المشهدُ النقديُّ المحليُّ بوصفه جزءًا من أزمة النقد العربيّ الآن.

 

مداخلة أ. فخري صالح

ناقد وباحث

يمكن لمن يتأمل المشهدَ النقديَّ في الأردن أن يلاحظ أن أمراضه هي نفسها أمراض المشهد النقدي العربي بعامة، فهو يتحرك، سواء على صعيد القراءة أو الاختيار المنهجي، أو استخدام المصطلحات، في الجغرافيا الأدبيّة والنقدية ذاتها، رغم وجود بعض الاختلافات التي تؤكد صدوره من دائرة الأزمة نفسها، وتكراره للأدواء ذاتها. فلا شكَّ أن وفرة المناهج والتيارات النقديّة، التي أثرت وما زالت تؤثر في المشهد النقديّ العربي، هي عاملٌ مثرٍ وإيجابي. لكن علاقتنا بالغرب إشكاليّة، وهي تنسحب على النقد والنظرية، كما تنسحب على الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ للعرب في الوقت الراهن. وبغض النظر عن العوامل المثرية في هذا التفاعل بيننا والغرب، إلا أنَّ الإشكالية الأساسيّة التي تنوء بثقلها على المشهد النقدي العربي المعاصر تتمثل في تحوّل معظم النقاد العرب، وخصوصًا من يدرِّسون في أقسام الأدب منهم، إلى مجرد نقلة منبهرين بكل ما ينتجه الغرب من نظريات، وتقليعات نظرية، واللهاث الدائم وراء كل جديد هناك، حتى أنَّ بعض النقّاد يغيرون مناهجهم النقديّة كما يغيرون ملابسهم. ولا بد أن نقرَّ أنَّ هذا التقليد الببغاوي لا ينتج معرفةً نقديّةً، لا ينتج علمًا، أو يطوّر معرفتنا بالنصوص العربية المعاصرة، أو تلك الآتية من التراث، ولا يضيف أي جديد إلى الكتابة النقديّة العربية. لست ممن يدعون إلى إنتاج نظرية نقديّة عربيّة، كما شاع في بعض الكتابات النقدية العربيّة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ كما أنّني لا أومن بالعودة إلى نظريات التراث نستمد منها رؤى تكشف لنا عما يكتبه معاصرونا. لست من أنصار القطع مع الغرب، لأسبابٍ تتصل بالماضي الاستعماريّ والمركزيّة الغربيّة، ولست ممن يقدسون التراث ويظنون أنَّ لدينا ميراثاً نقدياً يضيء لنا عتمة الطريق. هذان الموقفان المتفاصلان يغفلان عن التراكم النقديّ، وما يرفده من فلسفة ومعارف وعلوم إنسانيّة، عبر العصور، وفي أحضان ثقافات ولغات متعددة، ومن ضمنها الثقافة واللغة العربيان. لكن النظرية بنتُ شرطها التاريخي، وهي لذلك تبالغ أحيانًا، وتشدّد على عناصر محدّدة دون عناصر أخرى؛ تحتفل بالعنصر الشكليّ في الأدب، مشيحةً البصر عن الشرط التاريخيّ الثقافيّ لإنتاج النصوص، أو أنَّها تقلّل من أهمية العنصر الشكليّ وأدبيّة الأدب لصالح قراءة أشكال الهيمنة والتحيز، والتمييز العنصري أو الإثني أو الجندري، والاستبعاد والإقصاء في النصوص الأدبية. ولا يمكن، انطلاقًا من هذا، إغفال تاريخيّة النظرية وارتباطها بالشروط السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي أنتجتها. لكن معظم المشهد النقدي العربي يتعامل مع النظريات بوصفها حقائق ثابتة، وصالحة لكل زمان ومكان، وهذا غير صحيح، لأن "البارادايم" المعرفي والنقدي يتغير عبر الحقب والمراحل والعصور. فالنموذج التفسيري الذي نخضع له الظواهر ذو شروطٍ تاريخيّة؛ في العلوم الإنسانيّة، كما في العلوم الرياضيّة والطبيعيّة. ومن هنا، على الناقد، والباحث في العلوم الإنسانية، أن يختار ما يناسب موضوعه، وما يكشف عن هذا الموضوع من الداخل والخارج، وما يثري معرفته بهذا الموضوع. أمَّا أن يظل الناقد أسير المقولات النظرية والتطبيقات، التي يستعيرها من هذا الناقد الغربي أو ذاك، فهذا هو ما أدى إلى الفقر الشديد، إن لم نقل الضحالة، التي تسم المنجز النقدي العربي خلال العقدين، أو الثلاثة، الماضيين. لقد كان هناك نوعٌ من انفجار المعرفة النقدية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وقد نقل عددٌ من النقاد العرب الذين اطلعوا على العديد من التيارات النقديّة الأساسية، البنيوية أو ما بعد البنيوية، او حتى تيارات التاريخانيّة، والمظاهر الجنينية الأولى للدراسات الثقافية ونقد ما بعد الكولونيالية، هذه المعرفة إلى زملائهم من النقاد العرب، وإلى طلبتهم كذلك. لكننا الآن نشهد نقلًا وتلخيصًا وتقميشًا، وقفزًا من تيار نظري إلى آخر، دون أن نتحصَّل على معرفة جديدة بالموضوعات أو النصوص التي نكتب حولها. 

لكن النقد العربي الذي حاول في السبعينيات والثمانينيات تعريف القارئ العربي بالنظرية الأدبيّة، وتياراتها المتتابعة المختلفة، التي يطلع بعضها من قلب بعض، كما طبَّق هذه النظرية على نصوص عربية من التراث والمرحلة المعاصرة، تراجع وبدأ يلهث وراء الجديد في هذه النظريات، دون أن يسأل نفسه ماذا تضيف هذه النظريات إلى معرفتي بثقافتي والنصوص المنتجة ضمن لغتي. إنّنا في حاجة ماسة إلى وقفة مع أنفسنا لنحدد ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. لكن ضعف المؤسسة الأكاديمية العربية، وضعف التعليم بعامة، وضعف التكوين المعرفي في الجامعات، أدى إلى ضعف النقد وانسحابه من المشهد الثقافيّ العربيّ. علينا أن نعترف أنَّ دور الناقد اضمحل خلال السنوات الأخيرة، لا في العالم العربي فقط، بل في العالم أجمع، لأسبابٍ كثيرةٍ يطولُ شرحُها؛ ولا أظنُّ أنَّ تحميل وسائط التواصل الاجتماعيّ، وثورة الاتصالات، والتطور الهائل في عالم تكنولوجيا المعلومات، كما يظنُّ "رونان ماكدونالد" في كتابه "موت الناقد"، يكفي لتفسير تراجع الناقد الأدبيّ في عالمنا المعاصر.