سفر

 روند الكفارنة

قاصة أردنيّة

ترمقني تلك العرّافةُ، ترمقني بنظراتٍ غريبةٍ وأنا بالعادة أخشى الغرباء، وأخاف النظراتِ التي تحمل معنى كأنَّها تخبرني حكاية، ناديتها؛ جلست! فرشت ودعها، وشوشت الودع، نظرت في وجهي.

- هل أنتِ على سفرٍ؟!

ابتسمتُ:

- الأكيد، أنَّنا إمَّا مسافرون، أو سنسافر بعد قليل.

لم أحدّثها عمَّا يأكل جسدي، يخبرني أنَّ أوراق روحي بدأت بالاصفرار، ولربما تتساقط كشعراتٍ تغادر رأسي.

- في سفركِ خمسة مراكب.

كيف سأشرحُ لها أنَّ جلسات العلاج الكيميائيّ تنقلني من حال لحال، تأخذ من روحي وجسدي، تنقلني كأنَّها تنقلني بالزمن، الجلسة بعام أو خمسة أعوام، لا يشبه وجهي وجهي، ولا تشبه روحي روحي.

- في سفركِ مسافرٌ عنيدٌ لن يتركك، سيمسك بك لآخر الرحلة.

لا أدري من تقصد!! هل هي الخلايا التي تعود، أم رجلٌ لم يخذلني –قطُّ- حين تغيّر شكلي؟!، كان يمسك يدي ويخبرني أنَّ كلَّ شيء سيكون على ما يرام، من منهما مسافري العنيد؟. هل بدأت أصدّقها، أم أنّني أُسقط كل ما تنطقه على حالي، يبدو أنّني أخذتُ بقضيّة الإيحاء، إنَّها توحي إليَّ بما تريد فأُصيغه بما أُريد.

- هل تأخذين كلَّ ما تعطيك الدنيا؟

أكاد أجنُّ! هل فعلًا تعني أنَّها تعلم أنّني رفضت آخر جلسة؟، لقد تعبت كثيرًا وسخطت، من حقي أن أسخطَ، لا يتلقى العلاج إلا أنا، وكل من في الغرفة يعاني، أنا وحدي أقاسي مخاض اللحظات، وألد ألمي، وكلهم يترقبون، ينتظرون، هل عليهم أن يملّوا، حتى أفهم أنَّ الموت هو العمل الأصعب..؟!.

أن تختار ألا تحارب، أن تستسلم، لماذا يُعدُّ الاستسلام عملًا جبانًا، بينما أن تتخلى عن روحك، أن تقرّر أنَّه حان الوقتُ، تشدُّ روحك جيّدًا، تربط كلَّ مشاعرك على أعلى رأسك ككعكة جميلة، وترفع كمَّ اللحظات الجميلة، تشمِّر عن ساعد الجمال، وتبدأ تحفر قبرك بلا مبالاة.

- يا ابنتي توقّفي، لديك دورٌ، لديك ابن لم تنجبيه، ينظر إليك يدعوك ألا تستسلمي.

مجنونة تلك! أو تعرفني، كيف تعلم أنَّني أتخيّل نفسي صحيحةً مرّةً أخرى؟ أحضّر معه قهوته، أشربها معه، وأدسُّ له ورقةً صغيرة، أكتب فيها جملًا على عجل، ليتفاجأ بها عندما يصل عمله، أو لتشكّل فضيحةً إذا وقعت عند بائع الدكان، أرتّب يومه، وكنت أتخيّل أن أنجب له طفلًا ذكرًا يشبهه تمامًا، سيناديه بأيِّ اسم بالعالم، وأنا سأناديه  باسمه، ولن أناديه بغير اسمه، كم تبدو أحلامنا الصغيرة صعبةً جدًّا! كم يبدو حلمًا عاديًّا ترفًا، يقترب مني، فما المانع أن نستقيظَ معًا وأعدَّ له قهوته، فقط القهوة.؟!.

-يا ابنتي؛ هنالك ما زال لديك فنجانُ قهوة، اشربيه أو اصنعيه.

 هي لملمت ودعها وغادرت.

 وتركتني أوضِّبُ ملاءة السرير، أشدُّ غطائي على نفسي، وأأُكّد للممرضة أنَّ الحقنةَ المهدّئةَ قامت بمفعولها تمامًا.