قراءةٌ دلاليّةٌ تأويليّةٌ في قصيدة (أيام الحب السبعة) لمحمود درويش

ليث سعيد الرواجفة 

كاتب وناقد أردني

يُعدّ عنوانُ القصيدةِ من أهمِّ العتباتِ النصّيّة التي يُمكن من خلالها الولوج إلى عوالم النصِّ وفضاءاته ودلالاته، وفهم العنوان يساعد في تأويل تراكيب القصيدة ومفرداتها. إنَّ عنوانَ هذه القصيدة مُفارِقٌ للمتوقع، ومُدهشٌ، وقد كسر أفق التوقع حين انزاح عن المألوف الذهنيّ واختار مفردة (الحب) لتحلَّ مكان مفردة (الأسبوع)؛ فالقارئُ معتادٌ على تركيب: (أيام الأسبوع السبعة)، أمَّا كلمة (الحب) فلها دلالاتها المتشظيّة، وارتباطاتها المُنسجمة مع متن القصيدة على مستويات البناء الفنيّ، والدلاليّ؛ فمن الناحية الدلاليّة نجد إسقاط الحب على الأيام قد حدّد نوعيةَ هذه الأيام، مما يحيل إلى أنَّ الحبَّ موجودٌ في سبعة أيام من أيام الأسبوع، وبذلك يكون الحبُّ مستمرًا دون انقطاع على مدار العام. ومن ناحية البناء الفنيّ نجد أنَّ هذه القصيدة تحتوي على سبعة مقاطع، ولكلِّ مقطع (عتبة) يوجد عنوانٌ خاصٌّ به يرتبط بيومٍ من أيام الأسبوع، وكل عنوان من هذه العناوين يشير إلى أسطورة، أو قصة شعبيّة، أو حالة طبيعيّة، أو تاريخيّة يوظفها الشاعر لعرض متن المقطع، وتترابط المقاطعُ فيما بينها لتشكّل معًا متن القصيدة وبنائها على المستويات الفنيّة والدلاليّة والموضوعاتيّة. وهذه العناوينُ الفرعيّةُ هي: 

الثلاثاء: عنقاء                       أُسطورة الخلود

الأربعاء: نرجسة                     قصة شعبية

الخميس: تكوين                     قصة خلق الكون

الجمعة: شتاء آخر                  حالة طبيعية

السبت: زواج الحمام                 أسطورة سومرية

الأحد: مقام النهوند                  حالة حب

الاثنين: موشح               قصة حنين إلى الماضي

وفيما يتعلق بدلالة ترتيب هذه الأيام، وبداية القصيدة بيوم الثلاثاء دون غيره؛ يرى الباحثُ أنَّ لمحمود درويش زمنه الخاص، كما أنَّ يوم الاثنين له ارتباطات إسلاميّة، وقرنته القصيدة بالموشح، وهو حكاية الماضي والحنين، وجاء هذا اليوم في آخر القصيدة وخُتمت به. كما أنَّ هذه البداية كعنوانٍ للقصيدة؛ قد خرجت عن المألوف، وكسرت أفق التوقع، وكأنَّ الشاعر يريد أن يوصل خطابًا متحرّرًا من قيود الزمن وديناميكيته وسلطته بشكل غير مباشر، وإيصال رسالة دلّت عليها عملية تأويل أول يوم من أيام الحب السبعة الذي بُعث فيه (عنقاء) من الاحتراق بالآلام، هذه العنقاءُ هي (الحب)، وهذه الأسطورةُ كان لها اتصالٌ وثيقٌ بمقاطع القصيدة وباقي أيام الأسبوع. فدرويش من خلال هذه القصيدة، وبعد إعادة توزيعه لأيام الأسبوع، وربطه لكل يوم بخطابٍ حكائيٍّ أو أسطوريٍّ محدّد؛ يطمح إلى تأسيس إنسانٍ جديد، فما هو هذا الإنسان؟ 

أولاً: تنازع دلالة القصيدة بين (الرعويّة والفلسفيّة) و(الأيروسيّة والإيروتيكيّة)

تمتازُ الرعويّة بمظهرٍ إبداعيّ متغلغل في الخطابات الشعريّة؛ ذلك أنَّ اهتمامها بالزمن هو ما جعلها أولاً وقبل كلِّ شيء عالميّة في طابعها، فواحدة من أعمق الغرائز المتجذرة في البشر هي الادعاء بالانشغال الشديد بالعالم الماديّ، ولكن الحقيقة الغائبة أنَّ الإنسانَ دائمُ البحث عن مهرب من الحاضر الذي يغمره إلى ماضٍ نقيّ، أو مستقبل مجهول ينقذه( )؛ وهذا هو الجانبُ الرعويُّ في قصيدة (أيام الحب السبعة) التي عادت بالمتلقي/ القارئ –باختلاف عرقه ولونه ودينه وثقافته وجنسه-  إلى الماضي النقي في سرديةٍ أسطوريّة جديدة غير مألوفة بين الأيروسية (مشاعر الحب)، والإيروتيكية (مشاعر الجنس)، هذه السردية التي دمجت بين الذكر والأنثى بوصفهما (إنسانًا) يحملان في داخلهما بذرة الحب في مقطع يوم الثلاثاء: عنقاء، ومقطع يوم الأربعاء: نرجسة. بعد ذلك أخذ (الإنسان) بالانفصال الجندريّ، والتوحد العاطفي، واحتياج الأنا للآخر في مقاطع القصيدة التالية؛ فقد ظهرت تفاصيل المشاعر الإيروتيكية في مقطع يوم الخميس (تكوين)، ومقطع يوم الجمعة: شتاء آخر، ومقطع يوم السبت: زواج الحمام. لتعودَ مشاعرُ الحب في مقطع يوم الأحد: مقام النهود، ومشاعر الحنين في مقطع يوم الاثنين: موشح. 

لنعيد تركيب ما سبق ذكره، بدأت القصيدة بانبعاث عنقاء (الحب) الكامنة داخل الإنسان بعد احتراقه بالآلام والاختلافات والنزاعات، فهذه العنقاء بمثابة الروح التي ستسكن جسد الإنسان الجديد، ذلك النقي الذي يوازن بين عواطفه (الروح/ الحب)، ورغباته (الجسد/ الجنس)، ويدمج بينهما بموضوعيّة دون توحش، أو غرائزيّة عمياء. وتتسم هذه الروح بالنرجسيّة والحرية المتخلصة من أيِّ قيودٍ ثقافيّة أو دينيّة، وبالرغم من كل هذه الحرية إلا أنَّها تشعر بالنقص والاحتياج، وأنَّها من دون (الحب) لن تتمكن من المضي قُدمًا وستبقى محاصرةً في نمطية تكراراها، ومخاتلة صورتها ضمن لعبة المرايا، وعند هذا الإحساس تظهر (الإيروتيكية) التي تستدعي الآخر لإكمال الأنا، والتوحد معه بفعل إحساس الحب (الأيروسية)؛ فالعلاقةُ بين السماء والأرض كالعلاقة بين الرجل والمرأة، فالسماء تبدو رمزًا للذكورة، والأرض رمزًا للأنوثة، والمطر هو التخصيب، وله دورٌ أساسيٌّ في استمرارية الحياة (على المستوى المجازي في القصيدة، والمستوى الحقيقي خارجها)، وعند هذا الانفصال الجندري يظهر في الخطاب الشعري حوارية بين طرفين لا ثالث لهما: (الذكر، الأنثى) يستجدي الأول -برومانسيّة عاطفية- بقاء الثاني وعدم الابتعاد عنه ليتحول حلم الاكتمال، والتزاوج، والاندماج، والخلود إلى حقيقة. ويتحقق ذلك بشكل ظاهر في مقطع يوم السبت: تزاوج الحمام، وتبرز أطراف الحوارية بصورة جلية؛ فالمتكلم المتوسل هو الذكر، والمستمع المدلل هو الأنثى: "أنا السحاب، وأنتِ الأرض". وبعد تحقق الرغبة الجنسية (الإيروتيكية) عادت مشاعر الحب (الأيروسية) التي صرّح بها صوت المتكلم (الذكر)؛ فهو يطلب من الأنثى أن تقترب منه لأنَّه دائمًا بحاجة إليها، ويُصرّح بأنَّه لا كمال ولا خلود أو استمرارية بدونها. ثم تُختم القصيدة بسمو الحب على الجسد، فالحب يجعل الاثنين (الذكر والأنثى) واحدًا، والآخر جزءًا لا يتجزأ من الأنا. أمَّا الحديثُ عن الأندلس ودمشق فهو مجازٌ يصوّر قيمة الحب القادر على جمع الجغرافيا المادية مهما كانت متباعدة، وسبب الحنين الدائم هي سمة العاشق المُحب الذي لا يخاف من أيِّ شيء، فكأنَّه آخر الحرس فلا يجرؤ أحدٌ على معارضته، أو شاعر يتمشى في هواجسه فلا أحد قادر على اختراق هذه الهواجس والتأثير عليها.

وبعد اكتمال بناء القصيدة على المستويات الفنية والموضوعاتيّة تدخل (الفلسفة) لتثبت جميع النتائج التي توصلت إليها القراءة الدلالية التأويليّة؛ فجميع هذه النتائج ذات ارتباطات وثيقة بفلسفة النزعة الإنسانية، وبالفلسفة الوجودية بشقها الإيجابي، كما أنَّ خطاب القصيدة يُقدّم حُلمًا حول هيئة الإنسان الجديد المعجون بطينة الحب، والقادر على الموازنة بموضوعية بين عواطفه وشهواته، مما سينعكس –مستقبلًا- على سلوكه، وطريقة تفكيره، ونظرته للآخر، وهو ما سيترك أثره على الحياة بأكملها. 

ثانيًا: دلالةُ تقويض المركزيات عبر استحضار الهامش والأسطورة. 

إنَّ أنانيةَ الإنسان، ونرجسيته السلبية قد أحرقته، وأودت به إلى الانشغال بنفسه، والاقتتال مع أبناء جنسه، والاعتداء على الطبيعة، ونسيانه لإنسانيته، وتسابقه مع الزمن (أيام الأسبوع)، وتجرده من عواطف الحب. وجاءت هذه القصيدة لتعرّي، وتفكك، وتقوّض كل أشكال الانحطاط الإنساني عبر نصوصٍ غائبة، وسردياتٍ مُهمَّشة تُنبهه إلى سرِّ الخلود الحقيقيّ بطريقة غير مباشرة. فالإنسانُ بطبعه ثوريٌّ؛ ثار على العقائد، وعلى جنسه، وأوجد أساطيرَ حول نفسه، فأصبح ينظر إلى نفسه على أنَّه مركز هذا الكون، وقادر على تشكيله كما يشاء بذرائعيات منفعية، في غفلة منه عن كينونته الأصلية -بمفهوم مارتن هايدغر (Martin Heidegger)؛ لذلك جاء خطاب القصيدة ليركز على طرفٍ مهمّشٍ مُقصى (الحب/ الإنسانية)، فتحولت مركزية خطاب القصيدة (داخل النص)، ومركزية الوجود الإنساني (خارج النص) نحو ما يُنظر إليه على أنّه هامش أو رفاهية زائدة (الحب/ الإنسانيّة)؛ فالنسقُ الشعريُّ اتخذ من الهامش الغائب مركزًا في بنائه (البناء الفني)، واتخذ من النسق الوجودي الإنسانيّ –وهو هامش في الحياة- مركزًا في خطابه (البناء الموضوعاتي). وعملية القلب العكسي بين المركز والهامش تمت عبر استدعاء النص الغائب رغم حضوره النسبي، في محاولة استنطاق فلسفية تغوص في أعماق الموجودات (المادية)، لتصل إلى موجودات غير مرئية (عاطفية) بات الإنسان جاهلًا بها. 

وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ الأسطورة في هذه القصيدة لم ترد كما هي في أصلها، بل جاءت بطرق مُغايرة تسببت في تقويض المركزيات التي جاءت هذه الأساطير لإثباتها، وتسببت في استحضار الهوامش؛ فمثلًا أسطورة (نرجسة) وهي أسطورة الأمير (نرسيس) قد انزاح النصُّ في تقديمها وتوظيفها، فقد وظّف النصُّ هذه الأسطورة لتصوير أنثى تائهة (الروح) وهي تبحث عن صورتها الحقيقية، على العكس من نرسيس (الذكر) الذي كان مغرمًا بنفسه بعد أن رأى صورته في الماء، ووجد في نفسه الكمال. وهذا التوظيفُ الأسطوريُّ من شأنه تقويض مركزية الإنسان النرجسي الأناني، والفاقد للحب، واستيعاب الآخر. وهو ما ينطبق على أسطورة الخليقة السومرية (إنوما إليش) التي جعلت من (اتحاد) السماء والأرض سببًا في ولادة (انليل) وهو إله الهواء في الحضارة السومرية؛ بينما نجد القصيدة قد وظفت هذه الأسطورة ليس بهدف الاتحاد بين السماء والأرض، وإنَّما بهدف (تزاوج) الذكر والأنثى، وهذا الانزياحُ في التوظيف الأسطوريّ قد خلخل مركزية الإله (انليل) والحاجة إليه، فالإنسانية بحاجة إلى (حب)، وهي بغنى عن (إله) الهواء الذي نُفي وجوده وفق الأسطورة الجديدة الموظفة في القصيدة. فالتناصُّ الأسطوريُّ في القصيدة هو تناصٌّ مُفارِق. 

ثالثًا: دلالةُ البنية النصّيّة والسرديات الغائبة. 

هنا تحاول القراءة الإجابة عن سؤالٍ مركزيٍّ مهم وهو: كيف بنى الشاعرُ نصَّه؟. جاء النصُّ ضمن سياقين أحدهما ظاهر ومباشر من خلال خطاب (الحب) و(التزاوج)، والثاني خفيُّ يستحضر الهوامش والسرديات الغائبة عبر توظيف الأسطورة، وهذا الخطاب يُنذر بكل ما يهدّد وجود الإنسان الذي يسير في طريق كتابة عدمه وزوال حلم الخلود. هذه القضايا المركبة المتناثرة بالنصوص في مقاطع القصيدة السبعة تتضام وتندمج في النصِّ الكبير الكليّ (أيام الحب السبعة) في علاقات واضحة أهمها الرابط المعجميّ الذي يكرّر المفاهيم بأشكال متعددة، ويبدو مفهومًا أنَّ جدلية الإنسان والحب من أكثر الروابط المعجمية قوة بين القضايا المركبة في النص. وتتعدد أنواع الروابط ومنها الدلالة المكانيّة البارزة منذ بداية النصِّ الذي انطلق من عش العنقاء الحامل لدلالات الرحم (مجازًا) بهدف استنطاق المكان الحقيقي (الأرض) للبوح عن المجهولات العاطفية غير المرئية، والبعيدة عن المادية، لتختم القصيدة مقاطعها بالمكان المفقود (الأندلس) الذي تم خسارته بسبب خسارة الحب. ودلالة التضاد التي تجلّت في جدلية الثنائيات الضدية ومن هذه الثنائيات: (البقاء/ الفناء، الوجود/ العدم، الظهور/ الاختفاء، اليقين/ الشك، الحلم/ الواقع، تذكر/ نسيان، أنا/أنت)، وغيرها. والدلالة الزمانيّة التي كانت بمثابة الرابط الذهني الذي انتقل بخيال المتلقي/ القارئ إلى مقاطع القصيدة التي بدأت حواريتها في عالم لاوعي الإنسان (عش العنقاء)، وصولًا إلى التحذير من خطر الفناء والزوال (الأندلس).