المشهدُ النقديُّ في الأردن

 

مداخلة د. عبدالرحيم  مراشدة

أكاديمي وناقد

       لا يمكن بحالٍ من الأحوال تناول مسألة النقد في قُطرٍ معين بمعزل عن المؤثرات المحيطة في هذا القُطر، لا سيّما وأنّنا نعيش في عالم يصغر فضاؤه يومًا بعد يوم، وفي ظروف متسارعة التحوّل، وكلنا يعلم أثر تحوّلات العصر بعد الثورة الرقميّة أو ما يسمى ثورة الإنفوميديا – الاتصالات؛ لهذا لا بدَّ ابتداء أن تناقش هذه المسألة (المشهد النقدي في الأردن) من خلال العلاقة بين الأدب والنقد في المحيط من جهة، ومن خلال البعد العربيّ والدوليّ من جهة أخرى.

     هنالك محاور يفترض الوقوف عندها، مليًّا وبتمعن، بخاصة في ندوة من هذا القبيل، لتحديد المرتكزات والمنطلقات بشكل عمليٍّ وهادف، حيث إثارة الأسئلة تستدعي حواريّة فكريّة وصولًا لمرتكزات أكثر إنتاجيّة، بمعنى الوقوف على قضايا تشغل تفكير المبدع والناقد والمتلقي، نقول ذلك لأنَّ العملية النقدية تقع ضمن مثلثٍ فكريٍّ مهم، ذلك أنَّ النصَّ، أنّى كان هذا النص وسيطًا بين فكرين، المنتج النص والمتلقي، وبذلك تتلاقى وفق هذا الاشتغال النصي ثلاثة أفكر؛ هي: فكر منشئ النص وفكر النص – بما فيه من مرجعيات، وفكر القارئ بالمفهوم الواقي لمعنى القراءة، من هنا جاز لنا إثارة الأسئلة، بما يتوافق ويتسق مع حالة النقد الراهن في الأردن، وسوف لا أحيل للسياق التاريخي إلا حيث يكون ذلك ضرورة، حيث وفّر علينا الزميل عماد الضمور هذه المسألة في ورقته التي تناولت المسرد التاريخي لحركية النقد في الأردن، ومن الأسئلة التي ارتأيتُ إثارتها:

1- ما هي الأشواط، والمراحل الزمكانية التي تم  قطعها من حيث مواكبة الدرس النقدي المحلي، مع الأخذ بعين الاعتبار الجيل الصاعد في حركيّة الإبداع، ومن ثم مواكبة النقد العربي والعالمي، وهل نحن مررنا بهذه المراحل بهمة واعية وببصيرة واقتدار؟

2- ماهي العوائق والمزالق التي تقف أمام حركيّة النقد في الأردن، وما هي نقاط القوة المتاحة لنا بوصفنا نقادًا في هذا الوطن الأعز؟

3- هل نحن تابعون ونجتر النقد العربيّ والعالميّ، وما مدى تأثرنا بالآخر، وهل نؤثر فيه، بمعنى هل لنا خصوصيّة ما يمكن تسجيلها على الساحة النقدية العربية والعالمية؟

4- هل هناك مؤسسيّة في التعامل النقدي، ونمتلك القدرة على التجاوز والتخطي والتطور، وهل لدينا تبعًا لذلك مراكز بحث ودراسات تُعنى بالمنتج الأدبي المحلي  والعربي والعالمي؟ 

5- هل وصلنا للتعامل منهجيًّا، وأركّزُ هنا على المنهجيّة، لما لها من أثر قيميّ؛ حيث هذا البعد يصب في استراتيجيات النقد. وهل وصلنا لقاعدة صلبة تتجاوز التنظير وصولًا لإنتاج نقد له بصمة عربية خاصة، بمعنى هل عُرف العرب في العصر الحديث باكتشافات نقدية تسهم في تحولات المناهج، أو لها قدرة على اجتراح منهج لا يشير إلا إليهم، منهج له سمات عربية وأعلام مختصّون من حيث الريادة والابتكار، أم ما زلنا تحت ضغط التبعيّة للمناهج النقدية الوافدة؟

6- السؤال الأهم الآن: النقد العربي إلى أين؟  لا سيّما وأنّنا نعيش في حمى الفوضى النقدية العارمة التي  تجتاح الأوطان، من حيث إشباع الساحة النقدية بالمنتج الأدبي، والمنتج النقدي الفوضوي، في جيل معاصر يلهث خلف الصورة والإعلام والإشهار لكتب تتدفق، يسيل لها اللعاب والغثيان بشكل مختلط إلا ما رحم ربي.

7- مع حمّى التفريخ اللاعقلاني للهيئات الثقافيّة، وهذا ما سمحت وتسمح به القوانين الفضفاضة المتعلقة بإنشاء هيئات ثقافيّة غير وازنة، أضرب مثالًا على ذلك: في إربد وحدها تجاوز العدد مائة وأربعين هيئة ثقافيّة، فأية ثقافة هذه؟ لا بد أن ينبع التفكير بإنشاء هيئات ثقافية وازنة إلى استراتيجية علمية معقولة. إن القوانين التي لا تتبين الحد الأدنى من الإبداع والفن على الإطلاق، هي قوانين مربكة والقوانين الناظمة لهذه المسائل يجب أن تتحدد وتقترح وتنشأ من الجسم الثقافي نفسه، وهو المدرك لعملها، ووظيفتها، مثال ذلك أنَّه بإمكان أسرة من سبعة أفراد تكوين هيئة ثقافيّة، وفي مراجعة بسيطة للتعليمات الناظمة لها نراها تتصف بتكرارية مقيتة مع  الهيئات الأخرى، وهنا نسأل ما هو الجديد؟ وما هو الممكن لفتح أفق مختلف؟

8- لِمَ لا تستثمر بعض الأفكار الوافدة من مؤتمرات وفعاليات ومهرجانات لها علاقة بالفكر النقدي العربي والعالمي، ويجري الإفادة منها في إنجاز منتج نقدي متقدم معرفيًّا وفكريًّا، ولا تنتهي الأفكار بانتهاء الفعاليات؟ ما نراه اليوم احتفاليات وضجيج، وهنا ألفت الانتباه إلى الإعلام الرسمي الذي يصر على أن يبقى ضمن إشهار وتقديم الشخصية أكثر من تقديم وإشهار المنتج المعرفي المتنوع لإدارة رحى المعرفة، بحيث لا نقول كما يقول المثل: (أسمعُ جعجعةً ولا أرى طحينًا أو طحنًا). كان يمكن استثمار بعض المؤتمرات الدوليّة النوعيّة حول الأدب والفكر النقدي، وليست البضاعة المكرورة والاحتفاليات الفجة والمكرورة، وما أكثرها. هل تركت المدن الثقافية صروحا علميّة وشواهد على الأرض لتخلد ثقافة ثمينة يحكي عنها العالم، ويشار إليها بالبنان، وهل وجدت هذه المدن الإعلام النوعي المهني لتبدو هذه المدن راقية بصفة عالمية؟

9- اذا استثنينا بعض المؤتمرات المهمة التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، على الساحة النقدية في الأردن، والتي جرت في بعض الجامعات، ومثلها في المؤسسات المعنية بالثقافة والإبداع، لوجدنا تراجعًا واضحًا في المؤتمرات النوعيّة، وتحوّلت إلى بهرجة إعلامية وإلى تجارة، وأصبح الأمر يتجه إلى تسليع العلم بأساليب غير نظيفة لدى بعض الجهات القائمة على المؤتمرات. صرنا نترحم على أيام المؤتمرات التي كنا شغوفين لحضورها حتى ونحن طلاب، المؤتمرات الآن يتقلص حضورها من المعنيين بحيث لا يتجاوز الحضور أعداد المؤتمرين أنفسهم والمصوّرين وحشر بعض الجمهور بطريقة أو أخرى لحفل الافتتاح؟!! وبعد ذلك، ووفق التجربة تبدو كما لو مجرد تسليك وضع ما، إن جاز التعبير. سقيا لأيام المؤتمرات الحافلة بالعلم والمعرفة.

      أقدم لكم مثالًا لمؤتمر نشر عنه في مجلة العروة موضوعه: القصة والأدب العربي، نشر في العدد الأول من السنة الرابعة، كانون الثاني عام 1939، أزعم  أن ما نشر فيه يرقى لمستوى لم يتجاوزه النقد العربي في كثير من الأقطار العربية، وقد حرّر المجلة فريق من أعضاء الجامعة الأمريكية ببيروت، ولعل محورًا من محاور العدد جاء ليلقي الضوء مبكرًا على حركيّة القصة في الأدب الغربي مقابلةً بالقصة في الوطن العربي، وقد جاء العدد متزامنًا في السياق التاريخيّ مع بدايات ظهور مدرسة الرواية الجديدة على يد روّاد مهمين بينهم: ألن روب غرييه وناتالي ساروت وفرجينيا وولف... هذا يعني مواكبة النقد للحركة النقدية العالمية.

النقد ونقد النقد إلى أين؟

     كان النقد مع أواسط القرن الماضي حتى نهايته معافى إلى حدٍّ ما، مع أنّنا لا ننفي وجود نقد رصين هنا وهناك، لكن راح النقد يتراجع بشكل لافت، بعد انفلات الرؤية الفكريّة عند شيوع العولمة، واندلاع الحركات والغزوات الفكرية الوافدة، ومع موجة الفوضى السياسية والاجتماعية التي عمّت العالم العربي، في الربيع العربي وجائحة كورونا، وفوضى مواقع التواصل الاجتماعيّ، التي أتاحت اختلاط الحابل بالنابل والغث بالسمين، هذا الأمر يحتاج لدراسة الحالة النقديّة في بلادنا والتي تأثرت بالضرورة بما يهب عليها من رياح الجوار. لعلَّ هذا ما حدا بناقدٍ عربيٍّ معروف وهو الدكتور صلاح فضل للقول: " نحن نعيش زمن المجاعة النقديّة" وهذه إشارة لافتة بمثابة الدق لناقوس الخطر أمام حركيّة النقد العربي. المعاصر، هذا يستدعي البحث عن ناقد نوعي لديه دربة وقدرة على الغربلة،  فكم نحتاج إلى غربال، بتعبير ميخائيل نعيمة، ولهذا سيحتاج الأمر إلى تعريف من هو الناقد، وما هي وظيفته، واستراتيجيته، كل هذا وغيره يستدعي الحرص على تخفيف حدة التراجع القيمي للنقد في عصرنا، والحرص غلى الانتقال لموضوعة نقد النقد وعدم الاكتفاء بالنقد الفردي المتشظي الذي أصبح، غالبًا،  يتمحور حول موضوعات مكررة، كما لو مقالة لصحيفة على الأغلب، ويزاحم ذاكرتي الآن سؤالٌ أو استفسارٌ: هل التربة الثقافيّة في الأردن مع هذه المعطيات لم تزل صالحة لصناعة أديب متميز ويعيش على تربة خصبة وبيئة تعينه على الإبداع النقديّ بشكل خاص؟ أعني الظروف  الفكريّة بخاصة والواقع السياسي والاجتماعي...  الإجابة قد تحتاج إلى ندوة خاصة. 

       يمكن القول، بعد ما سلف، إذا ما سلطنا كاميرا على المشهد الأدبي والنقدي: ما أكثر الشعراء وما أقلَّ الشعر!! وما أكثر الرواة وأقل الرواية!! وما أكثر الفنانين وأقل الفن ... !!، ثم ما أكثر النقاد وأقل النقد!!، باختصار الإبداع والنقد عليه إلى أين؟ ولنا أن نؤكّد على حقيقة هي: كلُّ أجهزةِ العالم وتقنياته الفنيّة لا تصنع ناقدًا ولا مبدعًا.

      هناك مسألة أخرى ما زالت تشغل الوسط النقدي والإبداعي وهي: ما دور المسار الأكاديمي في مثل هذه القضايا؟!، وما مدى إسهامه في العملية النقديّة في الأردن؟، وما هو مصير البحوث النوعيّة المتراكمة في الجامعات والمؤسسات ذات الصلة؟، هناك إحساس بخسارة فادحة من تراجع الاعتماد على الكتاب الورقي، وخسارة في تراجع عمليات الطباعة، ثمة معضلة في مسار البحوث العلميّة حيث باتت تنحصر في هدف يسير في حلقة مغلقة وصولًا للترقية غالبًا، أو لنجاح طالب في مسار الدراسات العليا، ولم تعد الأبحاث موجهة للمتلقين المتعطشين للمعرفة والعلم، حيث غالبيتها متراكمة في رفوف مكتبات الجامعات، قضية أفرزتها المسارات الأكاديميّة، إذ باتت اللغة العربية وآدابها، والعلوم الإنسانيّة ضحية تسليع البحوث العلمية عند نشرها، حتى بلغ الأمر بالباحث في اللغة العربية والنقد عاجزًا عن النشر في المجلات العلمية المحكمة بسبب من المعايير التي باتت في خدمة العلوم البحتة والمجردة... مثل العلوم والحاسوب والتكنولوجيا ...الخ، وليس هذا فقط، بل أصبحت جهات خارجية تتحكم في قيمة البحث وعلميّته وجواز نشره، وفق معايير لا تتناسب وظروف وبيئات وأحوال المجتمعات العربية، إضافة إلى أنَّ هذه الجهات تسعى للربحيّة، فأصبح الباحثُ العربيُّ أينما كان محكومًا بتبعيّة سيئة، يخضع فيها للاستنزاف المادي والمعنوي، وهذا ما يؤثر على قيمة البحوث وعلميّتها وإنتاج الإحباط لدى المشتغلين بالأبحاث في العلوم الإنسانيّة بخاصة، آن لنا أن نفيق ونعيد ترتيب أوراقنا، ونراجع مواقع الخلل والضعف لإجراء معالجات ممكنة، ونسعى في الوقت نفسه لتشجيع النجاحات التي تتواجد هنا وهناك في المدونات الإبداعيّة والنقديّة، والإفادة منها وتعميمها على المشتغلين بالنقد والأدب عبر المسارات والجهات المعنية والممكنة.