المشهدُ النقديُّ بين التكليف والتشريف

مداخلة د. حسام العفوري

ناقد وكاتب

يقولُ أبو الحسن الندوي: "لا نريد أن يكون في الأدب صور وتماثيل لا حياة فيها، بل نحتاج إلى أدبٍ ينفخ في نفوسنا حياةً جديدة، وروحًا جديدة".

إلى أين وصلت المرحلةُ النقديّةُ في المشهد النقديّ الأردنيّ الآن؟ 

لقد بدا النقدُ الجماليُّ بمظهر خالٍ من جماليات النص الأدبي الحقيقي، بل هو أقرب للجمال المصطنع الذي يعتني بتلميع الكاتب من خلال النص، ويبدو أن بعض النقّاد تخصّصوا في مهنة التزيين والمكياج، وهذا ما حوّله من نقد بناء إلى هدّام عبر النقد التزييني؛ الذي وصل مرحلة من مراحل نقد المجاملة بين الناقد والكاتب، أو أنَّ الكاتب أصبح يبحث عن ناقد يُفَصّل له نقدًا لعمله الأدبيّ يشبع نهمه، وينشر خبره، ويرفع من شأنه الأدبيّ، سواء من استحق ذلك، أم من لم يستحق، من الأدباء المبدعين أو غير ذلك، حسب ما يريد توصيله لجمهوره من الأدباء، وذوي القربى والأصدقاء، وعامة الناس، حتى لا يذهب ماء وجهه أمامهم بنقد حقيقيّ يكشف زيف أدبه، بما يطرحه الناقد من نقد منهجيٍّ علميٍّ موضوعي.

لذا؛ يُكلف الناقد بقراءة العمل الأدبي، سواء كان شعراً أم نثراً، من أجل الحديث عنه في حفل إشهار؛ فيكتب ما يروق لصاحب الكتاب، فيصبح النقد يُقص ويُفصل حسب ما يريد الكاتب، وليس ما يجده الناقد داخل النص من جيده ورديئه، بل يرفع ويُعلي من شأن النص، لرسم البسمة على وجه الكاتب، ووجه الضيوف من الخاصّة والعامة؛ وبعد ذلك تكون هذه القراءةُ الانطباعيّةُ ورقةً نقديّة ذات قيمة؛ ثم تنشر في إحدى الصحف؛ وهكذا تُصاغ العملية النقدية بالمنتديات والملتقيات، وغيرها من منصات الثقافة والأدب، وسرعان ما يتحول النقد من فنيٍّ إلى تشريفي.

ولعلَّ الناقد يحسب أنَّه يُحسن صنعًا، إذ هو يدمّر ما تبقى من إبداعٍ كتابي، ويجعله ما دون سطح النقد الفني، ولا يتعدى هذا النقد كونه نقدًا انطباعيًّا ذوقيًّا، أو مزاجيًّا تجميليًّا في أغلبه.

ونلحظ في هذا المشهد المتكرر ظهور ما يسمى بازدواجية العملية النقدية والعملية الإبداعيّة؛ ما أدى إلى إفرازِ ناقدٍ ينقل ما يسمع أو يقرأ بلا تحليل، وكأنّه شخصية تتعامل مع النقد مجردًا من القيم العلميّة والمنهجيّة والأدبيّة، ومنزوعًا من أي وصف وتوصيف للمشهد النقدي الإبداعي.

فيكون النقد الشخصي من خلال علاقة الناقد بالكاتب، وقد تكون العملية النقدية تبادلية ازدواجية بين الناقد والكاتب، فلعلَّ الأدوار وأحجار الشطرنج تتغير، فيصبح الكاتب ناقدًا، ويصبح الناقد كاتبًا، وبهذا تكون المصالح الشخصية مشتركة بينهما، فيقع في النفس النقد التزييني، أو التزييفي، فيكتب الكاتب الناقد النقد عن نفسه، أو عن شخص آخر، وليس عن صاحب النص، والناقد الكاتب يكتب أيضًا عن نفسه، أو عن شخص آخر، وليس عن الكاتب ونصه، أو أن تكون الكتابة بالجمل والعبارات والمفاهيم والمصطلحات نفسها؛ بإبدال اسم المكتوب عنه والمدونة التي جرت عليها العملية النقديّة؛ فتختلط المشاعر بالأسس الفنية النقدية، فيكون المشهد النقدي هزيلًا خاليًا من الموضوعيّة والمنهجيّة.

تصورات المشهد النقدي في المرحلة المقبلة.

ومن أجل ذلك على الكاتب أن يتخلى عن الأوراق النقدية الانطباعية، بأوراق ذات قيمة نقدية عالية، وكذلك الناقد؛ بقيام كل واحد منهما بتخصّصه خير قيام؛ فعلى الناقد رصد واستقراء ما يكتبه الأدباء بشكل عام؛ فيعلو العمل الأدبي إلى أعلى مستوى من مستويات الأعمال الفنية. 

ويقوم الكاتب بتوظيف الأدب بكل أجناسه؛ من شعر أو رواية أو مسرحية، أو غير ذلك؛ وهنا الكاتب المبدع يعالج الموضوع، سواء أكان تاريخيًّا أم اجتماعيًّا، أم سياسيًّا، أم غير ذلك، من خلال مرجعيات الكاتب وخبراته ومتخيله؛ حسب الصورة الذهنية التي تتراءى له في زمن ما، أو يتماهى في مكان ما غير زمن الكتابة.

  ولعلَّ الكاتب ينظر في ما قاله "جيف كينز" عن الصورة الذهنية الذي جعلها خمسة أنواع، كما يلي:

الصورة المرآة: وهي التي تعكس صورة المؤسسة لنفسها.

الصورة الحالية: وهي صورة المؤسسة في ذهن المجتمع.

الصورة المرغوبة: وهي التي تودُّ المؤسسة أن تكوّنها لنفسها في أذهان الجماهير.

الصورة المثلى: وهي أمثل صورة يمكن أن تتحقق.

 وإذا ما طبق الكاتب هذه الأنواع الخمسة؛ سيحصل على ورقة نقدية تليق بمقامه، وبما كتبه من عمل جيد.

ونذكر في هذا المقام؛ "خلف الأحمر" حين قال قائلٌ له: 

- إذا سمعتُ أنا بالشعر واستحسنتُه، فلا أبالي ما قلته أنت فيه وأصحابُك. فقال له: 

- إذا أخذتَ أنتَ درهمًا، فاستحسنته، فقال لك الصَّرَّاف: إنه رديء. هل ينفعُك استحسانُك له؟

لذا ينبغي أن يتصف الناقد الأدبي بصفات معينة حتى يستطيع أن يحكم على الأدب حكمًا صادقًا. ومن هذه الصفات: (1- حسن الذوق، 2- اتساع الثقافة، 3- النظرة الموضوعيّة، 4- المقدرة على القياس والموازنة). فهذا يعني أنَّ الناقد إذا لم يستطع أن ينتهج المنهج المناسب لنقد الأعمال الأدبيّة، لاضطراب المشهد الأدبي عند الأديب؛ سيجعل المشهد النقديّ يعبر عن الفوضى الأدبيّة عامة، وعن الاختلال الخاص عند الكاتب، فيضيع النقدُ بين ناقدٍ وكاتبٍ ومتلقٍ، وهنا لا ننقص من الأعمال الأدبية الفنية حقها في الإبداع، ولكنَّها قليلة إذا ما قورنت بالكم الهائل من الأعمال الأدبيّة الرديئة.