موتُ الأدبِ الرقميّ: العلاماتُ والاحتمالات

د. أحمد زهير الرحاحلة

كاتب وناقد أردني

 

يُدركُ كثيرٌ من الباحثين المتعمقين في الأدب الرقميّ أنَّ نظرية "موت الأدب الرقمي" كانت إرهاصًا مبكرًا رافق هذا الاشتغال، وهاجسًا راود المبدعين والنقاد على حد سواء، ومع أن الأدب الرقميّ ما زال في أطواره الابتدائية، ولم ينته من غمار التجريب والمحاولة إلا أنَّ فرضيات موت الأدب الرقميّ وعلاماته واحتمالاته رافقته في هذه الأطوار، وما زالت.

للآن، يمكن القولُ إنَّ أيَّ حديثٍ عن موت الأدب الرقميّ سيبقى في حدود المعنى المجاز، ولن يصل قريبًا إلى حالة التحقّق الفعليّ، وهذا ما يتطلب إلقاء مزيدٍ من الضوء على أبعاد النظرية، للوقوف على أبرز العلامات والاحتمالات المتصلة بها، والخوض في مثل هذا الأمر يتطلب ابتداءً إدراك أنَّ الحديث عن علامات موت الأدب الرقميّ واحتمالاته لا ينفصل عن حقائق متصلة بجوهر الأدب الرقميّ ذاته، وأبرزها أنَّ العلامات والاحتمالات تختلف في تحققها باختلاف التمظهرات التي تندرج تحت تشكيلات الأدب الرقميّ المتعددة والمتجددة أيضًا، وتتفاوت في حضورها من عمل إلى عمل – حتى ضمن التشكيل الواحد – باختلاف مستويات التوظيف التقني والبرمجيات المستخدمة والسياق التكنولوجيّ الحاضن.

إذا قمنا بتبسيط الأدب الرقميّ إلى أقصى حدٍّ ممكن، فيمكن القول إنّه عملٌ فنيٌّ يتأسس من ثنائية (الكلمة – التقنية)، وإذا تجاوزنا "الكلمة" ومتعلقاتها، وتوقفنا عند "التقنية" فإنَّ العلامة الأبرز والأخطر في نظرية موت الأدب الرقميّ من جهة التقنية تتمثل في جانبين: جانبيٍّ داخليٍّ، وجانبٍ خارجيّ، وكلاهما يمتدُّ بسببٍ للآخر، وفيما يلي إطلاله موجزة على أبرز ما يتصل بكلا الجانبين:

على المستوى الداخليّ، نجد أنَّ التحديث والتجديد المستمر والدائم للبرامج والتطبيقات التقنية يدخل في صميم بناء الأعمال الأدبيّة الرقميّة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنَّ التسارع في التحديث والتجديد عامل يتناسب طرديًّا مع احتمالات موت الأدب الرقميّ، فكلما زادت وتيرة التحديث على مستوى التطبيقات والبرامج زادت احتمالات نظرية موت الأدب الرقميّ، أمّا العنصرُ الأخطرُ في المعادلة فيتمثل في توقف أحد البرامج أو التطبيقات وانتهائه.

إنَّ ما سبق بيانه ليس أمرًا جديدًا تمامًا، فقد سبق أن أشار إلى ذلك عددٌ كبيرٌ من النقاد والمهتمين بالأدب الرقميّ، ومن أوائل من أشار إلى ذلك "كاثرين هايلز""Katherine Hayles" وهنا لا بدَّ من الوعي بمفهوم الأدب الرقميّ كما تراه "هايلز"، وفي هذا السياق ترى أنَّ الأدب الرقميّ سيصبح غير ذي جدوى في الاستخدام في غضون عشر سنوات أو أقل، بسبب «الطبيعة المتغيرة لوسائل التواصل والإعلام». وبالتالي فإنَّ الأدب الإلكترونيّ سوف يخاطر بفقدان فرصة بناء تقاليد مرتبطة بالأدب، ونسوق مثالًا يوضح خطورة المسألة وفداحة نتائجها من خلال برنامج "Adobe Flash Player"، فهذا البرنامج مشهورٌ جدًّا، ودخل في تصميم ألعاب الكمبيوتر بصورة مذهلة خلال العقدين الأول والثاني من الألفية الجديدة، وهو ما جعل كثيرًا من مبدعي الأدب الرقميّ يعتمدون عليه في إنتاج كثيرٍ من أعمالهم الرقمية، لكن زيارة لموقع منظمة الأدب الإلكتروني – بوصفها منظمة رائدة في الأدب الرقمي – بقصد الاطلاع على التجارب الرقمية المرفوعة على موقع المنظمة؛ يكشف أنَّ ما يقارب من ثلاثة أرباع الأعمال المرفوعة لم تعد متاحةً ولم يعد بالإمكان الوصول إليه لسبب بسيطٍ هو انتهاء برنامج "أدوبي فلاش بلاير" وتوقفه عن العمل.  

فقد وصل برنامجُ تشغيل الوسائط الشهير، المكون الإضافي للمتصفح الذي جلب رسومًا متحركة غنية وتفاعلية إلى الإنترنت المبكر، إلى نهاية عمره رسميًّا في نهاية عام 2020، وكانت الضربةُ القاضية لتقنية فلاش في عام 2014 عندما تم إصدار( HTML5)، وهو برنامج يسمح بالعديد من الوظائف نفسها مثل( Flash ) ولكنَّه لا يطلب من المستخدمين تثبيت أيّ مكونات إضافية. وفي تموز من عام 2017، أعلنت شركة" أدوبي " أنَّها ستوقف برنامج فلاش في عام 2020 وقدمت إرشاداتٍ لإزالة فلاش من على أجهزة الكمبيوتر، التي تعمل بنظام( Windows و Mac)، وذلك عبر موقعها على الإنترنت، وقد حذرت من أنَّ "إلغاء تثبيت برنامج فلاش سيساعد في تأمين نظامك، لأنَّ "أدوبي" لا تنوي إصدار تحديثات للبرنامج أو تصحيحات أمان، بعد تاريخ انتهاء عمره الافتراضي".

أمام هذه العلامة والاحتمال لموت الأدب الرقميّ، فإنَّ البحث عن حلٍّ يصبح أمرًا ملحًا، وقد يكون ذلك من خلال مشاريع الحفظ والأرشفة مثلًا، لكن ذلك ما زال عملًا غير متحقق إلا على مستويات محدودة جدًّا، كمبادرة (PAD) للحفظ والأرشفة والتوزيع التي أطلقتها منظمة الأدب الإلكتروني للعمل من أجل جعل الأدب الإلكتروني متــاحًا للأجيال القادمة، لكن هذا الأمر يثير مجموعة كبيرة من الأسئلة التي تحتاج إلى بحث في إجاباتها، ومنها: هل يدرك الأُدباءُ الرقميون أبعاد المسألة؟ وهل يقومون باستمرار بتحديث الأعمال التي أنجزوها وطالها التقادم التكنولوجيّ؟ 

يمكن القول إنَّ ذلك لم يحدث إلا في حالات نادرة جدًّا، فكثير من الأعمال الإبداعيّة الرقمية التي مرَّ عليها عدة سنوات –قد تصل إلى عقدين أحيانًا- لم يقم أيٌّ من مبدعيها بإعادة إنتاجها ضمن التقنيات الأحدث، فمثلًا، مع أن برنامج فلاش توقف منذ قرابة العامين إلا إنَّ رائد الشعر الرقميّ "روبرت كاندل" لم يقم بإعادة إنتاج أي من أعماله الشعرية التي ضاعت بعد توقف البرنامج الداخل في تصميمها.

أمَّا على المستوى الخارجيّ، فإنَّ علامةً أخرى واحتمالًا آخر يمثّل صورةً من صور موت الأدب الرقميّ يتبدّى في حالات الموت التقني المفاجئ، وهو عاملٌ خارجيٌّ يعني حرفيًّا فقدان العمل كاملًا لأيِّ سببٍ من الأسباب، كأن يتعرض العمل للحذف والإزالة بفعل خطأ تقنيّ، أو عمل تخريبيّ وقرصنة، أو توقف الموقع المستضيف وتلاشيه، أو تغيير سياسات الاستضافة، أو مشكلات الحفظ والتخزين والتشغيل والنشر، وهنا يجد المبدعُ نفسه مطالبًا بمتابعة دائمة وحثيثة لأعماله، والاستعداد لتقديم المقابل الماديّ وغير الماديّ لضمان الوجود الفعلي لعمله ضمن تحدياتٍ لا تنتهي أبدًا.

ومن ناحيةٍ متصلة، تصبح الثقافةُ التكنولوجيّة، واكتسابُ المهارات والمعارف الإلكترونية المتجددة حاجةً أساسيّةً لكل مبدع رقميّ، فالكلمة في هذا المقام لم تعد تكفي لمثل هذا الإبداع، والموهبة الأدبية وحدها لن تسعف المشتغلين في هذا الباب، وبذلك تصبح الأميّةُ الرقميّة، وضحالةُ التحصيل التكنولوجيّ علامةً من علامات موت الأدبي الرقميّ، واحتمالًا قائمًا من احتمالاته، ومهما بدا أنَّ الاستعانةَ بأطرافٍ أخرى يمثّل حلًا، إلّا أنَّ بعضَ تشكيلات الأدب الرقميّ لن يُكتب له أي ديمومة ما لم تتصل اتصالًا وثيقًا بمبدعها.

علامةٌ أخرى تتصل بالمستوى الخارجيّ تتمثل في مفهوم "المؤلف المتعدد" الذي تتطلبه بعض نماذج الأدب الرقميّ، وخاصةً التفاعليّة منها، بحيث يصبح العمل بحاجة إلى مجموعة مشاركة فيه غير المبدع، فإذا استثنينا من الحديث فئة المبرمجين والمصمّمين والتقنيين ...الخ - على ما لهذه الفئات من دورٍ محوريّ- واكتفينا بالوقوف على دور المتلقي ضمن وضيفته الجديدة في الأدب الرقميّ وتحوّله إلى مؤلف مشارك، سواءً الوظيفة التي أشار إليها "اسبين آرسيث" أو غيره، فإنَّ وجود المتلقي/ المؤلف ما زال بعيدًا جدًّا عن التحقّق الفعليّ، ولو تحقّق وجوده فإنَّ تدخله الحقيقي في العمل سيجعله يبقى عملًا قيد الإنجاز، وهو أمرٌ لا يمكن لأيِّ مبدعٍ الزعم أنَّه قادر على مجاراته، ولو أنّه فعل، فإلى أي مدى سيفعل ذلك؟

على نحو ما سبق، يبدو أنَّ محاولةَ إرساء قواعد ثابتة للأدب الرقميّ أمرٌ بعيدُ المنال، بل أمرٌ يخالف حتمية التحديث والتجديد الدائم التي يتصف به عنصر أساسيّ من عناصر هذا الأدب، العنصر التكنولوجيّ، ومع ذلك فإنَّ الأمر لا يعني نهاية الأدب الرقميّ، وإنما يتطلب من المنخرطين في هذا الحقل إدراك الحقيقة التكنولوجيّة والإكراهات التي تفرضها على الجزء الأدبيّ المندغم فيها، وهو أنَّ الأعمال الأدبيّة الرقميّة لا تستطيع أن تحقّق الخلود والديمومة التي سبق –تاريخيًّا- أن حقّقتها أعمال أدبية عديدة، فالعملُ الأدبيُّ الرقميُّ عملٌ سيبقى دائمًا غيرَ ناجزٍ وغيرَ منته، ويتطلب إعادة كتابته إلكترونيًّا مرات عديدة بعدد مرات التحديث والتجديد التي تجري للتطبيقات والبرامج؛  وهو الأمرُ الذي لا يعلم أحدٌ عند أيِّ حدٍّ يمكن أن يقف، ولا يُتوقع له ذلك أصلًا.

ما سبق غيضٌ من فيض، لكن هذا الواقع لا يعني التوقف عن إبداع الأدب الرقميّ، وإنَّما يتطلب الوعي بهذه الحقيقة أولًا، ثم يتطلب التفكير في آليةٍ لحفظ هذه الأعمال من الضياع والفناء، وأخيرًا التخطيط لمواكبة التحديثات والتجديد والمخاطر الخارجية التي لا تنتهي. وبطريقةٍ أبسط؛ ولإدراك الأبعاد الحقيقية لنظرية موت الأدب الرقميّ، ينبغي على المبدع أن يسألَ نفسه: كيف سيكون عملي بعد 10 سنوات من الآن؟ كيف سيكونُ بعد 50 سنة من الآن؟ إلى ماذا سينتهي بعد رحيلي عن هذه الحياة؟!.