أمزج الكآبة بالمشي

 قصيدتان  

                    أمزجُ الكآبةَ بالمشي 

آلاء حسانين

 شاعرة مصريّة 

 

ربما الحياةُ كانت مرضًا

١-

أبدأُ بالقولِ أنا

ثم أصمت طويلًا

هذا خندق لا أستطيع تجاوز

كتلة من الكدمات تدعى أنا

وأحيانًا هم، أو نحن، أو الآخرون 

دمية من القش، 

وجهها للجدار

وظهرها للنهر.

 

ليست الصدفة، ولا الحظ

كل شيء ابتدأ خطأً

زلة ما، زلقة قدم فوق حجر ناعم. 

 

والآن، ها أنا هنا

سلسلة من الأخطاء جرفها ماءٌ كثير

ماء حيّ

أجداد على الضفاف، 

ربما نعرفهم، 

رموا أسرارهم في النهر

شباكًا بنوايا حسنة ونسل كثير. 

 

 جدّي كان بحارًا

قالوا بأنَّه عبر بلادًا كثيرة،

بزورقٍ وشراعٍ ومزاجٍ عكر  

قالوا بأنَّه كان جنديًّا أيضًا، ونجا 

من الزرقة، ومن اليباس، ومن الطلقات السائبة. 

 

لم يعد أحد مثلما ذهب

الأطفال كثيرو الضحك، الذين حسبوا المعركة سجالًا بالكلمات البذيئة

الجنود الذين كبروا في الخنادق ولم يمت بعضُهم سريعًا 

لكن، لا يطلب المرء كثيرًا حين يخرج من حربٍ ورأسه فوق كتفيه 

 

البعض نجوا من أزمنة رديئة

لكن ليس تمامًا

في قلبِ المنزل، بعد سنواتٍ طويلةٍ وأحفاد كثيرين

قال جدّي بأنَّ البنادق ما تزال تطلق في الهواء

وأنَّه ما يزال يسمع صليل المعاول تحفر القبور

 

وقال بأنَّ الأحصنة يجب ألّا تموت

يا له من عالم سيء، 

هذا الذي يموت حصانٌ فيه

 

يا لها من حيوات عديدة

جاءت قبلي

يا لها من أخطاء

تلك التي أوصلتني إلى هنا!! 

 

والآن، ها أنا أمزج الكآبة بالمشي 

أبرّر الحياة بالسهر والصحو الباكر 

بأول النهار وآخر الليل 

 

وأذرع البلدة آتيًا وذاهبًا

أبحث عن سببٍ للحزن، عن سببٍ للحرب، وعن سببٍ للحب 

ربما الحياة كانت مرضًا، الحبُّ علّةٌ قديمة، والحزنُ دمٌ ملوث

ربما كنتُ خطأً، أو بالتأكيد 

لكن، رغم ذلك

ما الذي أفعله؟ 

أنا، رمالُ الأخطاء التي تتفتت عند الضفة.

 

 

٢- الصيّادُ الغريبُ

 

الصيّادُ مات البارحة

الصيّادُ الغريب 

مرَّ على القرية 

يجرُّ زلاجته.. 

لحظات من السكون هبطت حين مرَّ

وحين مات.

 

الناسُ في الحانة تبادلوا النظرات لبرهة

كأنَّ الموسيقى أُطفِئت

ثم أُشعلت من جديد.

 

مكعب الثلج انزلق من بين الأصابع 

بجانب الكأس

القاربُ اهتزَّ اهتزازًا خفيفًا 

والسنارةُ التي ثبّتها بين الصخور صبية متململون

حركت بعنف الماء الراكد؛

علقت بها دمعة ثقيلة.

 

بقعٌ زرقاءُ غطّت جسده

لم ير طبيبًا 

ولم تفاجئه الألوانُ

رسم بضجرٍ دوائرَ حول جلده الذي أخذ يتعفّن شيئًا فشيئًا. 

 

لم يُثر ضجيجًا بموته

لكن ظلًّا نام فوق الطرق التي مشى فيها

بقعٌ من الشحم التصقت بمقعدٍ جلس مرةً فوقه

دمُ غزالٍ مذبوحٍ للتو بلّل منضدةً وضع عليها كأسه..

 

الناسُ لاحظوا أشياءَ لا يبوحون بها عادةً

أشياء تجعلهم منشغلين بإصلاح ياقاتهم حين تنطفئ الموسيقى فجأة في البار

أو حين تفرغ الجمل التي حفظوها أمام المرآة

 

شيءٌ من التردّدِ خلّفه الصيّادُ حين مات

نفحةٌ حزنٍ أخلّت بسكون الأشياء 

الصيّادُ الذي غربته 

أكبرُ من أن تُنزلَ دمعةً 

أو تصنعَ جنازة.

 

الصيّادُ الذي لا بيتَ لحزنه

لا بابَ

ولا نافذة.