الخطابُ السجاليُّ: محاولةٌ في بناءِ المفهوم

ياسين الشعري

باحث وناقد مغربي

تقديم.

يواجه الباحثُ في الخطاب السجاليّ، الراغبُ في اكتشاف مكوّناته وأسسه وخصائصه، مجموعةً من الإشكالات النقديّة والمعرفيّة، تجعل التصدّي لهذا النوع من الخطابات أمرًا محفوفًا بعديدٍ من المزالق والمشكلات الابستمولوجية، وتسمه بطابع «الخطاب الإشكاليّ» ، الذي يعبر عن علاقةِ تصادمٍ ما بين أطاريح أطرافه ومواقفهم حول قضايا ابستمولوجية معينة، حيث تتصارع فيه الذوات لإثبات نفسها ونفي الآخر المناوئ لها، ولهذا تتخذ علاقة أطراف هذا الخطاب طابعًا إشكاليًّا يتوافق مع طبيعة هذا الخطاب نفسه. 

من بين تلك المشاكل ما يتعلق بماهيته، فمفهومه زئبقيُّ يختلف من باحثٍ إلى آخر، إذ ليس من السهل أن نعطيه تعريفًا جامعًا، يحيط بكل خصائصه الأجناسيّة والفنيّة، لأنَّه خطابٌ متلوّنٌ يكتسي كلَّ مرة خصائص جديدة حسب السياق الذي يرد فيه، نظرا لتمايز مرجعياته وتداخلها مع مختلف الخطابات؛ أدبيّةً كانت أو سياسيّةً أو دينيّةً أو فلسفيّة... وهذا التداخلُ هو الذي يجعل التنظير للخطاب السجاليّ أمرًا في منتهى الصعوبة. أضف إلى ذلك أنَّه يتمتع - عند العرب - بغنى معجميّ يصعُب معه ضبط هذا المفهوم وتحديده تحديدًا دقيقًا، وهذا الغنى المعجميّ يطرح مشكلًا آخر متعلقًا به، يتمثّل في غياب قواميس تاريخيّة تتعقب التطور الدلاليّ للمصطلح، الأمر الذي أفرز اختلافًا واضحًا بين الباحثين في طرائق النظر إليه. 

لذلك، يأتي هذا المقالُ بهدف الإسهام في تقديم تصوّرٍ جديدٍ للخطاب السجاليّ، مغاير لما دأب عليه الباحثون في نظرهم إلى هذا النوع من الخطابات، فقد ساد عندهم اعتباره خطابًا لا أخلاقيًّا، يخرق قواعد التواصل والحوار، ويطيح بمبدأ التعاون ما بين الأطراف لإنشاء حوار فيه قدرٌ من احترام الخصم وتوقيره...  

1ـ نحو تصوّرٍ جديدٍ لمفهوم الخطاب السجاليّ

يُعدُّ الخطابُ السجاليّ شكلًا من أشكال التفاعل الخطابيّ، وحدثًا تلفظيًّا، قائمًا على التواصل بين الأنا والآخر، يحيل على معنى المبارزة بين الخصمين، ويشي بنوع من الصراع والعداوة بينهما، إنَّه خطابٌ قائمٌ على اختلافٍ قد يبلغ حدَّ الخصومة والحرب، بتعبير أركيوني،  إلا إنَّه مع ذلك يبقى خطابًا ابستمولوجيًّا، يسعى إلى بناء المعرفة أو المشاركة في بنائها، من خلال قيامه على تقديم بديل ابستمولوجي يُغني المعرفة، ويُرسي مبدأ الاختلاف في الرأي، ويدافع عن قيمة الإبداع، الذي يناقض التبعيّة والتحجّر والاحتفاء بما هو سائد في الأوساط الثقافيّة، فالخطابُ السجاليُّ خطابٌ محكومٌ بالتمرد على ما ترسّخ في الوعي المجتمعيّ، يحاول فرض رؤى الذات المتساجلة وتصوراتها عن الوجود، يأبى أن ينقاد لِما يكلّس الإبداع، لِما ينظر للمتوارث على أنَّه الأنموذج الذي ينبغي اتّباعه والاحتفاء به.

 بيد أنَّه يقوم على مفارقةٍ أساسيٍّة متمثلةٍ في كون آلياته غير متوافقة مع الغاية التي يرومها، فهو - في طموحه إلى بناء المعرفة - لا يكفُّ عن المواجهة والعنف اللفظيّ واستخدام الأساليب العدوانيّة في سبيل هدم فكرة وترسيخ أخرى، إلا إنَّ هذه المفارقة ليست أصلًا في الخطاب السجاليّ؛ بل هي نتاجٌ لهوى الإنسان الذي يطمح إلى فرض ذاته والإعلاء منها على حساب الحط من الآخر والتغلب عليه، وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا كان يُنظر إلى الخطاب السجاليّ نظرة دونيّة قدحية، تحاول أن تحط من قدره، وتسمه بميسم الخطاب الذي لا يتوخى هدفًا غير النيل من الآخر/ الخصم. 

إنَّنا لا ننكر أنَّ الخطاب السجاليّ كما يعرفه "بلانتان": «حرب نخوضها بالكلمات، وتكون حربًا دفاعيّةً من طرف شخصٍ عنيدٍ يرفض من دون سبب أن يغيّر رأيه»،  وأنَّه كثيرًا ما يؤول إلى «حرب ضروس تتخذ أشكالًا عديدة»،  إلا إنَّه لا يمكننا أن ننفي عنه طابعه الابستمولوجي، فهو يسهم في بناء المعرفة رغم أنَّ استراتيجياته قائمة على العنف والبسط والقهر والعنف اللفظيّ، فهو لم يوجد كي يركن لذلك فقط، حقًا أنَّ هذه هي أهم مظاهره، وأنَّ الشائع منه ذاك الذي يتوخّى أساسًا التهجم على الخصم والنيل منه، لكن هذا لا يجب أن يُنسِيَنا ما له من دورٍ في تطوير المعرفة، وكشفِ الزائف منها، وإعادةِ بنائها بناءً جديدًا يحاول أن يتجاوز القصور والهنات التي كانت ماثلةً في الأنموذج القديم قبل تدخّل السجال ليعيد رسم خريطته ومناقشة بعض مبادئه... 

تحكم أطراف الخطاب السجالي الرغبة في تجاوز الخصم والنيل منه والحط من قيمته، وإظهار التفوق المعرفيّ عليه، وينشدون الوسائل العدوانية آليةً لهذا التجاوز، فمن كانت له القدرة على مجاراة السجال إلى النهاية ينتصر على خصمه في هذه المعركة الاستعاريّة، التي لا يتورع أطرافها عن استخدام أساليب مشينة للتفوق على الآخر المناقض، إذ يلجؤون في الأعم الأكثر إلى: إقصاء الآخر ونسف جهوده، وتفريغه من جوهره، ويغلب على لغتهم طابع الرفض والإقصاء، حتى وإن كان هذا الإقصاء إقصاءً ابستمولوجيا وليس ماديًّا،  وتتطلب بيئة خطابهم السجاليّ- حسب و"وترهينقراف"- قدرًا من عدم الارتياح وعدم الصفو وتوافر عنصر التهديد.  

وبهذا؛ يمكننا تعريف الخطاب السجاليّ أنَّه ذلك الخطاب الاختلافي الذي يجري بين طرفين أو أكثر، لكلِّ واحدٍ منهما موقفٌ مخالفٌ للآخر، يسعى إلى إلجامه وتبكيته، وبيان فساد ما يذهب إليه، فالمساجل يروم «إعادة تشكيل العالم ومكوّناته المختلفة، ليصبح مطابقًا لفرضياته»،   يهدم السائد والمألوف والرتيب، ويتجاوزه إلى ما هو جديد وغير متداول، ويعيد بناء العالم، فيشكّله انطلاقًا من رؤاه وتصوراته. بعبارة أخرى يحاول هذا النوع من الخطابات أن يبني تصوراتٍ جديدةً، لا تخضع لمنطق الكائن والموجود والمعيش إلا لُمامًا، مما يعني أنَّ مبدأه نابعٌ أساسًا من عقد الاختلاف مع المتلقي، فالمساجل يلجأ إلى عرض مجموعة من الحقائق، انطلاقًا من ادعاءاتٍ ذاتيٍّة شخصيّة، وهذا ما يجعل الخطاب السجالي خطابًا إيديولوجيًّا، يتّخذ سمته من مضامينه الإيديولوجية التي تشدُّ الباب في وجه الاتفاق وتشرعها أمام الاختلاف في الرأي والتعدديّة.

ولما كان الخطابُ السجاليُّ خطابًا غايته تفكيك الأنساق المعرفيّة والثقافيّة، فهو لا يتورع - لتحقيق مراده - عن المزج بين ما هو معرفيّ وما هو شخصيّ، فيكشف بالتالي عن ممارسةٍ خاصّةٍ به، ينفرد بها عن باقي الخطابات الأخرى، إذ يستخدم مختلف الاستراتيجيات الخطابيّة بما يتلاءم مع القصد الذي يرومه، فالكلمةُ تصبح فيه ذات دلالة خاصة، وصور الأسلوب تصبح محملةً بطاقاتٍ سجاليّة تخولها أن تحيا وتتطور ضمن هذه العملية الإشكاليّة المعقدة، التي تكشف عن خطابٍ مختلٍّ بين طرفين خصمين لبعضهما البعض، كل واحد منهما له تصوّرٌ مغاير عن الآخر، يتجرأ على خصمه، سعيًا إلى التفوق عليه وإسكاته، فالخطاب السجالي «وليد فعل السِجال، ومماثله في التباري والتنافس والرغبة في الغلبة والفلج على الخصم» . وهذا المعنى هو ما تشير إليه الدلالة اللغوية لمفهوم السِجال، إذ تلتقي المعاجم اللغوية في تعريفها للسجال للدلالة على معنيين هما المبارزة والتنافس، وتربطه بمجالي السقي والحرب، جاء في لسان العرب: «سجال جمع سِجل وسجل وهو: الدلو الضخمة المملوءة ماء، وساجل الرجل باراه... وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غُلب. فضربته العرب مثلًا للمفاخرة [...] وتساجلوا أي تفاخروا، ومنه قولهم الحرب سجال وانسجل الماء انسجالًا إذا انصب» . 

2ـ الخطابُ السجاليُّ وفكرةُ التحيّز

يرتبط الخطاب السجالي بفكرة التحيّز، التي تتأسس على اعتبارين، أولهما: تضخيم الذات والتمركز حولها، إذ يتمُّ التلعّب باللغة من أجل خلق تنميطات جاهزة، تسم الذات بكل سمات التعالي والفوقيّة، وتجعلها رمزًا للكمال والتفوق والعلم... أمَّا الاعتبار الثاني فهو تغييب الآخر أو انتقاصه وتهميشه في محاولة لإقصائه، وذلك بوسمه بكل سمات الدونيّة . وبذلك، فهو يروّج لمركزيّة الذات، فالذات السجاليّة هي ذاتٌ موسومةٌ بالتعالي والتميّز والتفوق، في مقابل ذلك، يروّج لهامشية الآخر، وتحقيره، ويتعمّد جعله مشوبًا بمجموعة من السمات السلبيّة، كالتوتر والانفعال والجهل، وبالجملة يلصق به كل القيم المتعارضة مع ما هو نقي وفعال ومتعالٍ، وبالتالي يستبعد فكرة تقبل نسقه الثقافيّ.

بيد أنَّ تحيّز الخطاب السجاليّ لا يعني أنَّه ينفي الآخر نفيًا مطلقًا، وإنَّما يجعله على الهامش فقط، فوجود الأنا في هذا الخطاب ليس مرتبطًا بفكرة وجودها، كما ادعى ذلك "ديكارت"، إنَّها لا تكتسب كينونتها المطلقة، ولا تضمن تحقّق وجودها حتى تكون مقترنة بذلك الذي يخالفها، ممتدة فيه، وممتد فيها، على هذا النحو تغدو الذات السجاليّة مركبة من طرفين متمايزين ومختلفين هما "الأنا" و"الآخر"، يسعى كل واحد منهما إلى الإيضاح في خطابه عن هذا الاختلاف والتمايز، وهذا ما يجعل الخطاب السجاليّ قائمًا على التعدديّة في الآراء، التي تفترض- أيضًا - تعددًا في الحقائق، أو قل في النظر إليها، فكل ذات في الخطاب السجاليّ تنشئ عن العالم الخارجي صورًا إدراكيّةً خاصّة بها، تتحول معها إلى مصدر للمعرفة والحقيقة المطلقة، لا حقيقة إلا داخلها. تتسم نظرتها إلى الوجود بالتمركز حول ذاتها، والانطلاق من اعتباراتها، وتهميش ما يخالفها. تسعى إلى تحويل الوقائع إلى صياغات متماسكة غير قابلة للاختراق من قبل الآخر، وتقف موقف عداء إزاءه، فهو يهدّد صفاءَ هُويتها وثباتَ وعيها، فكل ذات ترى نفسها مصدرًا للمعرفة والحقيقة، وما جاورها وكان خارجَ كينونتها يمثّلُ وعيًا مزيّفًا، أو صورةً إدراكيّةً مشوّهة، أو تخييلًا يلفه الوهمُ والغموض .

3ـ الخطابُ السجاليُّ وتعددُ المنجزين

إنَّ الخطابَ السجاليّ بهذا الاعتبار هو خطابٌ مشروطٌ بتعدد المنجزين، لا يمكن أن يقوم إلا إذا كان متضمنًا لخطاب الآخر، يحيل عليه بشكل صريح حينًا، أو بشكل مضمر أحيانًا أخرى، فهو ليس نتاجًا لخطاب الذات وحدها، فكما أنَّه يقدّم خطاب الأنا المساجلة وتصوراتها، يقدم خطاب الآخر الخصم وتصوراته ويستحضرها، إلا أنَّ هذا الاستحضار ليس معناه الإعلاء من شأن خطاب الخصم، والاكتفاء بترديده، وإنَّما الهدف منه تجاوزه معرفيًّا، والحلول محله...

بهذا، يسهم كل من "الأنا" والآخر في منح الخطاب صفة السجاليّة، التي لا تتأتى له إلا بوجود هذين الطرفين، فالأنا «لا تستطيع أن تبدع خطابها بدون الآخر، والعكس، حيث يحضر خطاب كل طرف بقوة في خطاب الطرف الآخر، فالأنا تتعرف على نفسها بوصفها جزءًا في خطاب الآخر، والآخر يتعرف على نفسه بوصفه جزءًا في خطاب الأنا» . وهذا يجعلنا على بيّنة من أنَّ الخطاب السجاليّ يتناسل من خطاب الآخر المخالف ويتولد عنه، ولا ينحصر «في خطيّته وصور انكتابه وتحقّقه، في صورة بنيةٍ لُغوية أو مضمونيّة» ، فكل خطاب من هذه الخطابات يقدّم نفسه على أساس أنَّه قادر على استيعاب خطاب الخصم، وبالتالي فنحن في الخطاب السجاليّ - في الحقيقة - لسنا أمامَ خطابٍ واحد، وإنَّما أمام خطابين أو أكثر، إذا جاز لنا ذلك...