تُعالجُها لم تكن تحظى باهتمامٍ كبير، ولأنَّها- أيضًا- لا تتلاءم وروحَ العصر. لذلك ظلَّ تأثيرها في نفوس القراء غائبًا. وفي مقابل ما ستتعرض له تلك الكتب من إقصاء مُؤقت، ستستفيد كتبٌ أخرى من حساسيّة الظرفيّة التاريخيّة التي نمرّ بها، لأنَّ هذا الفيروس، جدّد شبابها، أو بالأحرى سلّط عليها الأضواءَ، وجعلها في الواجهة.

-2-

ولطالما كان الأدبُ، ولا يزال- حسب القائلين بنظرية الانعكاس- مرآةً للمجتمع الذي يتناوله، ولمختلف مظاهر الحياة والتحوّلات التي يشهدها. وهو، بهذا المعنى، سيُصبح، مع توالي الأيام، وثائق تاريخيّة، ويتحوّلُ الأديبُ، عندئذ، إلى شاهد آنيّ للعصر الذي عاش فيه، وذلك عندما يُعيد تشكيلَ تلك المظاهر والتحوّلات في قالبٍ إبداعيٍّ جديد.

فالأدبُ العالميُّ، بما يحويه من أعمالٍ إبداعيّةٍ فنّيةٍ غنيّةٍ، اكتسبت قيمتها من أهمية المواضيع والظواهر التي تطرقت إليها، يضعنا أمام كُتّاب وروائيّين التفتوا إلى موضوع الأوبئة التي عصفت بحياة الإنسان في عصور خلت، وخلّفت جراحًا وندوبًا ليس في حياة أصحاب هذه الكتب بالضرورة، ولكن في حياة من عايشوها وخاضوا غمار مواجهتها بالطرق المتاحة. أعمالٌ إبداعيّةٌ شكّلت الأوبئة والأمراض موضعها الأساس، فاختار أصحابها الاشتغال عليها واسترجاعها من خلال اتخاذها مادة للكتابة.

ومن أبرز ما كُتِبَ في هذا الموضوع عالميًّا، نجد رواية "الطاعون" "لألبير كامو"، الصادرة عام 1947، وهي واحدةٌ من تلك الروايات التي جعلت من تفشّي وباء الطاعون مادةً خامًا لتشكيل عالمها الروائيّ. ف"كامو" يعود بنا إلى مدينة وهران بالجزائر، ليعيد التقاط تفاصيل تفشّي هذا الوباء خلال القرن 19، والذي ظهر أمام الناس بشكلٍ مفاجئٍ على هيئة فئران كثيرة تنتشر في المدينة، مما أدّى إلى إصابة عدد كبير من الناس بالحُمّى التي تؤدي بهم إلى الهلاك. كما يُمكن الإشارة إلى رواية "العمى" للكاتب البرتغالي "جوزيه سارماغو"، التي ظهرت سنة 1995، وفيها نتعرف على وباء خطير يجتاح العالم، ويصيب ضحاياه بالعمى. بالإضافة إلى نماذج أخرى عديدة لا يتّسعُ المجالُ لعرضها.

أمّا عربيًّا، فلا يُمكن إعدام وجود أعمال إبداعيّة تناولت الموضوع ذاته، بصورة من الصور، وهي وإن كانت قليلةً ومعدودة، ولم تُحقق تراكمًا ظاهرًا في هذا المجال، إلّا أنّها تظلُّ لها قيمتها، باعتبارها أمْشَاجًا لتلك الأصول الأولى التي يُمكن الاستناد إليها لتأسيس ما صار يدعوه بعضُ الباحثين بأدب الأوبئة، الذي هو نوعٌ أدبيٌّ يُعنى أصحابه بتصوير أمراض وأوبئة عاشها الإنسانُ في مراحل سابقة، وأحدثت تأثيرًا في مجالات الحياة المختلفة، حيث يُصبح هذا النوعُ من الأدب مستنَدًا داعمًا في الدراسات الاجتماعيّة والتاريخيّة، لأنَّه يغدو بمثابة وثائق تاريخية، لم يكُنْ يُلتفتُ إليها، بحكم أنَّ الوباء، في وعينا الجمعيّ، ولّى وانتهى، أو بحكم بُعد المسافة الزمنية الفاصلة بيننا وبين سنوات ظهوره الأوّل. وفي هذا الصدد، يمكن التمثيل بملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، وفيها عرض لظروف تفشّي الطاعون بين المصريين، حيث كان سببًا في تدمير كل شيء، وما استتبع ذلك من أعمالٍ لإعادة بناء الحضارة وتأهيلها من جديد. وأيضًا، نجد طه حسين في سيرته الذاتيّة "الأيّام"، يتحدّثُ عن وباء الكوليرا الذي اختطف أفراد عائلته في مصر، إبّان بدايات القرن العشرين. وكُلّها تتفق في تصوير الآلام والمعاناة الّتي تُلاقيها الإنسَانيّة في مثل هذه الظّرُوفِ.

-3-

ويستطيعُ الباحثُ في الرّوايات العربية، أن يقف عند نماذج روائيّة أخرى عَنت بهذا الموضوع، ولو أنّها لم تتّخذه غايةً في ذاته؛ بمعنى أنّها لم تسعَ إلى التّوسع فيه، بحيث يستحوذ على اهتمام الروائيّ، ولكن أصحابها سجّلوا، مع ذلك، أحداثًا ووقائعَ تستحقّ وقفة عندها.

فمن بين ما كتبه الروائيُّ العربيُّ السوريُّ حنّا مينة، نجد سيرته الذاتيّة الروائيّة. "بقايا صور"، "المستنقع"، "القطاف"، هي ثلاثيّة تجمعها صلةٌ واحدة، باعتبارها تُسجّل مسار صاحبها الحياتيّ في مرحلة الطفولة، من منظور السيرة الذاتيّة، كما نجده محدّدًا لدى "فيليب لوجون"، ولكن بشكل روائي سيري (نسبة إلى السيرة). ومن ضمن الروايات الثلاث، يعنينا هنا، الكتابان الأولان اللذان زخرا بإشارات لها صلة بموضوعنا.

ف"بقايا صور"، التي هي الرواية الأولى من هذه الثلاثيّة، ما هي إلا شظايا ورفات لصور الطفل العالقة في لا وعيه، والتي تتم استعادتها شبه كاملة في مرحلة لاحقة، بعد سنوات النضج، ولكن الاستعادة، هنا، تتمُّ عبر تنشيط الذاكرة، ونفض الغبار عنها، لإعادة لملمة وتشكيل وترتيب صور الطفولة الباهتة، حتى لا تُمْحى، أو تموت موتة نهائية "إن بقايا الصور ستغدو، في الوعي الذي نما بنموّ العمر، صورًا شبه كاملة الآن، قد يظلُّ فيها بعض الفجوات، وقد تستعينُ المخيّلة ببعض المسْمُوعِ من الأهل لتظهير طرفٍ مكمّل من هذه الصورة أو تلك" (بقايا صور، ص 207).

هو تقييدٌ كتابيٌّ إذن، لما انطبع في ذاكرة السارد من صور الطفولة المتلاشية؛ الصور التي ستنفتح جراحها، واسعة، على امتداد الكتب الثلاثة؛ الصور التي سترسُمُ مسلسل حياة السارد/ الطفل الأولى؛ صور الفقر، والبؤس، والتشرد، والمعاناة، التي حُفرت في ذاكرته، وصار من الصّعب نسيانها، إلّا من خلال عملية الاسترجاع كتابةً. وعلى عكس ما هو مألوف في الكتابة، التي تكون للتذكّر عادةً، فإنَّ كتابة هذه الصور، ستُخلّص الذاكرة من ثقلها وتزيل عبأها.

ومن بين كلِّ هذه الصور، التي أشرنا إليها، والتي تتلون بلون السّواد القاتم، ثمة صورة تستحقّ وقفة قصيرة؛ صورة لا تقل قتامةً وسوادًا عن الصور الأخرى، إن لم نقل إنَّها كانت عاملًا في تعميق معاناة السارد وتضخيمها؛ هي صورة الأوبئة التي عايشها السارد، ولكن طريقة معايشته لها، ستبدو لنا مخالفة لما نُعايشه اليوم أمام انتشار هذه الجائحة؛ جائحة "كورونا". فالروايتان (بقايا صور والمستنقع)، تصحبهما إشارات ووقفات عند الأوبئة التي كانت عاملًا مساعدًا على إضفاء طابع الحزن والقتامة على حياة السارد/ الطفل. وسنحاول الوقوف عند تمظهراتها بين سطور الروايتين، ودرجة التأثير الذي تركته في وعي الذاكرة.

هنا نجد السارد يعطينا تفاصيل عاشها البطل/ الطفل بصحبة أسرته، في خضم تفشّي وباء الطاعون في البلدة، حيث مسقط الرأس، إبّان العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. وهو يذكر أنَّ "البلدة المنكوبة بحريرها نكبت بوباء أيضا. قيل إنّه الهواء الأصفر، وقيل إنّه الطاعون. وأكّد أخرون فيما بعد أنه الجوع. انتشرت المجاعة في كل مكان، وانتشر الجربُ فأصابتنا العدوى، ظهرت البثور على أجسامنا، والتهبت بالحكة وتبقّعت" (بقايا صور، ص 195-196)، وكان من نتائج ذلك أن "تبقعت وجوهنا بآثار القرص" (بقايا صور، 241)، ولم يكن الطاعون الوباء الوحيد الذي واجته الأسرة، فالملاريا كان لها حضور أيضًا، يقول: "الحصيلة ظهرت بسرعة. الملاريا! وقد عبّرت عن نفسها بشكل لائق. البرداء !" (بقايا صور، ص 241)، والتي كان ظهورها يمتدّ لأيّام طوال، بحيثُ تترك آثارها على الأجساد. "إنَّ حالنا مع الملاريا ستدوم أعوامًا، وتخلف في أجسادنا تخريبًا مزمنًا، من آثاره الديزنطاريا التي  أخذناها عن السكنى قرب المستنقعات" (بقايا صور ص 242)، حيث الوباء لم يسلم منه أي شخص، فهو معد، وسريع الانتشار. وقد رافقت الأوبئة السارد حيثما حلَّ وارتحل. فها هو يجدُ نفسه في مواجهة وباءٍ جديد عندما استقرّ به الأمر في حي "الصاز Saz"، قرب مدينة "اسكندرونة"، حيث كان من السهل أن تتوالد الأوبئة والأمراض بطرق غير متوقّعة. وكان للبيئة التي تعيش فيها الأسرة دورٌ في استنباتها. فلمجرد أن يهطل المطر، ستُرافقه الكارثة. "إنَّ السماء حين تُمطر، والخنادق حول البيوت عندما تطوف فيها مياه آسنة، والأرض إذ تنزُّ فيتشكل ذلك المستنقع الذي نغوص فيه طوال الشتاء، إن ذلك يصيب الحي كله" (المستنقع، ص 310)، وتزداد الأوضاعُ سوءًا "عندما يأتي الصيف ويثور الغبار، ويكثر البرغش، وتنتشر الملاريا، وتعمّ الأقذار والروائح النتنة، فإنَّ السكان جميعًا يعانون من هذا البلاء على قدم المساواة" (المستنقع، ص 310)، أو لمجرّد ارتفاع درجة الحرارة "وانتشرت، مع الصيف والغبار، الأمراض التي هي جزء من حياتنا، مثل البرداء والرمد، وجفّت بعض أنحاء المستنقع وفاحت منها روائح كريهة، وتفشّى الجوع" (المستنقع، ص 317)، وأحيانا أخرى، بسبب المجاعةِ وما يُصاحبها "فتحت عينيَّ على هاوية العدم التي كنا منها على الشفير، وعلى المجاعة التي حملت الوباء إلى البلدة" (بقايا صور، ص 201)، أو بصيغ أخرى، مثل تناول ما يوقف نداء المعدة إلى الطعام. فعلى إثر المجاعة الشديدة التي ضربت سكان حي "الصاز"، التي دفعت ساكنيه لأكل أيِّ شيء مهما كان، بما في ذلك "البزاق"، فقط لإلهاء الجوع حيث "كانوا يأكلون "البزاق" ساخنا (...) لذلك أصابهم نوع من مرض غريب، من نتائجه القيء والإسهال" ( المستنقع، ص 356- 357).

-4-

 ولكن الإنسان من طباعه أن يُقاوم كلَّ صُنوف الأخطار التي تترصّده من كلّ جانب. وأمام كسل الأب ولامبالاته، إذ هو سكيرٌ، خاسرٌ، نزِقٌ، مغامرٌ، فاقدٌ لكل مشاعر الأبوة، بعيد كل البعد عن مواصفات الأب الحقيقيّ، ستظهر الأمُّ التي أُصيبت بالروماتيزم، في ظلِّ هذه الأزمة "ومن سوء الحظ مرضت الوالدة فانقطعت عن العمل. أُصيبت بالروماتيزم، وعادتها النخرة القديمة" (المستنقع، ص 404- 405)، لتأخذ على عاتقها إنقاذ أبنائها من هول الجائحة.

فجميع السكان محاصرون أمام زحف الأوبئة التي ستغدو- حسب تنوّعها- من الأمور المألوفة التي هي جزءٌ لا يتجزأ من حياة السارد، الذي يجد نفسه مجبرًا على التعايش معها كقدرٍ يُطارده، لأنَّها، ومن كثرتها، ستصبح أمرًا عاديًّا.

 إنَّ السارد، يسترجع ظروف تلك المعاناة وبقايا تلك الصور، ويعطينا فكرةً عن بعض الحلول التي لجأ إليها المواطن السوريُّ في مواجهة الأوبئة التي كانت تحيط به. ولنا أن نتخيّل: ماذا بوسع الأسرة أن تفعل في وضع كهذا؟ ماذا بوسعها أن تفعل في ظلِّ حياة البؤس والشقاء هذه، سوى مجابهة الحالة بطرقٍ بدائيّةٍ عقيمةٍ، وصلت أحيانًا إلى حلول أشد بشاعة. 

ومن طرق المواجهة، يذكر السارد/ الطفل: "كنت، في الضحى أزحفُ إلى الشّمس الحارة وأنا أرتجف من البرد برغم حرارتها، حتى إذا مرت نوبة البرداء تلتها نوبة الحمّى، فأزحف ثانية باتجاه أمّي المريضة وأندسّ إلى جانبها في الفراش" (بقايا صور، 241.)، وأيضا: "وسنستعين بأوراق الكينا نغليها ونشربها" (بقايا صور، 242)، و "أمَّا الرمد فقد داويناه بذرور يشبه الفحم الحجري، جاءنا به الوالد من حكيم شعبي شيخ" (بقايا صور، ص 242).

بل وصل الأمرُ، أمام تعذّر العلاج إلى شرب البول، "والعلاج الذي كان يستخدمه الفلاحون واستخدمناه هو البول. لقد شربنا بولنا. نعم وا أسفاه ! حدث ذلك. شربنا بولنا! كنت أبول في كوب وأضعه في العراء ليتسحّر، وفي الصّباح أشربه" (بقايا صور، ص 242)، وعندما سيبلغ تفشّي الأوبئة والأمراض ذروته، ويشتدّ لهيبُها، ستلجأ السلطات إلى فرض إجراءاتٍ وقائيّةٍ صارمة. "فانهدّت قوى النّاس وخاصّة الأطفال والشيوخ، وفقدوا الشهية، وانطرحوا في البيوت، ودبّ الرّعب في الحيّ أن يكون ذلك المرض هو الكوليرا، وبلغ الخبر البلدية ففرضت حجرًا صحيًّا على الحيّ" (المستنقع، 357).

إنّ تفشي الأوبئة، أسهم في تعتيم الصورة العامة للروايتين، كما زاد من قتامتها بشكلٍ لافت. ولعلّ لجوء السّارد إلى تسجيل كلِّ تلك التفاصيل، وفق قالبٍ سرديٍّ مباشر، أسهم في جعل الرواية تترسّم مسار السارد من جميع النواحي، إلى جانب الفقر والمجاعة وتمرد الأب اللامبالي. 

-5-

إنَّ ثقل هذه الصورة غذّى بقية الصور الأخرى وأسهم في تعميق جروحها وندوبها في نفسية السارد، إنَّها صور الفقر، والوحدة، والبؤس، والتشرد، والخوف ... ترسانة من الصور السلبيّة المتناسلة والمتعالقة فيما بينها. ينضاف إليها الصورة التي حاولنا لفت الأنظار إليها، باعتبارها منتجةً لبعضٍ منها. ولكن، رغم أنَّ الروايتين تغتنيان بالصور السلبيّة التي تُرخي ظلالها على امتداد جميع الصفحات تقريبًا، إلا أنّ ثمة صورًا أخرى إيجابيّة؛ صور الشجاعة، والجرأة، والتحدي، والصمود، والمقاومة... التي أسهمت في نجاة الأسرة رغم كلّ ما مرّت به، والتي أسهمت، أيضًا، في تخصيب خيال حنّا مينة ليُصبح كاتبًا كبيرًا.

استرجاعٌ توثيقيٌّ لأحداثٍ ووقائع متوالية، يعطي القارئ تصوّرًا عن أوليات التعامل مع الأوبئة التي ضربت البيئة السوريّة آنذاك، كما هو تعريفٌ بتلك الإجراءات "البدائيّة" التي كانت متبعةً وقتذاك في مجابهة هذا النوع من الكوارث، حيث يحضر الجانبُ الإنسانيُّ الجمعيُّ بين أفراد الأسرة في محاولات يائسة للمواجهة والصمود. 

إنَّ قيمة المادة الرواية المتعلقة بالأوبئة والأمراض التي ترصدها الرّوايتان، لا تكمن، بالنسبة لنا، في المتعة الأدبيّة التي نُحصّلها عند القراءة، ولا في نظرتنا إليها كوثائق تسجيلية لأحداثٍ مضت وولت فقط،  ولكن في معرفة استعداد الإنسان لمواجهة مثل هذا النوع من الأوبئة عندما يطفو على السطح، ما دامت تعود لتواجه الإنسان اليوم. ومن مهام الكاتب أن ينشغل بمجتمعه، فهو يحذر ويرشد، وأحيانًا يستشرف المستقبل، لتجنب مواجهة كوراث مررنا بها في مرحلة ما، أو على الأقل الخروج منها بأخفِّ الأضرار. 

  

هوامش:

-باحث بسلك الدكتوراه. مختبر العلوم الإنسانية والمعرفية والدراسات النصية (الرشيدية).

-بقايا صور، حنا مينة، دار الآداب، الطبعة الثّامنة، 2008.

-المستنقع، حنا مينة، دار الآداب، الطبعة السابعة، 2003.