تدريبُ المترجمين وعواملُ 'الكفاءة' الترجميّة في الوطن العربيّ: الأردن مثالًا

تدريبُ المترجمين وعواملُ 'الكفاءة' الترجميّة في الوطن العربيّ: الأردن مثالًا

د. محمد أمين الحوامدة

جامعة جرش، الأردن

لعلَّ الكفاءةَ في أيٍّ من شؤون حياتنا بوجه عام هي القدرةُ والخبرة، حيث الأولى امتلاك الموارد والثانية حسن استخدامها. وينطبق هذا التعريف بشكل أو بآخر على موضوعنا من الكفاءة الترجميّة (Translation Competence) فنقول إنَّها المعرفة التامة بلغة ما في مجتمع كلاميّ متجانس (تشومسكي، 1965) أو الإلمام بلغة أو لغات ثانية أو أجنبيّة تسمّى بالهدف (نيوبرت، 2000). إلا إنَّ إدراج جوانب أخرى كتلك الثقافيّة والبحثيّة (بيم، 2003) وغير ذلك مما يضطلع به المترجِم من مهام تستلزم أدوات تقنيّة ما وصفات شخصية معينة ضرورة لاستكمال ذلك التعريف. وعليه يُمكن القول إنَّ الكفاءة في الترجمة هي منظومةُ الكفايات والمعارف والمهارات والسلوكيات اللازمة للعاملين في هذه الصناعة الحيويّة (أنظر، PACTE, 2011)، لا سيّما في ظلِّ التقارب الواسع بين الأمم، وبالتالي تزايد الطلب على خدمات الترجمة والحلول اللغويّة. وحيث كان الاهتمام بالمترجمين (أو طلبة الترجمة) وفق ما يتوقعه منهم أرباب العمل أمرًا لازمًا، فقد سعينا في هذه المقالة إلى بيان العوامل الأساسيّة والمساندة المؤثرة في تدريبهم وصولًا إلى مستوى الكفاءة بما يتلائم وميدان العمل العربيّ، لا سيّما في الأردن.

وقبل البدء بالحديث حول تلك العوامل، نرى من الأهمية بمكان عرض منهجية المشروع البحثيّ الذي كتبنا هذه المقالة بناءً عليه. فبعد أن استقصينا الأدب السابق فيما يرتبط بمفهوم الكفاءة وتدريب المترجمين، قمنا باستطلاع رأي المعنيين من أساتذة الترجمة وخبرائها في الوطن العربي. حيث تم اختيار أحد عشر (11) أستاذًا أو خبيرًا من الأردن وبعض البلاد العربية (كمصر وفلسطين والعراق) ممن أسهموا في أنشطةٍ اطّلعوا من خلالها على التحديات المحتملة والتقنيات الممكنة في مجال تدريب المترجمين. وتمثلت أداة البحث بنموذج مقابلة تم تطبيقه على المشاركين بالصبغة الشخصيّة أو الافتراضيّة في بداية العام الحالي 2022، تضمن أسئلة مفتوحة طُلب منهم الإجابة عليها وفق معرفتهم بمفهوم الكفاءة الترجميّة و\أو تجربتهم في تدريب المترجمين. ووجدنا أنَّ تدريب المترجِم (العربيّ) يتحقّق بمساقات قصيرة الأجل بخطط دراسيّة متجددة تقوم على عاملين أساسيين؛ هما اللغويّ والثقافيّ، وممارسات طويلة الأجل ببرامج وتدابير حكومية تتمثل بعامليّ إسناد هما التقنيّ والشخصيّ.

أمَّا المساقات قصيرة الأجل فمثّلت الجانب التعليميّ من منظومة التدريب الخاص بالمترجمين، وتقوم على خططٍ دراسيٍّة متجددة باستمرار. حيث تُعنى هذه المساقات بالمنحيين اللغويّ والثقافيّ كعامليّ أساس، كان لكلٍّ منهما بندان اثنان. فكان العاملُ اللغويُّ مرتبطًا بسلامة اللغة الأولى؛ أي اللغة الأم؛ وهي العربيّة بالنسبة للمترجِم الأردني- مثلًا- وإتقان اللغة الثانية (أو الأجنبيّة) وهي الإنجليزيّة (أو الفرنسيّة كلغة مستخدمة بشكل ملحوظ في عدد من البلدان العربية). أمَّا العاملُ الثقافيّ، فتمثّل بمجموع المعرفة العامة التي يمتلكها المترجِم كمظلةٍ يؤدي ضمنها مهامَه في سوق العمل ثم الاختصاص في فرعٍ (أو فرعين مرتبطين) من المعارف كالنصوص القانونيّة والتجاريّة أو الأدبيّة والدينيّة أو السياسيّة والعسكريّة وهكذا. ولعلنا نعتبر أنَّ سلامة اللغة الأولى؛ أي الأم، ومجموع المعرفة العامة، هما أساس الأساس في وضع هذا التصنيف وتنظيمه، وأن إتقان اللغة الثانية والاختصاص المعرفي إسناد الأساس.

ولو أردنا قياس الكفايات اللازمة للمترجمين والمراد تطويرها في سياق الدراسة الجامعيّة، فقد نعتبر أنَّ المناهج الحالية لبرامج الترجمة تعزّز جوانب دون أخرى. فتجد على سبيل المثال المكوّنين اللغويّ والثقافيّ واردين بدرجات متفاوتة دون المكونات الأخرى كالتقنيّة أو الشخصيّة أو التخصّصيّة أو البحثيّة. فكانت تلك الأخيرة من تحديات تدريس الترجمة على المستوى الجامعيّ أو تدريب طلبة الترجمة عليها، مشيرين هنا إلى أربعة أنواع من طرائق التدريب هي: المحاضرات العلميّة كأطرٍ نظريٍّة، والتمارين العملية كجزء مهم من المساق، والملاحظات الميدانية التي يدوّنها الطلبة، والواجبات التفاعليّة بتغذية راجعة منهم. وفي هذا السياق اللغويّ والثقافيّ، فإننا نؤكّد على أهمية:

‌أ. تعزيز المساقات الأكاديميّة التي تُعنى بشكل أساسي بتدريس اللغة أو اللغات الأجنبيّة للأغراض الخاصة لطلبة برامج الترجمة.

‌ب. توفير الفرصة الكافية للمتدرب لتوسيع مداركه المعرفيّة؛ بما يؤثر إيجابًا على قدراته اللغويّة في الإبتكار لغويًا، وتعدد الخيارات اللفظية لديه.

وفي إطار آخر مرتبط، فقد كانت البيئةُ التعليميّة بحدِّ ذاتها أحدَ عوامل النجاح وتعزيز الكفاءة لدى المترجمين بحيث تقوم على أسس النقاش الجماعيّ والتفاهم المتبادل. ففي بيئة تفاعليّة وجاهيّة كانت أم افتراضيّة، يتحقّق لطلبة الترجمة فرصة مهمة أن يحدّدوا لأنفسهم مستوى الكفاءة اللازم الوصول إليه، فهم يحفّزوا أنفسهم ببيان مواضع الخلل أو القصور فيما يتلقونه من تدريبٍ لغويٍّ أو ثقافيٍّ ويضعوا علاجاتٍ ناجعةً لذلك. وإنَّ مثل هذه البيئات قد أعانت مجموعةً من الطلبة الأوروبيين على وضع طرق ملائمة للتفاعل فيما بينهم في نطاق افتراضيٍّ ما يتمثّل بمساق إلكترونيّ دوليٍّ متعدد الوظائف (انظر، كيتولا وأخرون، 2018). وباعتبار الترجمة عملية من عمليات صنع القرار حيث ترتبط بشكل مباشر بأنشطة عدة كحلِّ المشكلات مثلًا، فهناك علاقة بين دراسة الترجمة وعلم النفس. فنقول بإزدياد الكفاءة الترجميّة كلما زاد مدى الحافزيّة لدى المتدرب، ومن ذلك التدريب الموجّه المراد منه تحريك الطاقات لدى متدربي الترجمة نحو حاجات سوق العمل في المستقبل.

وأمَّا الممارسات طويلة الأجل فمثّلت الجانب التشغيليّ من منظومة تدريب المترجم العربيّ، وتقوم على برامج وتدابير حكومية بمجالس عليا. وتركّز هذه الممارسات على الجانبين التقنيّ والشخصيّ كعامليّ إسناد، كان لكل منهما بندان اثنان. فكان العاملّ التقنيُّ مرتبطًا بما استحدثه أهل الخبرة من أدوات الترجمة المسندة حاسوبيًّا وهي عديدة وذات جدوى كبيرة في تعزيز الإنتاجيّة وأيضًا محركات الترجمة الآلية. أمَّا الوجه الشخصيّ للكفاءة الترجميّة، وهو ربما المظهر الرئيس للعامل البشريّ في خضم الحاصل من تطورات تكنولوجيّة، فتمثّل بالمهارات الذاتيّة (أو الحياتيّة العامة أو الخاصة) في حلِّ المشكلات وترتيب الأمور والتنظيم في أيِّ مسألة، بالإضافة إلى إدارة المشاريع. ولعلنا نعتبر أنَّ تلك الأدوات الترجميّة المحوسبة ومجموع المهارة الذاتية هما أساس الإسناد في وضع هذا التصنيف وتنظيمه، بينما كان التمكن من محركات الترجمة الآلية ومهارة إدارة المشاريع بمثابة إسناد الإسناد.

ومما لا شكَّ فيه أنَّ الأدوات والمعدات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وهي اليوم إحدى مكوّنات العمل في مجال الترجمة يستعين بها الإنسان (إضافة إلى مهارات مختلفة أخرى) في تنفيذ مهامه. فنشير وخبراء الترجمة العرب إلى أهمية تعزيز المهارات التقنيّة والشخصيّة للمترجم؛ بما يلبي حاجات السوق فيما يتعلق بسلامة المنتج وكفاءة العملية على حدٍّ سواء. وفي ظلِّ ما يشهده العالمُ من تطورٍ تقنيٍّ يزيد من العبء الوظيفي على المترجمين في ضرورة التعلم المستمر ومواكبة كل جديد، كانت المهاراتُ المعلوماتيّة في سياق الترجمة، كالبحث في شبكة الإنترنت، أنشطةً معرفيًّة تتطلب ثقافةً عامة وقدرةً على اتخاذ القرار. فإذا كنا نرغب حقًا بتدريب طلبة الترجمة للعمل في اختصاصات مختلفة، فلا بد أن ينتقل تركيزنا من مجرد اكتساب المعارف (عامة أم خاصة) إلى تطوير تلك المهارات بما يسهم في حل المشكلات في أي من صنوف الخبرة العمليّة، وهو ما يعزّز بشكل تلقائي كفاءة المترجم (أو طالب الترجمة) في المكونات الأساسية كالقراءة النقدية والكتابة النوعية بمختلف أشكالهما.

وعودًا بنا إلى الجانب التقنيّ أو التكنولوجيّ في مختلف صناعات العالم منها الترجمة، كان لزامًا إعادة النظر في مفهوم الكفاءة للمترجِم العربيّ في خضم التغيرات المتسارعة والمستجدات. فنجد أنَّه من الأهمية بمكان تحديد مسارٍ "كفئوي" يرتبط بالعامل البشريّ يستطيع به منافسة تلك الآلات: كهدفٍ يُراد تحقيقه، يتمثل عمومًا بإضافة لفظ "الإنسان" للكفاءة الترجميّة. ولعلَّ الممارسات التعلميّة التي يتم تصميمها لإدماج الترجمة الآلية في برامج التدريب تزيد من وعي الطلبة بمفهوم الاحتراف الحقيقيّ كمترجمين "بشريين" يشعر كل منهم بالتميز الذاتيّ. فتعزيز مهارات المتدربين بمختلف أشكالها وصنوفها يرفع مستوى تأهيلهم (سلامة، 2021)، كما يغذّي حسَّ المسؤولية لديهم في تنفيذ مهامهم بشكل فاعل وسليم. وإنَّها لحالةٌ من التكامل بين الإنسان والآلة تمثّلت بإدخال تلك الأدوات المسندة حاسوبيًّا أو ما يوازيها من محركات الترجمة الآلية في عمليات تدريب المترجمين العرب، وهو ما يعزِّز ما أشرنا إليه سالفًا من مسألة تعزيز ثقة المترجِم بنفسه مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ "ماكنات" الترجمة أصبحت أمرًا واقعًا يطوّعها المترجم ويفيد منها.

وختامًا، نجد أنَّ الكفاءة في الترجمة في ميدان العمل العربي عمومًا والأردن بشكل خاص، تقوم على أربعة عوامل تدريبية هي اللغويّة والثقافيّة والتقنيّة والشخصيّة. فكان المكونان اللغويُّ والثقافيُّ أساسَ الكفاءة الترجميّة؛ وهما القدرة التي يحتاجها المترجِم في سوق العمل تحريريًّا كان أم شفهيًّا، حيث اللغويُّ أساس الأساس والثقافي إسناد الأساس. وارتباطًا بهذين العاملين الكلاسيكيين في قياس كفاءة المترجِم العربيّ، جاءت تكنولوجيا الترجمة من أدوات مسندة حاسوبيًّا ومحركات الترجمة الآلية من جهة، ومهارات المترجِم الشخصيّة في تنظيم نفسه وقدرته، أو رغبته في إدارة مشروعٍ ما استلتزمته ظروف الوقت الحاضر مهنيًا كعاملين مساندين. وكان العاملُ التقنيُّ أساسَ الإسناد وذلك الشخصي إسناد الأسناد، حيث يمثّل كلاهما جانب الخبرة في هذه الصناعة الحيوية (انظر الشكل). واعتبرنا هذا الإطار تحسينًا للعُرف الترجميّ المتعلق بقضية تدريب المترجمين، حيث لا تزال صناعةُ الترجمة تشهد تغيّراتٍ كبيرةً؛ بما يدعونا إلى:

‌أ. الاستمرار بتحسين بيئتهم التدريبيّة بمجموعة متنوعة من المهارات تُحقّق لكلٍّ منهم ميزةً تنافسيًّة ما.

‌ب. تقليص الفجوة بين ما يتلقونه على مقاعد الدراسة وما يتوقعه منهم سوق العمل، أي ثنائيّة التعليم والتشغيل.