طبيعةُ العالم في فلسفة ابن رشد.

 

عبد اللطيف بطاح.

باحث من المغرب.

 

تــــقـــديــم

لمَّا شكّلت شخصيةُ ابن رشد Averroès، مرجعيّةً رئيسةً في الفلسفة الوسطيّة، لدرجة أن امتد أثرها وتأثيرها إلى أبعد من ذلك، احتلَّ الفيلسوف مكانةً كبيرةً في تاريخ الفكر الفلسفيّ، جعلت فلسفته في أوروبا تُردِّدُ اسمه بلا انقطاع عند الكثير من المفكّرين الذين تأثروا بأبعاد منهجه وفلسفته، سواء بالهجوم، أم الاستفادة من منهجه النقديّ، لذلك ارتأينا في هذه الصفحات الحديث عن طبيعة العالم في فلسفته، متّبعين داخلها منهجًا مختلفًا عن مناهج البحث الشائعة، والتي كثيرًا ما أظهرت فلسفة الفيلسوف، في صورة مختلفة عن حقيقة فكره، وتسبّبت في الحكم عليه هو وفلسفته بالكفر والزندقة، وحاسبته بمتطلبات عصر آخر غير العصر الذي نشأ فيه هو وفكره.

جدير بالذكر، في هذا التقديم، أنَّ الدور الخالد الذي لعبته نصوص ابن رشد، في إغناء التراث الإنسانيّ، ليس في المشرق فقط، وإنَّما في العالم الأوروبيّ أيضًا، حتى أصبحت الرشديّة اللاتينيّة من الموضوعات الفلسفيّة التي ما زالت في حاجة إلى زيادة إيضاح، وذلك راجع إلى دقة لغتها، وعظمة فكرها، وفصاحة أسلوبها، وعقلانيتها الناقدة المتحررة، بحيث حاولت تقديم الفكر الفلسفي الأرسطيّ للحضارات اللاحقة، بكيفيّةٍ تخلو من الغموض والأخطاء والشوائب التي تعرّضت لها فلسفة المعلّم الأوّل جراء شروحات وتفسيرات سابقي الشارح الأكبر من فلاسفة الإسلام.

ربما هذا هو ما دفع قراء نصوص ابن رشد، إلى التأكيد على تفسيرات شديدة الاختلاف فيما بينها، كونه أسّس من خلالها الصرح لفلسفة مفتوحة، تقف خارج السياجات الدوغمائيّة المغلقة، وما يدلِّلُ على ذلك هو دفاعه عن الفلسفة وحديثه عن التأويل Interprétation، الذي وصل إليه بفضل حسّه النقديّ، وتأسيسه لمنهجٍ تحليليٍّ يقوم على أساس العقل.

عالجت الفلسفة الرشديّة، بفضل رؤيتها النقديّة المتبصّرة، مثلها مثل فلسفات زمانها، مشكلة التوفيق بين الدين باعتباره وحيًا أنزله الله من السماء، والفلسفة التي توصل إليها الإنسان من خلال تجاربه على الأرض، كونها القضية التي شكّلت محور الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ كله، إضافةً إلى اهتمامه بقضايا شغلت فلسفات العالم القديم، من قبيل: الله/العالم/الإنسان، إلى جانب حديثه عن مسألة خلود النفس، وتناوله لقضايا أخرى مهمّة ومتنوعة، بعضها يتصل بالعقيدة، وبعضها بالأخلاق، وبعضها بالسياسة، وبعضها بالتجربة الدينيّة ذاتها.

لعلَّ أهمَّ القضايا التي عالجها ابن رشد، مرتبطة بإشكالية طبيعة العالم، من حيث إنَّها إشكالية جعلت الشيخ الأكبر بن عربي Ebn al‘Arabi، يشهد لحنكة ابن رشد، في إحدى أشعاره الصوفية بما يلي:

"هذا الإمامُ وهذه أعمالُه                                                           يا ليت شعري هل آتت آماله؟" 

ونخصِّص للحديث عن قضية طبيعة العالم في فلسفة ابن رشد، الصفحاتِ اللاحقةَ على هذا التقديم علّها تميط الحجب عن القارئ، وتكشف اللثام له، آخذين بعين الاعتبار أنَّ الاقتراب ولو نسبيًّا من موضوع المقال لن يتأتى إلا بمعرفة موقف ابن رشد من السابقين عليه من الفلاسفة، والمعاصرين له من المتكلّمة، لذلك جعلنا المقال يشمل الحديث عن النقاط التالية: 

1) ابن رشد بين ضفتين؛ أرسطو والمتكلمة.

الظاهر أنَّ ابن رشد، في كتابه "تهافت التهافت"، يؤكّدُ بقوله "حسن ظني بأرسطو واعتقادي أنَّ نظره فوق نظر جميع الناس"، أهميّةَ فلسفة المعلم الأول، متّجها بحسّه النقدي نحوها، مخلِّصًا بشروحاته الفلسفيّة إيّاها من الشوائب التي ألصقها به المتكلّمون.

إنَّ ما يبرِّر انشدادَ ابن رشد، لفلسفة أرسطو Aristote، هو أنَّها استجمعت خلاصةَ الفكر اليونانيّ برمّته وفحصته فحصًا نقديًّا، مصنفةً بذلك الفنون إلى نظريّة وعمليّة حسب طبيعتها، لتنتهي إلى إثبات وجود محرك غير متحرك، جوهر أسمى لا يطاله التغير.

يعلم ابن رشد، أنَّ الأرسطيّة علقت بها شوائب أفلاطونيّة بعد انتقال الفكر اليونانيّ إلى الإسكندرية، ومنها إلى بغداد وسائر بلاد المسلمين، بحيث استُعمل الفكرُ والمنطق الأرسطيّ في هذه المرحلة استعمالًا مغرضًا في كثير من الأحيان، وما زاد الطين بلة في نظر ابن رشد، تلك المحاولات التوفيقيّة التي قام بها الفلاسفةُ الأوائل، مراعين في ذلك تأويلات المتكلّمين التي كانت بمثابة عقيدةً رسميّةً للدولة.

هكذا وجد ابن رشد نفسه بين أرسطو والمتكلّمين، بين البرهان والمصرحين بالبرهان لغير أهله أصحاب الجدل، مُفضِّلًا في ذلك الأول على الفئة الثانية، تفضيله للبرهان على الجدل، مؤمنًا بتفاوت مراتب الناس في التصديق، محاولًا استعادةَ أرسطو استعادةً علميّة . 

فهو "لم يستخدم الفلسفةَ والمنطقَ في مجرد الدفاع عن الدين كما فعل المتكلمون [ ... ] ولهذا لم يكن غريبًا أن ينظر الفلاسفة باحتقار إلى علم الكلام، ويرون أن منهجهم ليس له قواعد بالمعنى الفلسفيّ" ، وهي القواعدُ التي رأى ابن رشد أرسطو مؤسّسًا لها، فمال إليه وابتعد عن موضوعات الكلام، ولم يناقشها إلا لذيوعها بين الناس بسبب إفشاء التأويل كما يصرح بذلك في فصل المقال.

بناءً على ما سبق، يظهر أنَّ العامل الجغرافيّ المتمثل في عيش ابن رشد داخل الغرب الإسلامي، لعب دورًا محوريًّا في بقاء الفلسفة في منأى عن مشكلات التوفيق والصراعات السياسيّة التي سادت في المشرق، حيث استعمل المنخرطون فيها المتنَ الأرسطيَّ استعمالًا مغرضًا. من تم تحقّقت العودة إلى أرسطو على يد ابن رشد بطريقة علميّة، فقد نظر إليه كسندٍ علميٍّ ومنطقيٍّ منظم قادر على تجاوز حالة الفرقة التي خلقها المتكلّمون بتكفيرهم بعضهم البعض، وما ولّده ذلك من انعكاسات على المسلمين عامة .

2) موقف ابن رشد من تصوّر السابقين ومعالجتهم لطبيعة العالم.

  لم ينحز ابن رشد لفلاسفة الإسلام السابقين عليه ضدًا على المتكلمين، ولا لهؤلاء ضدًا على الفلاسفة، وإنَّما حاول وبموضوعيّةٍ معالجةَ قضيّة طبيعة العالم التي كانت مدار صراع بينهما، إلى جانب قضايا أخرى دفعت الغزالي Ghazali Al للرد عليه في مؤلف "تهافت الفلاسفة"، فكيف ردَّ ابن رشد على الفلاسفة وما موقفه من أبو حامد الغزالي؟

ردّه على ابن سينا

في إطار سعيه لتخليص فلسفة أرسطو من الشوائب التي أُلصقت بها، باعتباره معلمًا أوّلًا كما سبقت الإشارة إلى ذلك، قام ابن رشد، بالردِّ على الفلسفة السينيّة، وتجدر الإشارة، إلى أنَّه في إطار ردّه على ابن سينا Avicenne، كان يردُّ أيضًا على الغزالي وعلى نقده للفلاسفة، فإذا كان الأوّلُ قد حرّف المقصد الأرسطيّ، فإنَّ الثاني تعامل مع المقصد المحرَّف واعتباره أنموذجًا يفضي نقضه إلى نقض الفلسفة من أساسها، وهو ما لم يستسغه ابن رشد، معتبرًا إيَّاه تقصيرًا مضاعفًا من الثاني في حق الفلسفة، فابن سينا لم ينقل فلسفة أرسطو كما هي، وإنَّما أضاف لها من عنده ما يتلاءم مع سياقٍ سياسيٍّ استفحل فيه حضورُ علم الكلام، وهو ما أوقع بها الخلل.

يروم ابن رشد، في ذات السياق، التمييز بين فلسفة أرسطو الخالصة النقيّة وفلسفة ابن سينا الأرسطيّة المنحرفة، مؤكّدًا أنَّ الغزالي وقع ضحيةً لعدم أخذه من الصدر الأوّل، وهو في ذلك يقول ضمن مؤلفه "تهافت التهافت"، فالقصور في الحكمة إنَّما نتج عن أنَّ الغزالي لم ينظر إلى رأي أرسطو إلا من خلال ابن سينا. لذلك لا نجد قول لابن سينا في كتب من كتب ابن رشد يخلو من تعليق عليه، بما يفيد تقويم اعوجاجه والتنبيه عليه، ومن ضمن ذلك ميل ابن سينا إلى القول بقدم العالم مخالفًا بذلك الفقهاء والمتكلّمين الذين دافعوا عن كونه حادثًا، ولعلَّ أبرزَ هؤلاء حجة الإسلام .

ردّه على الغزالي 

يحاور ابن رشد الغزالي في جلِّ كتاباته ولعلَّ ذلك واضح من خلال عناوين بعضها، كـ "تهافت التهافت"، أو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" و"فصل المقال" وغيرها من الكتابات، وقد اعتُبر هذا الحوار أبرز ما خلّفته الحضارة الإسلامية، ولا زالت تأثيراتُه بليغةَ الأثر في كتابات دعاة الحداثة من المفكّرين العرب المسلمين، أمثال الجابري وطه عبد الرحمن.

الملاحظ أنَّ الغزالي كفّر الفلاسفة في قضايا عدة، جعلها موضوع مؤلفه "تهافت الفلاسفة" لعلَّ أبرزها قضية قدم العالم، وقولهم بقدم الجواهر، إلَّا إنَّ ابن رشد رام في "تهافت التهافت" إثبات المعنى الذي فهمه الغزالي من قول الفلاسفة ليس هو نفسه المبتغى من طرفهم، من ثمَّ نظر الثاني إلى الأوّل على أنَّ موقفه لا يخلو من أمرين، فإمَّا أن يكون قد فهم قصدهم وحرّفه وهذا فعلٌ شرير، أو أنَّه لم يتمكن من فهمه، وذلك يكشف عن كونه أقلَّ درجة علميّة منهم؛ أي أنَّه ليس من أهل البرهان، وإنَّما من أهل الجدل. والداعي إلى الموقف الرشديّ هو أنَّه يعلن في تهافته أنَّ الغرض الذي يرومه هو التشويش، وهذا ليس غرضًا علميًّا نبيلًا، إذ تقتضي أخلاقُ الحكيم العالم أن يسعى إلى إتمام، أو تصحيح. أضف إلى ذلك أنَّه وقف عند حدود ما أتى به الفارابي Farabi Al وابن سينا، ولم يسعى إلى أخد الحكمة عن المعلم الأوّل مباشرةً.

ومن الأخطاء التي وقع فيها الغزالي أيضًا أنَّه صرّح بالبرهان لغير أهله؛ أي إلى عامة الناس إن كان هو من الخاصّة، فلم يحترم بذلك تفاوت مراتب الناس في التصديق، إذ منهم من يصدق بالأقاويل الخطابيّة، ومنهم من يصدق بالجدليّة، ومنهم من يصدق بالبرهانيّة، وهؤلاء هم الفلاسفة، وساهم بذلك في إذكاء الفتنة وروح الفرقة بين متكلمي الإسلام وبين المسلمين بصفة عامة، ليكون مشكلًا خطرًا على الشرع والحكمة في الآن نفسه  .

أمَّا بخصوص قضية قدم العالم فهي أبرز القضايا التي وجّه فيها الغزالي نقدًا للفلاسفة إلى جانب قضية يوم الميعاد وعلم الله بالجزئيات، حيث أكّد فيما يتعلق بالأولى أنَّ الفلاسفة يقولون بقدم العالم، وفي ذلك خروج عن ملةِ الإسلام التي استقرّ الرأيُّ فيها على كونه حادثًا مخلوقًا.

تبعًا لما سبق، يغدو الاختلافُ بين الغزاليّ والفلاسفة -حسب ابن رشد- اختلافًا حول التسّمية، حيث إنَّ فيه شبه من القديم وشبه من المحدث، أو هو إن شئنا قلنا وسط بين الخالق والمخلوق المحدث، لمَّا ربطه الفلاسفة بالخالق قالوا قديم لقدم الخالق، والغزالي والفقهاء غلبوا ربطه بالمخلوق فقالوا حادث، والحقيقة أنَّه "ليس محدثا حقيقيًّا ولا قديمًا حقيقيًّا، فإنَّ المحدثَ الحقيقيَّ فاسدٌ ضرورةً، والقديم الحقيقيّ ليس له علّة" ، رغم أن الفيلسوف ابن رشد أكّد وبأدلةٍ عقليّةٍ أنّه أزليٌّ، لكن ماهي الحجج التي صاغها لإثبات ذلك؟

3) أدلةُ ابن رشد في أزليّة العالم وقدمه.

اهتم ابن رشد كباقي فلاسفة الإسلام بمشكلة حدوث العالم وقدمه، وإذا كان يؤكّد على القدم فإنَّه حرص على نقد الغزاليّ الذي قال بالحدوث، وإذا استحضرنا تاريخ الفلسفة الإسلاميّة، لوجدنا الأخيرة تبدأ مع الكندي Kindi Al، الذي أكّد ما وصل إليه الغزالي، على خلاف أولئك الفلاسفة الذين عاشوا بعده، "فالفارابي يقول بقدم العالم، وابن سينا ارتضى لنفسه القول بالقدم، وكذلك فعل ابن طفيل وابن رشد" .

يستند ابنُ رشد وهو يؤكّد قدم المادة الأولى على مجموعة من الأدلة، عكس الغزالي الذي أقرَّ أنَّ "جماهير الفلاسفة قد اتفقوا على القول بقدم العالم، فإن لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولًا له، ومساوقًا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقةَ المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباريء عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان. بل ذهب إلى تكفيرهم بهذا القدم سواء من ناحية الأزليّة أو الأبديّة، والقول بأنَّ الجواهر كلها قديمة" . وهي أدلةٌ رام من خلالها تنقيحَ أدلة الغزاليّ في تكفير الفلاسفة، ليبرؤهم في الأدلة الأربعة التالية:  

الدليل الأول: رام الفلاسفة كما حكى الغزالي، التأكيد على استحالة صدور حادث عن قديم مطلق، فإذا افترضنا أنَّ القديم لم يصدر عنه العالم مثلًا، نستخلص منه عدم وجود مرجّح للوجود، بل إنَّ هذا الوجود كان مجرد إمكان صرف.

يؤكّدُ هذا الدليلُ أنَّ صدور الحادث عن القديم من غير تغيّر في القديم وقدرته، من حيث إنَّ هذه المشكلة ترجع في نظر أبي الوليد، للتفرقة بين الجدل والبرهان، وتفضيل الثاني عن الأول، ليعمل بواسطتها على تنقية أدلة الفلاسفة من شوائب الجدل حتى تصبح أدلةً فلسفيّةً، لفلاسفة يسعون إلى اليقين والبرهان.

هنا تظهر مظاهر النزعة العقلانيّة في الفلسفة الرشديّة، التي تتمثّل في محاولة دفاعه عن الفلاسفة، والدفع بهم إلى اللجوء إلى البرهان والابتعاد عن الطريق الجدليّ، الذي جعل محاولة الغزالي سفسطائيّة صرفة، وهو بهذا، يؤيد مواقف عقليّة عظيمة، تؤكّد ضرورة الوصول من الحركة إلى المحرك.

مما سبق ذكره، يتّضح أنَّ الدليل الرشديّ الأوّل على قدم العالم يقوم أساسًا على دليل الحركة، وكذلك الربط بين السبب والمسبب، ومحاربة الاتفاق والجواز والإمكان ، تبنى عليه نظريته في ردِّ كلِّ الأشياء إلى الأسباب الضرورية المحددة.

الدليل الثاني: ينتقد فيه الغزاليّ، ويردُّ على آرائه بخصوص اتّباع الزمان للحركة، معتقدًا فيه أنَّ أقوال الغزالي غير برهانيّة، لا تستطيع التفرقة بين الله والعالم فيما يختصُّ بتطبيق فكرة الزمان، الأمر الذي آثار حفيظة أبي الوليد للإقرار بما يلي:

الله مفارق للزمان ومتقدم على العالم والزمان، أي أنَّه كان منفردًا وحده بالوجود.

العالم ملازم للزمان.

الوجود صنفان:

1) وجود في طبيعة الحركة غير منفصل عن الزمان.

2) وجود ليس في طبيعة الحركة، وأزليٌّ لا يخضع للزمان.

 يؤكّد ابن رشد من خلال قوله: "إنَّ من لا يساوق وجوده الزمان ولا يحيط به من طرفيه، يلزم ضرورةً أن يكون فعله لا يحيط به الزمان ولا يساوقه زمانٌ محدّد" ، على لا نهائيّة وجود الفاعل، وهو بهذا، يقترب من الفكرة التي تؤمن أنَّ العلة إذا وجدت وجد معلولها بالضرورة، كونه علةَ العلل، ويصرُّ على أنَّ كلَّ موجودٍ لا يتراخى فعله عن وجوده.

الدليل الثالث: فيه ينتصر ابن رشد للقول المؤكّد على أزليّة العالم، لأنَّ الإمكان في الأمور الأزليّة يُعدُّ ضروريًّا. وهو هنا يؤسّس لموقف أقرب إلى اليقين من موقف المتكلمين، بحجة أنَّ القول بوقت كان فيه العالم مستحيلًا ثم صار ممكنًا، أدى إلى ضرورة التسليم بوجود وقت لم يكن الله قادر فيه.

وهنا يرفض الشارحُ الأكبرُ طرحَ الغزالي، الذي قبل فيه وجود إمكانات لا متناهيّة العدد قبل وجود العالم، منتقدًا إيّاه بقوله إنَّ طبيعة العالم هي طبيعة الشخص الواحد الذي يكون صدوره عن المبدأ الأول بالنحو الذي صدر عنه الشخص، وذلك بتوسط محرك تكون حركته حركة أزليّة، تجعل العالم ممكن إمكانًا لم يزل.

الدليل الرابع: يفتتح ابن رشد حديثه عن هذا الدليل بقوله: "كل حادث لا بدَّ أن تسبقه المادة التي فيه، إذ لا يستغنى الحادث عن مادة، وهذه المادة لا تكون حادثة، وإنَّما الحادث هو الصّور والأعراض والكيفيات الطارئة على المواد" ، بشكل جعله يختتم معالجته لقضية طبيعة العالم بما هو آت:

المادة تطبعها خاصّيّة الإمكان، بما هي خاصّية تمنح إمكانية التحوّل للمادة إلى أن تصير صورة لتوجد بالفعل.

المادة في صيرورةٍ وتحوّلٍ مستمر، من صورة لأخرى أفضل منها، حيث إنَّ هذا التحوّل يجعلها أزليّةً وقديمة.

تبعًا لهذا، يغدو المنزعُ العقليُّ الذي سلكه ابن رشد في تصوّره لمشكلة الأبديّة مبنيًّا على الأساس الذي كان يقيم عليه مشكلة الأزلية نفسه.

خـــــــاتمـــــــــــة

مما سبق ذكره، نخلص إلى القول إنَّ ابن رشد استطاع بفضل اعتماده على التأويل معالجةَ المشاكل التي تخبّطت فيها الفلسفة الإسلاميّة طيلة قرون، خصوصًا تلك المتعلقة بمسألة طبيعة العالم الذي اعتبره قديمًا على مستوى وجوده الماديّ، ومحدثًا على مستوى صورته، حيث كان تصوّره من بين تصوّرات عديدة متباينة، اختلفت باختلاف الحلول التي قدّمها أهلُ البرهان، الأمر الذي جعله يؤمن بتعدد التأويلات، لدرجة أضحى الموقف التأويليّ مناداة القراءة على تعدديّة المعنى، ليصير معه منسجمًا مع نواميس العقل، التي تقوم على أساس التسليم بقوانين الكون، والاعتراف بخصائصه الضروريّة التي تقول بتأثير الإنسان في حوادث العالم.

لهذا كان يقول ابن رشد إنَّ المصيبين مأجورون، وإنَّ المخطئين معذورون، فالتصديقُ بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس شيء اضطراري لا اختياري، حيث إنَّ المؤمن والمصدق للخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من أهل العلم مأجور، وإذا كان ليس من أهله فهو معذور.

هنا ينسجم النصُّ الفلسفيُّ مع النصِّ الدينيّ، فالمهم هو التفكير وليس النتيجة التي سنخلص إليها من خلال هذا التفكير، لأنَّ كل من الفلسفة والدين يصفحان عن الخطأ، الذي سيكون إمكانيّةً من إمكانات التفلسف لاحقًا.

ربما هذا هو ما جعل ابن رشد أوّلَ من هذّب العلوم وأوّل من نقل فكر أرسطو بصدقٍ وأمانة، حتى تمَّ فهمه من قبل الحضارات اللاحقة، الأمر الذي سيجعله يحتلُّ مكانةً بارزةً لا يضاهيه فيها أحدٌ من الفلاسفة العرب، مثلما أصبحت شروحاتُه تشكّل أساسًا للدارسات الفلسفيّة في أوروبا الغربية حتى مطلع العصور الحديثة.

لائحة المصادر والمراجع

ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم وإشراف محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، سنة 2007.

عابد الجابري محمد، ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر سنة 1998.

التليلي عبد الرحمن، ابن رشد في المصادر العربيّة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 2002.

العراقي عاطف، النزعة العقليّة في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، الطبعة الرابعة، القاهرة، سنة 1984.