حديثُ الروح": كلمات محمد إقبال في المتن الكلثومي"

 

 د. عزيز بعزي/ من المغرب

باحثٌ في شؤون الفكر العربيّ والإسلاميّ والحضارة

 

لم يكن شعرُ الباكستانيّ محمد إقبال عربيًّا، فموهبته الشعرية الأصيلة، وكتاباته عمومًا كانت بالفارسيّة والأورديّة على وجه التحديد، دون أن نغفل كونه ضليعًا في اللغات المتعددة في شبه القارة الهنديّة وخارجها، لذا ترجم عنه الكثيرون إلى اللغة العربيّة، فمن مصر نجد عبد الوهاب عزام، والصاوي شعلان، ومحمد يوسف عدس، ومن سورية عبد المعين الملوحي وزهير ظاظا.

لم يكن إقبال شاعرًا فحسب، بل هو فيلسوفٌ وحقوقيُّ ورجلُ سياسةٍ وتربيّة، فهو -إذن- من أبرز الوجوه التي عرفها الفكرُ التنويريُّ الإسلاميُّ في القرن العشرين، وأحد أولئك القلائل الذين بعثوا النور في سماء الشرق، إن صحَّ هذا التوصيف. 

اخترنا هنا الحديث عن إقبال الشاعر وعلاقته بسيدة الطرب العربي أم كلثوم، التي غنَّت قصيدته الذائعة الصيت "حديث الروح"، لذا يحقُّ لنا القول هنا بأنَّه " شاعرٌ كلثوميّ"، فلولاها لما عرفته الجماهير العربيّة بشكل واسع، ليس وحده بطبيعة الحال، بل إنَّ الأمر يسري على شعراء آخرين من السعودية، السودان، لبنان، مصر، وسوريا.  

 فبصوتها القائم على الطاقة الفنيّة الفذّة، والروحيّة العاليّة، استطاعت أم كلثوم أن تخلق عالمًا مفعمًا بالموسيقى ذات النزعة الصوفيّة، الكاشفة للأسرار، والمليئة بالوجدان الروحي.  وقد تجلّت معالمُ تلك النزعة في صوتها المتأثر بروح النصِّ الأصليّ لإقبال، وغير البعيد عن توجهاته الشعريّة، القائمة على نزعته الفكريّة واستعداداته النفسيّة، وتوجهاته الفلسفيّة أيضًا، بحكم تطلّعه إلى الحقيقة، وشعوره العميق بأنَّها مطلبُ الإنسان الأوّل.

 لا خلاف أن التَّدين العميق لإقبال، والتزامه بدين الإسلام وقيمه، ونفاذ بصيرته إلى كثير من الحقائق الدينيّة، زاده عمليًّا قدرة ظاهرة على المزج بين هذه الفعاليات المختلفة، لصياغة فكرة لا تتناقض فيها عناصرُ الفلسفة والدين والشعر، فهذه الفعاليات الثلاثة بالأساس - كلها كما يبدو- تنتهي عنده إلى حدسٍ واحد، يظهر كل مرة بمظهر خاص. 

الملاحظ أنَّ "كوكب الشرق" عملت على وضع تعديلاتٍ واضحة في كلمات "حديث الروح"، مما دفعها تهمل بعض المقاطع منها، حتى تكون مناسبة لقواعد اللحن التي نسجها الملحنُ الكبيرُ رياض السنباطي، فمن خلال قواعد تلك الألحان يمكن الوقوف عند تلاقي الروح الصوفيّة للسنباطي وروعةِ موسيقاه، القريبة للألحان الشرقيّة مع صوفيّة النصِّ وروحه.

 أمَّا تقديم القصيدة للمرة الأولى فقد وقع عام 1967م، وفي الحقيقة، فأغنية "حديث الروح" هي  الوحيدة التي أُمكن مقارنتها مع تلك القصائد الروحيّة التي كانت أم كلثوم قد أنشدتها في الخمسينيات وما قبلها، مثل "رباعيات الخيام" و"سلوا قلبي" وسواهما من الروائع، وربما يصحُّ اعتبارها إضافةً إلى المتن الكلثومي.  

إذا رجعنا إلى مضمون أغنية "حديث الروح" فإنَّنا نجده يعود إلى محتوى قصيدتين جمعتهما أم كلثوم في قالبٍ شعريٍّ واحد، فتلك القصيدةُ في الأصل هي إعادة نظم لقصيدتي "الشكوى" و "جواب الشكوى" باللغة الأورديّة، نشرهما إقبال في ديوانه المسمى "صلصة الجرس".

 ففي قصيدة " الشكوى" بثَّ إقبال شجونَه، وذلك في 120 بيتًا عام 1990م. في حين تضم قصيدة "جواب الشكوى" التي نظمها عام 1913م، 140 بيتًا. وقد ترجمهما من الأوردية إلى نثرٍ باللغة العربية محمد حسن الأعظمي ( العالم الأزهريّ)، أمَّا كتابتهما في قصيدة واحدة بعنوان "حديث الروح"، فكانت من إبداع الشاعر المصري الكفيف الشيخ الصاوي شعلان.

من أروعِ قصائدِ مناجاةِ الله تعالى، القصيدةُ الأولى؛ حيث عمل إقبال على نقد تراجع الدور الحضاريّ للمسلمين تاريخيًّا، كما حاول عمليًّا تفكيك أبرز أزمات المسلمين، سعيًا إلى مواجهة المشكلات الحضاريّة التي تعترضهم، ولهذا أطلق على قصيدته "الشكوى"؛ بحكم أنَّ حال الأمة آنذاك – وربما حاليًا-  يستدعي الشكوى لله، لما وصل إليه حالُ الأمةِ الإسلاميّة المتردي؛ حيث تراجع دورهم بشكل يثير الدهشة.

فتوجهات "حديث الروح" صريحة، وهي خطابٌ موجّه لشباب العالم الإسلامي سيّما المتشبع بالثقافة الغربيّة، والمخدوع بحضارة الغرب، الجاهل لتراثه الشرقيّ، والضائع في صراع الأيديولوجيات الغربية، ولهذا خاطبه إقبال  بالأسلوب، واللغة التي يؤمن بها، والمقاييس التي يتعامل بها. كما برهن له من خلال أبيات شعريّة بأنَّ الشريعةَ الإسلاميّة قابلةٌ بروحها للتطوّر، ومواكبة التقدم الإنساني. أو بعبارة أوضح حاول ترميم الفكرة الدينيّة في قلوب الناس وعقولهم؛ بملء الفراغ الروحيّ بما يتلاءم مع الحياة الجديدة. 

في هذا السياقِ، يقولُ الشاعرُ محمد إقبال:

حديثُ الروحِ للأرواحِ يســــــــري              وتـدركــه القـلـــوبُ بــلا عنــاءِ

هتفتُ به فطار بلا جــنـــــــــاحٍ             وشــقَّ أنـيـنـــُه صــــدرَ الفضـاء

ومعدنه ترابيٌّ ولـكـــــــــــــــن                  جـــرت فــي لفـظـــــه لغةُ السماء

لقد فاضت دموعُ العشقِ منــــــــي          حديـثـًا كان علـــــويَّ الـنــــداءِ

فحلَّق في ربى الأفلاكِ حـتـــــــــى          أهـــاج العالـــمَ الأعلــى بُكائي

قيثارتي مُـلـئــت بأنـّات الـجــوى          لا بدَّ للمكـبـوت من فـيـضــــــانِ

صعدت إلى شفتي خواطرُ مهجـــتي      ليبيــنَ عـنهــا منطـقـــي ولسـانـي

أنا ما تعديّتُ القنــاعةَ والرضــــى        لكـنـَّمـــا هي قـصـــــةُ الأشـجانِ

يشكـو لك الَّلـهـم قـلـبٌ لم يـعش          إلا لــحـمــدِ عــــلاك في الأكـوانِ

إذا الإيـمـانُ ضـاع فلا أمــــــانٌ            ولا دنيــا لــمــن لــم يحـــي دينــا

ومن رضي الحياةَ بغيرِ ديـــــــــنٍ           فقد جعل الفـنـــاءَ لـهـا قـــريــنـا

وفي التوحـيدِ للـهـمـمِ اتحــــــــادٌ             ولــن تبنـــوا العــلا مـتـفرقينــــا

ألــــم يُـبـعــث لأمـتـكـم نبـيٌّ              يوحّـدكــــم علــى نـهـــج الوئــــام؟

ومصحفكـــم وقبلتكم جمـيـعًـا            مـنــــارٌ للأخـــــوّة والــســـــلامِ

وفوق الكلِّ رحمـــنٌ رحيــــــمُ             إلـــــهٌ واحــــــــــدٌ ربُّ الأنــــامِ.

 

في هذه الأبيات، يبدو أنَّ قريحةَ إقبال الإيمانيّة فاضت بحديثٍ روحيٍّ لا يخلو من المناجاة، والشكوى طمعًا في رضاه ورحمته، وهكذا دعا إلى التمسّك بقيمة الإيمان، وبتعاليم الدين الإسلاميّ، وذلك في قالبٍ شعريٍّ اتّسم بخلق جرس موسيقي تستعذبه النفوسُ، وتتجاوب مع رسالته.  

لا ينفصل ما ذكرناه مع مبتغى إقبال الحقيقي، فهو يروم تقديمَ فلسفةٍ خاصّةٍ بالإنسان سمّاها " فلسفة تأكيد الذات"، وهي في نظره مصدر الحركة والعمل ومصدر النور والحياة، ومركز الإنسانيّة، لذا وجب على الإنسان أن يعود  إلى ذاته كما يرى، يقوّيها ويدعّمها، وينفي عنها الخوف والجبن، ويذودها إلى الطريق الحق.

  فالذاتيّة حسب إقبال هي الأصل ومنها البداية، وعليه فإهمالها جهلٌ بأصل الداء ورأس كل بلاء. أمَّا نظرته إلى فلسفة الذات كما يحلو إليه فهي نظرةٌ فلسفيّة إسلاميّة، قرآنيّة نهضويّة، مادام الإسلامُ استطاع أن يبني ذات الإنسان ومجتمعه ماديًّا ومعنويًّا؛ ومن ثم تحريره من دونيته، صاعدًا به إلى عالم الروح، وذلك بغية تجديد الفكر الدينيّ.

 حيث العمل على صياغة جديدة للمعطيات الإسلاميّة عن الكون وعلاقته بالإنسان على نسقٍ من الأساليب الحديثة، موفِّقًا بين هذه المعطيات من النصوص القرآنيّة، وبين معطيات العلم الحديث، بعدما استشعر الفراغَ الفكريَّ الذي يجده الشبابُ المسلمُ في ظلِّ هيمنة الفكر الغربيّ عليه.

بعد أربعةِ أعوام تقريبًا من "الشكوى"، حاول "إقبالُ" الردَّ على منتقديه، لذلك وضع جوابًا من الله للمسلمين على شكواه، ليرضي كلَّ العلماء الذين عملوا على مهاجمته، وفي هذا الصدد جاءت قصيدة "جواب الشكوى".

والحق أنَّ المنحى الروحانيّ الصوفيّ هو السائد عمومًا في قصيدة "حديث الروح"، بحكم تأثر إقبال بالتراث الصوفيّ الإسلاميّ، فقد تأثر بجلال الدين الروميّ، ونور الدين الجامي، كما تأثر في الفلسفة الغربيّة بجوته ونيتشه وبيرجسون. وهنا يحرص إقبال على التمييز بين الوعي الصوفيّ والوعي النبويّ لاختلاف مقاصدهما.

 فالوعيُّ الصوفيُّ، يسعى لتسامي الروح كي تتطابق، وتفنى في المطلق، في حين أنَّ النبيَّ - وأتباعه المسلمين- لا يطمح إلى نشوة الوصول إلى الفناء في المطلق، بل يتسامى إليه ليحصل على الزاد الذي يعينه على العودة مرة أخرى إلى أرض الواقع، ليعمل على إعمار الحياة، ومواجهة تحدياتها.

هكذا عملت أم كلثوم بصوتها الشجيّ، الممزوجِ بألحان السنباطي أن تحوّل قصيدة "حديث الروح" إلى إبداعٍ فنيٍّ قلَّ نظيره في عالم الموسيقى؛ فقد استطاعت الأغنية أن تجمع بين الدين والروح والتاريخ والجغرافيا والأدب والفن والموسيقى؛ لذلك قال الكاتبُ المصريُّ أحمد حسن الزيات عن محمد إقبال: "نبتَ جِسمُه في رياض "كشمير"، وانبثقت روحُه من ضياء مكة، وتألف غناؤه من ألحان شيراز. لسانٌ لدين الله في العجم يفسر القرآن بالحكمة، ويصوّر الإيمان بالشعر، ويدعو إلى حضارة شرقيّة قوامها الله والروح، وينفر من حضارة غربية تقدِّس الإنسان والمادة".

تأسيسًا على ما سبق ذكره، فإنَّ أم كلثوم عند اختيارها غناء "حديث الروح" لم تبتعد عن موقف إقبال من الفن عمومًا، وبالمناسبة فإقبال يطالب في الفنِّ أن يكون كاملًا من ثلاث نواحٍ، سواء كان الفنُّ شعرًا أو موسيقى أو تصويرًا أو عمارة.

أولًا: لا بدَّ من أن يبذلَ الفنانُ جهدًا في تربية فنّه، وتنمية مواهبه. وثانيًا: أن يبذل الفنان جهوده في إظهار شخصيته، وإبداء ذاتيته، فلا يكون فنُّه تكرارًا محضًا، وتقليدًا صرفا لما أسلفه الفنانون الآخرون.

ثالثًا: أن يستهدف الفن أهدافًا نبيلة، ويساعد في تقوية ذاتيّة الفرد والمجتمع على أسسٍ سليمة، فإذا ساعد الفنُّ في تنمية قوى الحياة، وتربية مواهب الذات، فهو مقبولٌ ومحمودٌ لدى إقبال، وأمَّا إذا كان الفنُّ يدفع الفرد والمجتمع إلى الفناء وينوّمه، ويستحثّه على الرذائل؛ فذلك غير مرغوب ولا محمود، والحق أنَّ "حديث الروح" لإقبال بلغت قمّةَ الفنِّ الموسيقيّ والغنائيّ بصوت أم كلثوم بنفحاته الصوفيّة، والموزّعة بين الشكوى تارةً وجواب الشكوى تارةً أخرى، بحثًا عن الخلاص المطلوب، عبر صورٍ يُخيّل للمتأمل فيها أنَّه يكنها في نفسه، لكنَّه لم يكن يدري كيف يبرزها ويخرجها، ثم جاء إقبال الحكيم، وقدّمها له فريدةً مؤثِّرةً وموفقة، وتلك من أسرارِ جماليّة " حديث الروح" .