وخزة

محمد حسين السماعنة

قاص أردني

 

اليوم هو الخميس السابع من آذار، والفلّاحون يتحلّقون بحبٍ حول النار في مضافة المختار، يرتفع  صوتُ قهقهاتهم حينًا وصوت جدالهم أحيانًا، وسحابةٌ ضخمةٌ من الدخان معلقة في سقف المضافة، وبين ضحكةٍ هنا و"قحةٍ" هناك، ونحنحة هنا وصرخة هناك، دخل (القطروز) الأزرق العينين المضافة مسرعًا، تشعل أنفاسه الدهشة، وجلس متكوّرًا إلى جانب أذن المختار، وشوشه؛ فانتفض المختار وقام من مجلسه، فساد الصمت، وبدت نظراتُ الفلاحين قلقةً وجلةً ترقب بحذر ما سيقوله المختار، ولم يَخِب ظنُّها فقد رفع المختار يدَه، وفتل شاربَه، وهزَّ عصاه، وضربها بأرض المضافة، وقال بحدّةٍ وصرامة: 

- فليحضر هو ونظّارته إلى المضافة الآن، اذهب من فورك إليه، وقل له إن المختار يطلبه.

ولم تمضِ ساعة حتى كان (القطروز) يقتحم صمتَ المضافة ممسكًا بجيب قميص شاب نحيلٍ،  فارع القامة، طويل الشعر، أسمر، يلبس بنطالًا أزرق، وحذاءً أسودَ لامعًا.

دفع (القطروز) الشاب بقوة وخشونة إلى حيث يجلس المختار، الذي لكزه وقال له باستخفاف: 

- سمعنا أنَّك تحمل في جعبتك نظّارة تستطيع رؤية المستقبل!!.

 ثم ضحك، وأرخى يده التي تحمل العصا، وقال وهو يبعث نظراته بين وجوه الفلاحين المتمترسين خلف دهشتهم: 

- سنرى الآن صدقك من كذبك، وويلك ثم ويلك إن كنت تكذب. 

وقف المختار بزهو وسط المضافة، وقال: 

- هذا محمد ابن أبي جمال،  أرسلناه ليدرس الفلاحة في ألمانيا منذ سنوات، فانقطعت أخباره، وها هو قد عاد إلينا يحمل (دهوكات) المشعوذين!

حاول محمد ابن أبي جمال أن يقول شيئًا؛ لكن المختار أسكته، وحذره وهدّده بعدد من الوكزات والنظرات، وقال له بصوت ملأ المضافة، وتردّد صداه حتى سمعه من في الخارج:

- اخرس، ولا كلمة، لا أريد أن أسمع صوتك!

ضرب المختار الأرض بقوة بعصاه ثم قال بغضبٍ: 

- الآن سنرى!! 

ثم طلب من (القطروز) إحضار النظّارة منه، وإعطاءها لأبي علي الفران الذي استلمها بخوف وقلق.

لاحظ المختار ما أصاب أبا علي الفران فقال له مُطمئِنًا: 

- كلنا سنلبسها، كلنا سنلبسها، لنرى ونحكم.

فصاح محمد ابن أبي جمال:

- لحظة، لحظة! هذه النظارة... 

ولكن (القطروز)  منعه من إكمال جملته، مما أدخل الشك والخوف إلى قلب أبي علي الفران، فقال:

- دعه يقول ما يريد يا رجل!

فنظر (القطروز) إلى المختار الذي أشار إليه بإصبعه ليتركه، فوقف محمد ابن جمال بضعفٍ وارتباكٍ، وقال:

- هذه النظّارة لا تعمل إلا وفق شروط!

فسأله المختار باستهزاء: 

- وما هي هذه الشروط؟

عدَّ محمد ابن أبي جمال سؤال المختار تصريحًا له ليتحدث بحريّة، فوقف كالمنتصر بثباتٍ وثقة، وقال:

- على الذي يلبسها أن يثق بما يراه، وأن يصف ما يراه، وأن يفتح عينيه على اتساعهما.

المختار بتردد: وإلّا؟

محمد ابن أبي جمال:

- لا أعرف ما سيحصل له! 

ثم نظر في وجوه الفلاحين، وقال:

- ولا تنسوا أنَّ هذه النظّارة ترى المستقبل، وقد تتطلع إلى الماضي المخبوء!

صمت المختار برهةً، طنّ بفيه، وأراد أن يوقف محمد ابن أبي جمال عن الكلام، ولكن محمد تنبّه إلى ذلك؛ فأكمل حديثه من غير أن يلتفت إلى وجه المختار: 

- ومن الشروط أن يلبسها أعلى القوم مكانةً، ثم يلبسها  من بعده أحبُّ الناس إليه، وتذكروا أنَّ في لبسها حالات منها: أن يرى لابسها الماضي وحده إن كان بلا مستقبل، وهنا يقال له أنت ميت في جسد حي،  أو يرى الحاضر إن كان بلا ماض وبلا مستقبل، أو يرى المستقبل إن كان ممن لهم مستقبل.

 وتوجّهت العيون كلها إلى المختار الذي سارع إلى وضع النظّارة على مسافة من عينيه، ثم ثبّتها على وجنتيه على مضض، فتح عينيه على اتساعمها، وكلام محمد ابن أبي جمال يتردد صداه في ذهنه؛ "...ميت وأنت حي".

وأغمض عينيه مرةً أخرى، وفتحهما على اتساعهما، ثم أغمض عينًا وفتح الثانية، وانتظر قليلًا،  ثم قال: يا الله يالله، ما أجملك يا قريتنا! بنايات عالية، مصانع ضخمة، شوارع نظيفة واسعة معبدة، حقول خضراء، وسلال ضخمة من الغلال تخرج منها، هناك ملعب كبير، وهناك عيادة كبيرة ...

سأله أبو علي الفران بفرحٍ: 

- وكيف ترانا يا مختار؟

قال المختار وهو ينزع النظّارة عن وجهه بغضب: سامحك الله يا أبا علي قطعت عليَّ رؤية مستقبل القرية الجميل.

وضع أبو علي الفران النظّارة على عينيه وانتظر قليلًا  كي يرى شيئًا من أطراف المستقبل، ثم وقف وسط المضافة، وقال: 

- يا الله يا أهل قريتي، ما أجملكم، تمشون بملابس جديدة، وتركبون الخيل الأصيلة! 

فصاح أحدهم بفرح: هل تراني، أنا سعد ابن أبي سعد الطيان؟ 

فنزع أبو علي الفران نظّارته بغضبٍ، وقال: 

- سامحك الله يا سعد؛ قطعت عليّ رؤية مستقبل رجال القرية!

حمل أحد الفلاحين النظّارة ووضعها على عينيه، ثم أغلقهما، ثم فتحهما، ثم فتح عينًا وأغلق الثانية، ثم صمت قليلًا، وقال بحزن: 

- أراكم كما أنتم.

 ونظر إلى المختار، فشدَّ (القطروز) يدَه، وقال وهو يناول النظّارة لجاره: لكنّني رأيت المختار قد زاد وزنُه قليلًا.