حكايةُ وشم سيرة درامية بنَفَس ملحمي

 

 

د. نبيل حداد

أكاديمي وناقد أردني

ليست مذكرات، بمعنى اليوميات، وليست ذكريات، بمعنى استدعاء الحاضر للماضي البعيد أو القريب، إنَّها كما يتحدث العنوان: "سيرة نقشتها على خد الصفا عواصف المدى..."(1) عنوان شعري ولا أقول شاعري، وسرد يمليه وجدان مشتعل وذاكرة يقظة بل مشتعلة، وأدوات حصيفة... سرد يمتاح من بئر الماضي ويغترف من محيط الحاضر في رحلة عبر الزمان والمكان والوجدان. 

أحدّثكم اليوم عن كتاب عبد القادر الرباعي، هذا الكتاب فيه السيرة، وفيه التاريخ، وفيه الوثيقة، والوثيقة سند الواقعة... وفيه السرد، وفيه الوصف، وفيه الحوار، وفيه التقرير، وفيه التحليل، وفيه الرصد، وفيه ما يمليه العقل والقلب والذاكرة معًا، ولو أردت أن أضع هذا الكتاب ضمن تصنيف محدد، فإنَّ الأمر ليس سهلًا؛ فهذا الجهد ليس مذكرات، بل أقرب إلى الذكريات، وليس تاريخًا شخصيًا، بل دراما تستند على أحداث تاريخيّة في حياة المؤلف، وليس رواية خالصة؛ بل عمل تحضر فيه أدواتها، إنَّه نوعٌ أدبي اسمه " حكاية وشم" وهذا هو الوصف الأقرب لجهد يجمع بين تلك المكونات الفنيّة والفكريّة.

                                       -1-

أمَّا المكوّنات المنهجية؛ فموضوع آخر؛ فالكتاب، عفوًا الرحلة، تتوقف عند اثنتي عشرة محطة. المحطة الأولى هي المقدمة، مقدمة القاطرة وليس الحيز الموضعي في الكتاب، وعادةً ما لا تُعدُّ المقدمة جزءًا من مضمون العمل، بل تدخل في عداد الموضوع، مع أخذ الفارق بين الموضوع والمضمون في الاعتبار، وكذلك الأمر بالنسبة للأطر العامة؛ فإنَّ المؤلف هنا يحاول أن يحفر في العمق نحو الجذور، إنسانيًا وبيئيًا، بالمعنى المتعارف عليه للبيئة بوصفها الحقيقة المكانية والزمانية والاجتماعية للعمل. وحين يبدأ بموضوعة العائلة، فإنَّه يدخل في الإطار الشخصيّ؛ فيتوقف عند مراحل التعليم، ثم مراحل الحياة العملية والعلمية، ويتوقف عند المحطات الأساسيّة في هذه الرحلة التي استمرت عمليًا حتى الثمانين أو لنقل حتى زمن الانتهاء من إعداد الكتاب. 

يتّبع الرباعي خطًا كرونولوجيًا، زمنيًا متتابعًا، أو كما يقولون يساير نهر الحياة، من المنبع حتى المصب، ولعلَّ هذا الأسلوب الكرونولوجي هو الأنسب والأكثر ملاءمة في الكتابة التي تستند إلى وقائع الحياة وذكرياتها، بل تحوّل هذا الأسلوب إلى تقليد يصعب الخروج عليه، يمكن للكاتب أن يمزج بين هذا الأسلوب الطولي، والأسلوب العرضي، أي التسلسل بالوقائع – شبه المنفصلة - بحسب أهميتها، والأهمية هنا مسألة نسبية وتخضع للمنطق الرؤيوي للكاتب، كما يراه في تسلسل الأهمية، وهذا واردٌ حين تكون مادة الحياة الشخصية جزءًا من الموضوع، أو الحدث العام، كتاب بطرس غالي مثلًا،  "بيت من زجاج" (2)، يبحث في تجربته أمينًا عامًا للأمم المتحدة، ويبدأ بهذا الموقع، ليعود إلى مواقع أخرى سابقة، ولكن ليس على أساس التتابع الزمني... بل حسب السياق الذي يرتبط بالخط السرديّ العام، وهذا ما لا ينطبق عليه الحال، في تجربة عبد القادر الرباعي. 

وعلى هذا الأساس، من الضروري أن نثبت بداية عددًا من الحقائق:

إنَّ مادة الكتاب هي مادة سيريّة، أي تمتح من تجارب المؤلف وحياته العامة والخاصة، ومن هنا لا بدَّ - مع نفوري من اللابدايات - أن نشير إلى المبدأ اللازب في الكتابة الدراميّة، ونحن بإزاء كتابة دراميّة قائمة على الإيهام، أي تمثيل الواقع بحسب مبدأ العزل والاختيار؛ فليس من حقِّ المتلقي أن يطالب الكاتب باستئذانه فيما يكتب وفيما لا يكتب، فهناك خط يرتئيه المؤلف ويسير على هديه، ويرى أنَّه الوحيدُ الذي سيوصله إلى حيث يريد، وهذا الخط انتقاه المؤلف وارتضاه وعزل عنه كل ما يعترض طريقه من تفصيلات قد لا تكون أكثر من حجارة عشوائيّة تعرقل المسير في الطريق، لا أكثر. 

ثم إنَّ في كتاب حياة كلٍّ منا صفحة، وربما فصلًا، لا يريد أن ينشره على الملأ، وهذا أيضًا حقٌّ للكاتب، كما أنَّه حقٌّ لأي إنسان، فالنشر لكلِّ تقلبات الفصول مطلوب حين تقلد المسؤولية أو حين يرغب السياسيُّ في  بلوغ مرحلة من التطهر من تجربةٍ تشوبُ حياته، كما الأمر مثلًا في العديد من الحالات؛ "سعد زغلول" (3) والقمار، "دستويفسكي" والصرع (4)، "سومرست موم" والمثلية (5)، "تولستوي" (6) وحياته الشخصيّة، "لويس عوض" وعقمه (7). وهناك رسالة معينة يحرص كاتب الذكريات على تضمينها. ثم إنَّ كتاب السيرة في الغرب لا تنال من سمعتهم المكاشفة أو رفع الستار عن الجوانب المعتمة في ماضيهم؛ لأنَّ مجتمعاتهم محصنة بما يضمن حرية الكاتب في قول ما يريد ما دام يخدم الحقيقة، ولديهم قدر من التفهّم ومدى من التسامح قد لا يتوفران في البيئات الشرقيّة. 

وقد يكون صحيحًا أنَّ هذا الكتاب يدخل في عداد سيرة الحياة، ولكنَّه ليس تاريخًا شخصيًا فحسب، بل إن فيه ما يقدم إطلالة على الواقع العام المعاصر للشخصيّة من خلال الواقع الشخصيّ، وهو كذلك أكثر من سيرة تاريخيّة شخصيّة، بل هو سيرة دراميّة bio drama (8) لا تعوزها أدوات القص، ولا رؤية الفنان المنتقي، ولا طاقات التعبير المتدفقة، بل قل كذلك لا تعوزها عناصر القصِّ بالمنظور التقليديّ من جهة،  أو بالمنظور السرديّ في ضوء نظريات السرد الحديثة من جهة أخرى.

-2-

لعلَّ أهم ما نلاحظه في هذا السياق، أنَّ الرباعي بدا على بينة بما تنطوي عليه الحياة التي عاشها من غنى في التجربة الإنسانيّة ومن عطاء درامي مكثف؛ فلا حاجة إذن للتخيل بمعنى اختلاق الوقائع، لكنّه لا يقيّد خياله الفنيّ الخلّاق الذي يعزّز أفق الموقف، ويوسّع من مساحة المشهد، ويدعم من مصداقية الدعوى. نحن في حاجة إلى ذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار أن البعد السيري في " حكاية وشم"، هو السعي للإيهام عن طريق تأثيث هيكل الواقعة لإثرائها ولدعم المتلقي في عملية التمثّل، كان يمكن للمؤلف أن يبلغ هذا المراد عن طريق أدوات القصِّ التقليدي، لكنَّه اشتبك في هذا الكتاب مع أدوات معقدة، تستند إلى المنجز الحديث في تقنيات السرد، ومن ذلك مثلًا التركيز على أثر الحدث، حين لا يُعنى الخطاب بحواس المتلقي نحو الحدث بل بإحساسه نحوه(9).

 وكثيرةٌ هي الخطوط الدراميّة التي توفّر لهذه الذكريات مسربًا متصلًا يبدأ من المنبع إلى المصب في نسقٍ روائيٍّ لا تعوزه المرتكزات الفنيّة التي يقوم عليها في العادة العمل السردي المتقدم. من ذلك مثلًا قصة الأخ الأكبر محمد الذي يختفي لثلاثة عشر عامًا لأسباب شبه غامضة ويترك أهله: إخوانه ووالده وأخواته ( هنا ينحسر دور الأم) (10)، وفي هذه الحكاية يلتقط الساردُ شحناتٍ دراميّةً يجود بها واقعنا الاجتماعيّ المحلي. بدت المسألة وكأنَّها غضب متبادل بين الابن والأب الصارم، الذي لا يتردد راوي القصة والمشارك في صنع خاتمتها السعيدة، أعني الذات الساردة، بوصفه بالقسوة، قسوة الأب في البيئة الجبليّة. لقد أفصحت الذات الساردة عن الواقع الذي بدا عليه الناس، ولكنه اكتفاء بالإيماء لدور الأم ربما كان وراءه حياءٌ طبيعي لسبب اجتماعي وإنساني في سرد هذه المأساة التي استمرت ثلاثة عشر عامًا،  بيد أنَّ الراوي استطاع بحذق أن يستدرج مخيلة المتلقي نحو الوجهة التي يريد، أي الخلاف بين الأب الصارم والابن البازغ... بخلاف آخر، ربما كانت أسبابه مختلفة، وذلك من خلال حكاية الأخ مصطفى. ونجح في ذلك ولكن برفق، بإلقاء كامل المسؤولية على الأب حين قال: " وبهذا انتهت المأساة الثانية ( رجوع الأخ المفقود محمد) بعد مأساة أخي مصطفى التي سبقتها بأعوام، وهما المأساتان اللتان صنعتهما قسوة الأب" (11). 

لم يجانب السارد الحقيقة، لكنَّه كان أقرب إلى الصراحة مع قليل من المواربة، فأتبع ذلك بما تدعوه أدبيات السرد بالثرثرة الضروريّة، حين راح يحلّل ويتعمق في الظاهرة نفسها، ربما ليساعدنا على استحضار النسق الثقافيّ الذي غذّى قسوة الأب، وصنع المأساتين، فمنحنا مجالًا خصبًا للتأويل مستندا إلى المعطى الاجتماعي والبعد الإنساني. إنّه يكتفي بتقرير الواقعة بإيراد الحقائق، ولكنّه لا يبخل على المتلقي  بالحقائق البدهية التي يستكمل بها الصورة، ويمسك بجذورها، ولا سيّما ما قد يسببه اختلاف الأم بين الإخوة من صدمات، قد لا يكون الأب مسؤولًا مباشرًا عنها، ولكنّها تترك ترسبات تستقر في روح الإخوة غير الأشقاء وندوباً تجرح وجدانهم، وتضني نفوسهم. 

وعلى أية حال، فإنَّ المؤلف ضليعٌ بالمنهج الثقافيّ، بل هو رائده في البيئة الأكاديميّة المحلية، وهكذا يترك للمتلقي أن يستشرف النسق المضمر وراء العديد من المواقف والممارسات والنزعات. 

ولئن كانت غاية المنهج الثقافيّ تحويل البلاغيّ، أو بكلمة أدق تحويل الجمالي إلى ثقافي، بما يستوعبه المفهوم وما تتسع له آفاق الثقافة، فإنَّ المؤلف هنا لا يستغني عن تقنيات السرد وأدوات القصِّ الحديث؛ فيلجأ مثلًا إلى إثارة التوقع، لارتياد فضاءات اجتماعيّة وأكاديميّة وإنسانيّة وغير ذلك، ويتجلّى هذا في العديد من المواقف؛ بل قل المحطات التي تتوقف فيها الرحلة، إن بالسرد التاريخيّ أو الوصف التحليليّ. 

-3-

فمنذ البداية يعلقنا السارد الأنا بانتظار ما ستؤول إليه الشخصية حين يبدأ شباب القرية بالتعليم: " كانوا في "كفر عوان" ثلاثة بعد الابتدائيّة، ثم بدأ العدد في التناقص إلى أن بقي وحده في الميدان... ولا نعرف في حينه إلى أين سينتهي الأمر حتى النهاية" (12). 

وثمة تقنيات أخرى، من مثل التبطيء، حيث تحتشد التفصيلات ويضيق الزمن، وهو ما يتكرّر في العديد من المقاطع السرديّة عبر الكتاب، ومن أكثرها جلاء ما أورده السارد حول حادثة الوشاية ذات البعد المتصل بما تدعوه لغة القانونيين اليوم بجرائم الشرف، وهاكم المشهد الصدامي بين الضحية والجاني حيث تنعكس الأدوار وتتناوب الأصوات: "أمسك به ورماه أرضًا، فارتطم رأسه بصخرة صلبة. تابع هجومه الضاري بضرب رأسه مرارًا على الصخرة حتى امتلأت بالدماء، كان الفتى الطيب يتوسل إليه، ويشدد على أن لا شيء (مريب) بيني وبين ابنة عمك، حتى أوصله إلى حافة الموت... عرف الفتى أن غريمه مصمم على إنهاء حياته، وحاول أن يتخلص من مكانه ويبتعد عنه وعن الصخرة لكنه لم يقوَ على ذلك، ولا على تخفيف هجوم خصمه عليه. وقد كاد أن يستسلم لكنه في أثناء محاولته دفع المهاجم عنه، التقت يده اليمنى بالشبرية التي كانت معلقة في زنار المهاجم. استل الشبرية وغرزها غرزًا خفيفًا في جسم ذلك الشرير، بل زاد من سرعة ارتطام رأس الفتى آملًا قتله قبل أن يستعمل الشبرية، ولما أيقن الفتى أن خصمه لا يرتدع، أسرع في استخدام الشبرية. ولم يكن أمامه في وضعهما ذاك إلا أن ينحره نحرًا مكررًا حتى أسقطه ميتًا. وهكذا كانت نهاية تلك المعركة الرهيبة على غير توقع" (13).

تُقدم هاتان الفقرتان مثالًا طيبًا على إمكانات الرباعي في القص، بل إن كل جملة فيهما تشي بهذه الإمكانية وتشهد على هذه القدرة. فحين يقول السارد مثلًا: " تابع هجومه الضاري" غير مسبوقة بواو العطف، فإنَّه إنَّما يلجأ لأسلوب العرض، لا أسلوب القصِّ التتابعي، والفرق بينهما أنَّ المشهد يتكفل بعرض نفسه دون تدخل من السارد أو الراوي. فالعرض التقاط النبض الحركي دون وساطة أو وصاية من السارد، التي كانت ستحضر فيها لو حضرت الواو، وقال " وتابع"...

وحين يقول: " وامتلأت رأسه بالدماء" فلا شكَّ أنَّ هذا القول صنعته مخيلة السارد... حين يقول ذلك فإنّه يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. الحجر الأول يصيب به المعلومة في ذاتها ليقدمها للمتلقي. أمَّا الحجر الثاني، فيستحضر به هذا العنصر الثمين، وهو الإيهام، من خلال استثارة مخيلة المتلقي. أمَّا الحجر الثالث، فإنَّه يستثير به الذاكرة اللونيّة، ويفجر من خلاله العنصر البصري وتأثيراته. 

على أنَّ إمكانيّة القص إذ تستعين بالصورة تتجسد بقوله: كان الفتى يتوسل إليه، أي كان يتوسل إليه وهو تحت الضرب، وكأنّي بالراوي يتكئ على عنصر التزامن، وهو عنصر سردي فاعل في تشخيص المشهد الحركي، ولا سيّما في التقنية السينمائيّة، أي الكاميرا إذ تقوم بدور السارد وتساندها النقلات المونتاجيّة بين اللقطات القريبة close shot واللقطات المتوسطة med shot (14)، فثمة عدد من الحركات النفسية لدى المتضاربين إضافة إلى الحركات الخارجية بينهما، نجح الراوي في استحضارها جميعًا.

ولا أريد أن استطرد أكثر ولكنّني أطرح سؤالًا شرعيًا، ونحن إزاء عمل يستند إلى أحداث حقيقية، ولا أقول واقعيّة، فالواقعيّة متحقّقة بصرف النظر عن مطابقة المرجعية الخارجية للحدث من عدمها. والسؤال: كيف يصف السارد هذا الحدث بتفصيلاته الدقيقة والبطيئة زمنيًا، والمتسارعة حركيًا وشعوريًا، وهو كما يصرح لم يكن شاهدًا على الواقعة؟ ألم يخش المؤلف من أن يواجهه القارئ بهذا السؤال؟ 

ولعلّني لن أُجاوز حقي دارسًا إذ أقول بالإنابة عنه، إنّه لم يخش احتمالًا من هذا القبيل، فهو يستند إلى أدبيات التلقي، لا بوصفه قاصًا يمتح من بئر ما سمعه أو شاهده أو تخيله أو تمناه أو خشيه، فحسب، بل بوصفه ناقدًا يدرك تمامًا أنَّ من حق السارد أن يفترض حسن النية لدى المتلقي، فيقول إنَّ القارئ أو المتلقي من الفطنة بحيث يمنح العذر للمؤلف أو السارد، فيقول، هذا ما تداوله الناس وعلق بالذاكرة، أو هذا ما استقرت الرواية الرسمية، أو حتى الحكاية الاجتماعيّة... وهذا ما سمعه من أبيه، وهو مصدر ثقه... وهذا ما رواه له عمه أو حتى أمه وهم على يقين من صحة ما يُقال... إعطاء المتلقي حقه في الافتراض والتأويل حاضر هنا... أليس صاحبنا أقرب الدارسين إلى شعر أبي تمام، حين قذف بسؤاله القنبلة أمام من تساءل: لِمَ لا تقول ما يُفهم، فأجابه: لم لا تفهم ما يقال؟ فأرسى بذلك من أوائل من أرسوا قوانين التلقي ومسؤوليات المتلقي في نقدنا القديم.

هكذا يرتقي عبد القادر الرباعي، ولا أقول ينتقل فحسب، بمادته التاريخيّة من أفق الما صدق إلى رحاب المتخيل المشروع، الذي لا يكترث بما يصدق أو بما لا يصدق قياسًا على وقوعه من عدمه. 

وكما يلجأ المؤلف إلى تقنية التبطيء في المشهد السابق، الذي ربما استهلك بضع دقائق فحسب من الزمن، فاحتلَّ بضع فقرات؛ فإنَّه يلجأ إلى تقنية التسريع، أي إيراد أحداث مفصلية، قد تستغرق أيامًا وربما أكثر، بضعة أسطر. وتأخذ تقنية التسريع تمثيلاتها في المراحل الانتقالية، إذ يغلب السرد الإجمالي على التصوير البطيء الذي تحتل فيه الدقائق والثواني مساحتها في استحضار المشهد، وهكذا تمضي الأحداث، بل قل يمضي السرد بوتيرة أسرع وأكثر ميلاً إلى تقنية الإجمال:

"ولكي أقنع والدي بضرورة أن أتابع دراستي النظامية التي بدأتها في المدارس الحكومية لجأت إلى كل من اعتقدت أنَّ له تأثيرًا عليه لكنّني لم أنجح."(15). 

من المنطقي أن نفترض أنَّ تلك المساعي استغرقت أيامًا بل أسابيع، أجمل السارد أحداثها بأقل من ثلاثة أسطر، لأنَّ المهم فيها كان النتيجة: إخفاق تلك المساعي، أي إن الزمن هنا كان خاملًا... مبتدأ وخبر، وما بينهما وقبلهما أو بعدهما، من البدهيات التي تترك لمخيلة المتلقي. 

لكن الزمن العامل لا يلبث أن يحضر، بعد أسطر قليلة من خلال عنصر الخال الذي له تأثير على الأب، إذ يورد السارد كل صغيرة وكبيرة تتعلق بذلك الموقف الذي أسفر عن النتيجة الإيجابيّة التي يتطلع إليها الفتى الطامح إلى إتمام دراسته، وهكذا نلاحظ أنَّ السعي المنتج وهو بالدقائق أو بالساعات قد استغرق صفحات، في حين احتلت المساعي الخائبة، وهي بالأسابيع  أقل من ثلاثة أسطر.

-4-

ولعلَّ النظرة الشاملة لحكاية الرحلة التي تستغرق ثمانين عامًا تبين بوضوح أنَّ السنوات الثمينة في عمر أي واحد منا هي سنوات ما قبل الكهولة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ مرحلة الكهولة تنتهي بانقضاء الشباب، أي مع النصف الثاني من ثلاثينيات العمر. وهكذا فإنَّ الوقفة الأطول كانت عند الطفولة والصبا ( أو اليفاع) ثم الشباب وميدانهما الأساسي القرية، ثم تتسارع الأحداث، ويتسارع الزمن بعد ذلك بعد الانتقال للمدينة. ألم يقل "وليم فوكز" وهو واحد من أبرز الروائيين العالميين في القرن العشرين: "إنّني أستطيع أن أكتب عن قريتي دون توقف" (16). 

وهذا ما شعرت به وأنا أقرأ "حكاية الوشم"، لقد لاحظتُ أنَّ الراوي يسيطر على نفسه بصعوبة لوقف التدفقات التي تنهال كالشلالات الجارفة وهو يتحدث عن طفولته وصباه وشبابه. وفي الوقت نفسه لاحظت مدى معاناة الكاتب، أو بالأحرى المؤلف، وهو يقيم بوابات الحراسة أمام سيل ذكرياته، ولا أقول نهرها حين يتوقف عند محطات رحلة الكهولة وما بعدها. هناك في القرية "تتفرعن" الدراما، وهنا – بعد الكهولة- تنحسر ويصبح لكلِّ كلمة حسابها، بل لكل كلمة أو نأمة جهدها المحسوب من غربلة الذكريات، بل تنخيلها، وتنقيتها، لا من الصدق أو من دم الحياة؛ بل من الهواجس والترصّدات؛ لذا فلا عجب أن تحتل الخمسة عشر عامًا الأولى من عمر الراوي وربما أقل إذا ما استثنينا سنوات الطفولة المبكرة، حوالي 80 صفحة، في حين لا تحظى ما يقارب أربعة أضعاف هذه المساحة العمرية، بأكثر من ضعف هذه المساحة العمرية المبكرة. وأستطيع القول إنَّ الثلث الأول من هذا العمل، وبصرف النظر عن عدد الصفحات يمكن أن يقدّم لنا رواية طفولة وصبا كاملة مكتملة، ومن يرى مبالغة فإنّني أحيله إلى رواية هاملين غارلند السيرية، وهي بالمناسبة مترجمة A Son of the Midle Border (17)، أو إلى "ترابها زعفران" لإدوارد الخراط، ليلحظ الكثافة الدراميّة في هذه السنوات المبكرة من عمر الإنسان، لا سيّما إذا امتلك السارد ناصية الكتابة. 

في "حكاية وشم" تقنيتان قصصيتان بامتياز: عنصر التشويق، سواء كان هذا التشويق في التشخيص المشهدي البطيء، من مثل حكاية "الشبريّة" والصخرة، أو كان على مستوى الخط الدرامي العام للأحداث، فمن المؤكد أنّنا كنّا نلهث ونحن نقرأ مشهد "الشبريّة" والصخرة، أو نحن ننتظر مساعي السارد الطامح في تسجيله للدكتوراه، أو حتى حين علقنا انتظارًا لإعلان نتيجته، ناهيك عن التشويق الذي تنجزه قصته العاطفية مع ابنة خاله، أو حتى مع الفتاة التي ادخرتها الأقدار له، وجعلتها من نصيبه؛ أعني زوجته السيدة بشرى غرير.

أمّا التقنية الثانية فهي الحبكة؛ ولا أظنُّ أنَّ عملاً يستند إلى السيرة الذاتية مهما بلغت درجة الدراما فيه، مطالب بالالتزام بهذا العنصر المتوارث أصلًا عن المسرحية الكلاسيكيّة. ثم ترسّخ في سائر الفنون السردية الأخرى، ولا سيّما فن القص، ولكن دون أن يكون لازبًا بشروط العلية المركزية الصارمة كما الأمر في المسرحية الكلاسيكيّة. على أنّنا إذا غضضنا الطرف عن الحبكة العضوية الصارمة للعمل الدرامي التي تنتظم النصَّ السردي من بدايته إلى نهايته؛ فإنَّ "حكاية وشم" لا تخلو من مجموعة من الحبكات الدائرية أو الموضعيّة؛ ذلك أنَّ الحكاية الكلية للوشم تتكون من عشرات الحكايات التي عاشتها الشخصية؛ ولكل حكاية "صغيرة" حبكتها الخاصة المتماسكة، من مثل قصة انتقاله من المرحلة الابتدائيّة إلى الثانوية،  فلهذه الحكاية حبكتها التي تكاد في مراحلها تصل إلى درجة العقدة، بل والذروة أحيانًا، ناهيك عن تجربتيه (أو قصتيه) العاطفيتين، ثم قصة عمله مع الفريق الذي أنتج فيلم "لورانس العرب"، حتى قصته مع جامعة جدارا فإنَّ لها حبكتها، أي علاقاتها السببية  وعقدتها، ولها أيضًا ذروتها الصاعدة وأيلولتها النازلة...

ولا ننسى القصة الجميلة التي كتبها الرباعي حين تخيّل نفسه ذات يوم في شبابه المبكر، وقد أصبح قاصًّا يُشار إليه بالبنان، فكتب قصة على الطراز الشائع في قصص السينما العربية ... فإنَّ في هذه القصّة حبكة وأي حبكة ... ولكن "على قد الحال" (18).

ومن جهة أخرى، إذا نحينا جانبًا مفهوم الحبكة المركزيّة الصارمة، وتدبرنا العلائق السرديّة ومسارات الأحداث في هذا العمل ساعين إلى تلمّس مدى استجابة سردياتها لشروط النوع الثاني من الحبكة؛ أي الحبكة السياقيّة أو المتراخية، فلن نجد عناء في الإمساك بخيوط هذا العنصر وامتداداته ضمن قانون المنطق الخاص الذي يحكم العمل الفني.

وبإيجاز فإنَّ الفرق الأساسي بين الحبكة العضويّة والحبكة المتراخية والسياقية يكمن في درجة التماسك العضوي بين الوقائع؛ فالنوع الأول يستند إلى السببية الآلية أو العليّة الصارمة؛ ومثاله الشهير ما أورده فورستر (مع بعض التصرف) في "أركان الرواية": مات الزوج ثم ماتت الزوجة، وتحضر الحبكة فقط إذا أضفنا: حزناً على الزوج (17). في حين تكتفي الحبكة السياقيّة بتوالي الأحداث دون ترابط صارم؛ بل يكفي المكان إطارًا للحبكة المتراخية كرواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني (20) وبعض روايات عبد الرحمن منيف (21)، أو الحقبة التي يجمع بين أحداثها ومساراتها حدث تاريخي كحروب نابليون مثلاً في الملحمة الروائيّة "الحرب والسلام" لتولستوي. على أنَّ تاريخ الرواية – تحديدًا – يعلمنا أنَّ الأعمال العظيمة كانت كلها تعتمد النوع الثاني (الحبكة المتراخية) ك"الحرب والسلام" وثلاثية نجيب محفوظ التي تضيف رابطة السلالة العائليّة إلى المكان. 

-5-

وهكذا، قد لا يجمع بين أحداث "حكاية وشم" علاقة عليّة متصلة أو متسلسلة، ولكن تجمع بينها شخصية السارد ولنقل البطل بالمفهوم الدرامي ... والأهم يجمع بينها هذا المُناخ القصصي المتلاحم الذي هيمنت عليه هواجس واحدة، ومطامح واحدة، وأوجاع واحدة، ثم بيئة واحدة بحقائقها الثلاث المكانية والزمانية والبشرية، وبتحولاتها الحضاريّة: مرحلة القرية؛ فالبلدة، فالمدينة، بل هذا التسلسل السلس في أطوار حياة الشخصية من صبي القرية، إلى تلميذ البلدة إلى طالب المدينة... إلى الباحث في المدينة المدنية؛ أعني القاهرة وليس المدينة البلدة (إربد مثلًا) أو البلدة القرية ( جرش مثلًا) ثم إلى رب الأسرة فالأستاذ الجامعي فالمسؤول الأكاديمي الكبير.... إنَّها مادة كافية لصنع ملحمة دراميّة متجانسة يربط بين مكوناتها موضوعيًّا بطلٌ ينتقل من حلبة صراع إلى أخرى ولا يسعى إلا إلى الانتصار. وهو السارد الممسك بكل صغيرة وكبيرة مراعيًا بوعيٍّ فنيٍّ الأداتين الأكثر أهمية في الخطاب الفني التمثيلي، أعني الإيهام و"العزل والاختيار"، ثم عنصر المُناخ الحكائي بأنفاس ملحميّة لافحه.  

من المألوف أو مما لا يُتحفظ عليه أن يقدم صاحب السيرة الذاتية، أو راوي ذكريات عمره، صورة إيجابيّة لنفسه، ولا سيّما في أدبنا العربي، فهذا هو التقليد المستقر السائد، ومن الضروري هنا أن نفرق بين مسعيين لدى بطل السيرة الذاتية؛ مسعى لصاحب دور سياسي أو دور تاريخي، جلس بعد تقاعده يملي ذكرياته، على كاتب ظل( Ghost Writer ) فيتدخل هذا الكاتب المحترف أو المؤلف المشارك، لينجز صورة ناصعة لصاحب السيرة، يبرر فيها مواقفه، ويضخم فيها إنجازه ويبرز شجاعته، وينقي مسيرته من أي شائبة، ويلتقط من دروب حياته الروث فلا يبقي على صفحة ماضيه غير اللون ناصع البياض، وبين مسعى صاحب دور علمي أكاديمي لم يتح له دوره أن يشارك بصنع الأحداث العامة بشكل مباشر، أو بالاضطلاع بمسؤوليات وطنيّة كبرى، بحيث يعرض تجربته الشخصية والمهنية على الملأ بما فيها من تحديات وعوائق ومرارة ومعاناة إنسانيّة ومطامح قد تتحقق أو قد تخفق، فالفرق هنا بين أكاديمي امتهن الموضوعيّة والصراحة العلمية وقد لا يجيد سواهما، وبين سياسي أو صاحب دور تاريخي من الصعب أن تمكّنه الظروف أو ضغوط العمل العام أن يسير يتخطى الألغام بطريق مستقيم ويكتب ما يكتب بنفسه، إلا ما ندر، وذلك بخلاف الأكاديمي حين يكتب سيرته؛ فليس ثمة كاتب ظل بل حارس بوابة ينتدبه ضميره وِشعوره الباهظ بمسؤوليته في الحفاظ على مصداقيته، وعلى صورته التي عُرف بها أمام الآلاف من طلبته ومريديه وزملائه ومعارفه. 

نعم هناك صفحات، بل قل فصول يحرص صاحب السيرة، بصرف النظر عن موقعه أو دوره، سياسياً كان أم أكاديميًا أو في أي صفة أخرى، على ألا ينشرها على الملأ، هذا حق، لم يشذ عنه أحد، لا ممن كتب سيرته، وليس من حق أحد أن يحاسبه عليه ما دامت المادة التي تجنب عرضها على الملأ تقع ضمن الحيز الشخصي أو الحميم الذي يقع خارج دائرة دوره العام، وأظن أنَّ الفرق بين كاتب سيرة وآخر في هذا الجانب تحديدًا، هو فرق درجة لا أكثر، مع استثناءات قليلة، وضمن هذا الإطار يمكن القول إنَّ عبد القادر الرباعي قد استطاع أن ينجز عملًا يتمتع بقدر كبير جدَّا من المصداقية والموثوقية والصراحة كذلك، وأشهد أنّي بما أعرفه عنه، وبما شاركته فيه من تجارب إنسانيّة واجتماعيّة، أنَّ صورته كما ظهرت في " حكاية وشم" هي صورته المنطبعة عندي منذ حوالي خمسة وأربعين عامًا. وأنَّ سيرته في الحياة - إذا راعينا حق العزل والاختيار الذي يتمتع به كل من أراد أن يكتب حياته وتجاربه- ظلت ضمن الإطار الذي خطت معالمه الانطباعات الأولى، فهذه الصورة التي ظهر فيها الرباعي في كتابه هذا بطلًا إيجابيًا لا بطلًا روائيًا فحسب هي صورة أمينة... لمكافح... وعصامي... يحب الحياة... ويحترم الآخرين ... ولا يكابر في نواميس الكون... رومانسي... قويّ في الشدّة... ضعيف أمام من هم أقل ضعفًا منه... أمين في رسالته... دقيق ومثابر في عمله... يصيب ويخطئ... ويخوض معاركه بلا كلل مع جهات متنوعة وجبهات عديدة،  انتصر في الأغلب الأعم وانكفأ في مواقع أخرى منطويًا على كبريائه وصائنًا لكرامته... ولعلَّ من الأمثلة الدالة على كل ما ذُكر يمكن أن تستجمعه روايته عن تجربته؛ بل قل موقعته في تأسيس جامعة جدارا وإدارتها، ثم اضطراره لمغادرة موقعه في ظروف غاية في التعقيد واللامعقول. 

باختصار فإنَّ هذا الكتاب، قدّم لنا الشخصية الأساسية بل المحورية بقدر كبير من الموضوعية ومحاسبة الذات والآخرين، وإنصافهم في الوقت نفسه. لقد قدّم حقًا صورة لحياة مشحونة بالتناغمات والتناقضات... وسائر المفارقات التي نعيشها، وسنظل نعيشها.

 ذلكم عن النموذج الذي أنجزه السارد لعبد القادر الرباعي الشخصية المحورية في "حكاية وشم"، ولكن ماذا عن الشخوص الأخرى؟ 

إنَّ من الممكن تتبع حضور هذه الشخوص ضمن أكثر من تصنيف؛ من ناحية حجم الحضور، أو من ناحية طريقة تقديم الشخصية، أو من ناحية الرسم الفني؛ على أن الاشتباك النقدي مع هذه الشخوص، من جهة أخرى قد لا يأبه للفروق بين تصنيف وآخر.

ولعلَّ أكثر الشخوص حضورًا  بعد الشخصية المحورية، السارد  هو الأب، إن عياناَ أو بالظل؛ هنا لا تختلف الصورة كثيرًا عن دور الأب في التراث الكلاسيكي قديمًا وحديثًا؛ إذ تجتمع في هذا الدور كل الثنائيات والتناقضات التي عرفتها الطبيعة البشرية: العطف في أرقِّ صوره، والقسوة في أعلى درجاتها، القوة الطاغية، والضعف المنكسر، محاولة فرض الإرادة بل صياغة مصير الأبناء، وإفلات الأمور من بين يديه، وهو ما تحكيه لنا مواقف الأبناء ولا سيّما موقف الابن / السارد؛ فالأب في البداية هو النموذج الأعلى،  وهو في الوقت نفسه، كما تثبت التجارب الطريق النقيض. وهناك العديد من الثنائيات في هذه الشخصية الخصبة ذات العطاء الدرامي المكثف، وهو عطاء التفت إليه السارد، بل غرقت فيه الشخصية المحورية في المشاعر المتضاربة حينًا، والمتصالحة أحيانًا، إلى أن رصد القلم الرصين حالة من التوازن المنطقي بعد أن نضجت الظروف، وانتقل دور الوصاية، والرعاية من الطرف الأعلى إلى الطرف الآخر... هكذا التقط السارد الإشكاليّة الفنية والإنسانية الكبرى في العلاقة مع الأب: المؤسسة، والابن الفرد؛ ونتيجة الصراع محسومة دائمًا لصالح المؤسسة. ولكن ما إن يتم تبادل الأدوار بما تمليه استحقاقات التجربة البشرية وتنعكس الأمور فيضحى الابن القوي هو المؤسسة، ويعود الأب فردًا في حاجة إلى رعاية المؤسّسة الجديدة ممثلة في الأبناء. حتى تؤكد نفسها من جديد، ولكن المعادلة هذه المرة؛ فليس ثمة صراع بين الأجيال. بل يحضر إطار البِر بالوالدين.

أمَّا سائر الشخوص، وهم بالعشرات إن لم يجاوزوا المئة؛  فإنَّ حجم حضورهم يتراوح ما بين الأهلية الفنية للشخصية الرئيسية، أو الثانوية، وما أكثر الشخوص العابرة  التي لا يُجاوز حضورها الموقف أو المشهد الواحد، ولكنَّه حضورٌ حيوي، ينطبق عليه ما وصف به "فورستر" هذا النوع من الشخوص؛ على أنَّه كالنجوم التي تحيط بالقمر، فتكسبه بهاء وسطوعًا، وتوسّع من هالته، وتتيح لها مساحةً أكبر.

على أنَّ لدى العديد من الشخوص الرئيسة، (والشخصية الرئيسة تتعدد في الرواية على خلاف المحورية) من المساحة في ميدان الأحداث؛ ما يمكّن الواحدة منها أن تكون حكاية مكتملة في ذاتها. ولعلّنا قد لاحظنا ذلك في شخصية الأب، ثم في شخصية محمد، الأخ المفقود الذي صنع حكايته بنفسه لنفسه وللعائلة، وهناك الأخ الشقيق" رجا" الذي كان له دور كبير في التحولات الإيجابية الكبيرة التي شهدتها مسيرة الشخصية المحورية، ناهيك عن شخصية الزوجة "بشرى" التي اتّخذ  دورها شكل الإيقاع المتصاعد تدريجيًا من حضور يكاد يكون أثيريًا – في مرحلة ما- يبشر بالأمل المنشود بالاستقرار وتحقيق الآمال، إلى حقيقة تحوّلت فيها الأحلام والتطلعات  إلى واقع قائم.

وبعيدًا عن أفراد العائلة هناك شخصية من يستولي "بالقانون" (وليس شرطًا أن يكون القانون هو العدل أو الحق في مطلق الأحوال) على مشروع العمر، وقد أسهمت دقة الوصف، وبراعة التشخيص لهذه الشخصية في رسم ملامح نابضة ومواقف حيويّة – فنيًا – ارتبطتا بهذه الشخصية التي تكتسب أهلية النموذج الذي بات يدعى في أيامنا ب"الكومبرادور".

وأشير هنا إلى شخصية عابرة واحدة فحسب، هي شخصية "جابر عصفور" التي حضرت في موقف واحد علميّ وإنسانيّ، ولكنّه كان موفقًا مؤثرًا ترك أثره الإيجابي الحاسم في مستقبل الشخصية العلمية والمسيرة المنهجية لصاحب "حكاية وشم".(22) 

-6-

سبقت الإشارة إلى أنَّ الثلث الأول من هذا السِفر قد جاء في قالب درامي يكاد يستكمل كل عناصر القصص وتقنيات السرد، التقليدية منها، والحديثة وبمستوى فني متقدم. ومع هذا، فإنَّ التسجيل يحضر، وليس التسجيل في السيرة الذاتية عيب بأي صورة من الصور، ناهيك عن أنَّه لم يخل من عنصر درامي لا تعوزه الانسيابيّة الفنية.

أمَّا الثلث الثاني فهو موزع، في الأسلوب وطرائف التعبير، بين التصوير والتسجيل، ويمكن أن ينطبق عليه الحكم ذاته حول الثلث الأول. على أنَّ الثلث الأخير الذي يبدأ بالعمل الجامعيّ تحديدًا يغلب عليه طابع التسجيل وأسلوبه في السرد الإخباري.  فبدت الأمور وكأنَّ جُلَّ ما يسعى إليه المؤلف إيراد الحقائق وحسن التخلص من أعباء التجارب التي ينوء بها تاريخه، وأن يضع النقاط على الحروف، ويثبّت الوقائع، ويوضح الملابسات التي رافقت مسيرة عمله، ولا سيّما في تجربته التي امتدت لخمسة وثلاثين عامًا أستاذًا في جامعة اليرموك، تخلّل ذلك تأسيسه لجامعة جدارا. وأقولُ من موقع شاهد العيان إنَّ الرواية التي قدمها الكتاب مطابقة بالكامل للواقع ولمجريات تلك الأحداث. بل يمكن الافتراض أنَّ السعي الأمين للمؤلف للالتزام بالحقائق التاريخيّة هنا؛ جاء أحيانًا على حساب العطاء الفني، وانحساره لحساب الحقيقة التاريخية المجردة. 

-7-

ويمكن أن نلاحظ في بعض المواقع قدرًا من الاستطراد في الوصف في ملاحقة الوقائع قد يراها البعض في الميزان التقني غير ضرورية. والأرجح  أنَّ وراء هذا التفصيل، وهو غير ضار ولعلَّ نفعه أكثر، هو ما يدعونه نقّاد الدراما بالاندماج في الدور في التمثيل، أو اندماج الراوي بالمُناخ النفسي الذي تجري فيه الواقعة التي يشخّصها، أو المكان الذي يصفه دون أن يكون ذلك مرتبطًا بمهمة دلاليّة في السياق؛ فيضحِّي الراوي دون أن يشعر، ببعض الاعتبارات الفنيّة في سبيل إشباع توقه لاستحضار كل حركة أو نأمة أو موقف مهما صغر حجمه أو ضؤلت وظيفته الفنية، أو حتى أهميته الموضوعية، وهو ما نقرأه في الصفحات الأولى من الكتاب.  

ولو عدنا إلى الثلث الأخير من الكتاب  للاحظنا أنَّ المؤلف يكثر من استعمال ألقاب التبجيل الرسميّة لبعض الشخصيات، في حين لم تقترن تلك الألفاظ بأسماء الشخصيات الأخرى؛ مما يؤكد السعي التسجيلي لهذا القسم.

 بقي أن نشير إلى بعض الجوانب المعرفيّة التي تتسبب فيها الثقة المفرطة بالذاكرة حين توقعنا أحيانًا بما لا يطابق الأمور؛ فإنَّ دور "انطوني كوين" في فيلم "لورانس العرب" الذي شارك فيه الدكتور عبد القادر في الجانب الإداريّ الإنتاجيّ، لم يكن (البدلير) أي الممثل البديل لبيتر أو (لورانس)؛ بل قام بدور الشيخ الفارس عودة أبو تايه (23). 

كما أنَّ كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) لم يُمنع تداوله بأمر قضائي، كما ورد في ص"136"، بل إنَّ المدعي العام القاضي "محمد نور" قد أمر بحفظ القضية دون ملاحقة المؤلف، ولم يمثُل "طه حسين" من ثم أمام المحكمة، بل أمام النيابة، وأمَّا المنع غير الملزم فقد صدر بتوصية من الأزهر، وتقرير "محمد نور" حول القضية ما زال إلى اليوم نموذجًا  يُحتذى به عالميًا في الدفاع عن حق الباحث في الاجتهاد والتفكير، ما دام ذلك يأتي في سياقٍ منهجي، ولبيان الفرق بين الطعن في العقيدة والعبارات الماسة بالعقيدة التي تورد بقصد البحث العلمي، إذا اعتقد الباحث أنَّ بحثه يقتضيها.

وكما بدأنا بالعنوان ننهي بالعنوان؛ فإنَّه بوحدتيه، شاعريٌّ ومعبرٌ عن المضمون بأسلوب إيمائي أو مجازي جميل، ولكن المشكلة تأتى أحيانًا حين يعبّر العنوان عن "رؤية خاصّة جدًا" في كتاب تظل شخصيته ضمن الإطار الفني للسيرة الذاتية ... وهذه أي "الرؤية الخاصة" مما لا بأس به، ولكن يبقى للإيقاع في العنوان أهميته، وإنَّ أفضل أسلوب لقياس نجاح الإيقاع على ما أرى هو سهولة احتفاظ الذاكرة به، كما الأمر بالنسبة للركن الأول "حكاية وشم"، أمّا الركن التكميلي: "سيرة نقشتها على خد الصفا عواصف المدى" فإنَّه على الرغم من المزاوجة الإيقاعيّة وحسن التقسيم، يواجه-على ما يبدو- صعوبة في العثور على حيز من ذاكرة المتلقي. 

وتبقى تلك الملاحظات هامشيّة لا يمكن أن تنال بأيِّ شكلٍ من الأشكال من الثقل النوعي، الفكري والأدبي، لهذا الجهد الذي أرى فيه عملاً فريدًا في نوعه على المستوى المحلي على الأقل، محمّلًا بمخزون فكري متوقد وبزاد فني دسم، غنيًا بالتجربة البشرية بآمالها وآلامها وحلوها ومرها وسخائها وحرمانها وضوء الدروب وإغلاق السبل... وبعطاء إنساني زاخر في إطار سردي متقدم؛ لعلّه قد أفاد (وربما استنفذ) أعلى ما تتيحه التقاليد الفنية من أدوات في كتابة السيرة الدرامية؛ لتحافظ على جوهر النوع الأدبي وتصون بعض العلامات الفارقة والضرورية بين الأنواع الأدبيّة، فلا يجور علينا قلم عبد القادر الرباعي بالإغراق بالتخييل، في الوقت الذي لا يبخل علينا فيه برشفات سائغة من الشعريّة، ومن بهجة السرد وتحولاته اليقظة التي يحركها بقدر عالٍ من الحرفية والضبط المحسوب للمسافات. 

إنَّ تلك الملاحظات وهي كل ما عثرتُ عليه من "مآخذ"، ليست أكثر من شوائب جانبيّة، يمكن أن تتبخر بلمسةٍ عابرة، أو هزّةِ منخل رقيقة من لدن صاحبنا مؤلف هذا السِفر الجليل الذي لم يمتعنا فحسب؛ بل علّمنا وبصّرنا. وأتحدثُ عن نفسي فأقول ساعدني على أن أكون أكثرَ حكمةً وأفضلَ فهمًا للواقع المشترك الذي عشناه معًا سنواتٍ طويلة؛ بل عقودًا عديدة متقاربين ومتجاورين. لقد قدّم لنا هذا السِفر شهادةً نابضةً، وأنجز صورةً حيّة، وعرض حالةً نموذجيّة لتجربة علمية وإنسانيّة ثرية، وما قلته فيها ليس أكثر من مقاربة سريعة لعمل جليلٍ جديرٍ بجهد أكبر وتناول أعمق، ويستحق أن يُقرأ مرة ومرتين وأكثر. 

 

 

 

 

الهوامش والإحالات: 

1) صدر حكاية وشم / سيرة نقشتها على خد الصفا عواصف المدى، عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2022.

2) انظر: بطرس غالي، 5 سنوات في بيت من زجاج، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1999.

4) من الجدير بالذكر أن شهادة وفاة "فيدور ديستويفسكي" (1821- 1881) حددت سبب موته بنوبة صرع، انظر موقع: واي باك مشين، .Way Back Machine 

5) حول الجوانب الشخصية ل"سومرست موم" ( 1874- 1965) انظر موقع    IMDb  (بالإنجليزية).

6)عن حياة "ليو تولستوي" (1828- 1910) انظر: اعترافات تولستوي (بقلمه) ترجمة محمود محمود، 2018  موقع مؤسسة هنداوي.

7) لويس عوض، سنوات التكوين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1984، الفصل الثاني (فولكلور العائلة). 

8) Pfister, Manfred, The Theory and Analysis of Drama. Cambridge University Press, 1991.

9) انظر: إدوارد الخراط، الحساسيّة الجديدة، مقالات في الظاهرة القصصية، دار الآداب، بيروت، 1993.

10) حكاية وشم، ص 83-87.

11) المصدر السابق،  ص 33 .

12) المصدر السابق، ص 74-75.

13) المصدر السابق، ص 62-63.

14) انظر: صلاح أبو سيف، كيف تكتب السيناريو، دار الجاحظ بغداد، (د. ت).

15) حكاية وشم، ص 78.

16) مايكل ملجيت: وليم فوكنر، ترجمة غالب هلسا، سلسلة أعلام الفكر العالمي، القاهرة.

17 Hamlin Garland, A Son of Middle Border (1917) googl book  (

18) حكاية وشم، ص 125-127.

19) أ.م. فورستر: أركان القصة، ترجمة كمال عيد عياد، دار الكرنك، القاهرة، 1960، (فصل: الناس2) وقد ظهرت ترجمة أخرى لهذا المرجع التأصيلي المهم بعنوان: أركان الرواية، صدرت عن جروس برس، دمشق، 1994.

20) انظر دراستنا عن رواية عمارة يعقوبيان في كتاب: المرأة مشروعًا روائيًا- دراسات في الرواية المصرية، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، 2018، ص111-141.

21) رواية النهايات مثلًا لعبد الرحمن منيف، (1986) وقد أفرد لدراستها الدكتور محمد علي الشوابكة دراسات معمّقة صدرت في كتاب بعنوان: السرد المؤطر في رواية النهايات لعبد الرحمن منيف.

22) حكاية وشم، ص168- 170.

23) المصدر السابق، ص 109.