"رولان بارت" والثقافة المغربيّة: هشاشةُ صورةٍ أم براءةُ فكر؟

 

أشرف الحساني

ناقد وصحفي مغربي

للمُفكّر الفرنسي "رولان بارت" علاقةٌ وطيدة بالثقافة العربيّة المعاصرة، سيّما داخل مجال النقد الأدبيّ، فقد حرّر صاحب "لذة النصّ" و"ميثولوجيات" هذه الثقافة من كلاسيكيتها وجعلها تمتطي مراكب النقد المعاصر ومناهجه العلمية الحديثة، داخل عددٍ من النصوص السرديّة والأعمال الفنيّة والسينمائيّة، من خلال مجهودات بعض المترجمين المغاربة؛ مثل محمد برادة ومحمد البكري اللذين لعبا دورًا كبيرًا وبارزًا في ترجمة عددٍ من كُتب "رولان بارت". بحيث أنّ كتابه "الدرجة الصفر للكتابة" ترجم منه البكري عددًا من المقالات التي نُشرت على صفحات مجلة "الثقافة الجديدة"، التي كان عضوًا في تحريرها إلى جانب مديرها الشاعر محمد بنيس، قبل أنْ يعمل محمد برادة بشكلٍ رسميٍّ على ترجمة الكتاب بأكمله. لكن مع ذلك، يبقى النّاقد الفذ محمد البكري أكثر الأسماء العربيّة التي قامت بترجمة سليمة ل"بارت" صوب العربيّة، رغم صعوبة شطحات "بارت" الفكريّة، إلاّ أنّ الرجل تمكّن بالفعل من إقامة عناقٍ حقيقيّ مع أعمال هذا المُفكّر، الذي شغل قضايا النقد الأدبيّ المعاصر ونصوصه السرديّة، وما يزال هذا التأثير ساريًا إلى حدود اليوم. كلّما ظهرت ترجمة عربيّة جديدة ل"رولان بارت"، فهي تخلق الحدث الأدبيّ داخل البلاد العربيّة. احتفاءٌ لا يُوازيه سوى الفرح العارم الذي دغدغ العرب وهم يتلقفون لأول مرة ترجمات مقالات "بارت" الفكريّة، التي ستتأسّس عليها لاحقًا قضايا النقد العربي وقراءاته، سواء داخل الشعر(بشكل أقل) أو النصوص القصصيّة والروائيّة، وغدت أفكار الرجل بمثابة موضة نقدية في ذلك الإبان، يلجأ إليها كلّ النقاد والأكاديمين العرب لمساءلة أفكارها والاستعانة بها لفكِّ بعضٍ من أسرار الكتابة المعاصرة، بحكم المسارات التي ظلّ يحبل بها الكتاب السالف الذكر.

ففي الوقت الذي ظلّت فيه كتابات "بارت" تحفر مجراها عميقًا في جسد الأدب العربي المعاصر، كانت كتابات المُفكّر الفرنسي "جون بول سارتر"، عبر مقالته الشهيرة "ما الأدب؟" تأخذ مكانتها داخل البلاد العربيّة، بسبب الخلفية الأيديولوجيّة والصرامة الالتزاميّة والتحليل الاجتماعيّ، الذي ظلّت ترزح تحته كتابات "سارتر"، فهو لم يستغنِ أبدًا عن هذا البُعد الاجتماعيّ في تحليل النصّ الأدبيّ أو النظر إلى مفهوم الأدب، باعتباره ذا صبغةٍ اجتماعيّة وسياسيّة، طالما اعتبر أنّ الإنسان داخل هذا الأدب هو من يصنع المعنى، أيّ أنّ تشريح النصّ الأدبيّ لا يحيد عن الاهتمام بتفاصيل برانيّة مثل المذهب والانتماء الأيديولوجي والالتزام السياسيّ، الذي يلجأ إليه "سارتر" في النظر إلى مفهوم الأدب، خلافاً ل"رولان بارت" المُنتمي إلى جيلٍ بنيويّ ينظر إلى مفهوم الأدب من داخل الأدب، فهو لا يحيد عن المقاربة الداخلية للنصّ الأدبيّ؛ من خلال تمركز رؤيته حول مفهوم اللغة وخاصيّة الأسلوب، بوصفه "مُعطى فيزيقي" يحدّد هوية النصّ الأدبيّ ويرسم للتجربة الإنسانية مسارًا تراجيديًّا مُغايرًا، يبدأ من اللغة وينتهي داخل الأدب. من هذا المُنطلق وجدت كتابات "سارتر" ومفاهيم نقده الاجتماعيّ تربةً خصبة داخل المشرق؛ بسبب ما كانت تشهده المنطقة من سطوةٍ لمفاهيم العروبة والقومية والوحدة والماركسية، فكان من الطبيعي على أنصارها أنْ يتبنوا كتابات "سارتر" في هذا المجال دون غيره، مقارنةً بكتابات "بارت" الصديقة والحميمة للثقافة المغربيّة، أمام الدور الذي لعبه المُترجم محمد البكري في نقل تراث "بارت" حتى غدا منذ النصف الثاني من السبعينيات، الاسم الأكاديميّ المُرادف لصورة "بارت" عربيًا.

لكن المُلاحظ، هو أنّ تأثير "بارت" داخل الثقافة العربيّة بقيّ محصورًا داخل الأعمال السرديّة، دون غيرها من الأعمال التشكيليّة والسينمائيّة، وحتى تلك الكتابات القليلة التي استنجدت ببارت داخل النقد الفنيّ، لإضاءة بعضٍ من معالم التجارب الفنيّة العربيّة، استنفدته وصفًا، دون أنْ تجعل من مُنطلقاته المعرفيّة نسقًا ومنهجًا، بحكم ما تحبل به كُتبه من دراسات مغايرة في النظر إلى طبيعة هذه الأعمال الفنيّة من الناحية السيميولوجيّة، بوصفها العلم الذي يدرس العلامة المرئيّة واللامرئيّة منها. وبما أنّ الأعمال التشكيليّة والسينمائيّة في أصلها صورة، والصورة باعتبارها علامة تُحدّد هوية النصّ أو اللوحة أو الفيلم، تغدو مقاربات "بارت" في هذا المجال ذات رؤى سديدة لموضعة العمل الفنيّ وتشريحه. لكن إحجام الثقافة العربيّة عن الاهتمام بالصورة والتقوقع التاريخيّ حول الخطاب و"اللوغوس"، جعلها تهتمُّ بكتابات "بارت" حول السرد عوض الصورة. جهلٌ لا يُبرّره سوى سطوة المكتوب على البصري داخل سراديب هذه الثقافة. ففي الوقت الذي تُستنفد فيه بعض المفاهيم والنظريات مرحلتها داخل الفكر الغربي، تشدُّ الثقافة العربيّة المعاصرة الرحال إلى الاهتمام بذلك؛ ما يخلق نوعًا من التأخر التاريخيّ والمفارقة المعرفيّة، خاصّة وأنّ مقاربات "بارت" لمفهوم الصورة منذ ثمانينيات القرن المنصرم ما تزال مُلحّة على الثقافة العربية الآن، بسبب الإبدالات المفاهيميّة التي ألمّت بها، وسطوة البصري على حياتنا المعاصرة يجعل من مفهوم الصورة الفنيّة والسينمائيّة والفوتوغرافيّة وغيرها في طليعة المفاهيم النقدية المركزية التي يتأسّس عليها جوهر خطاب هذه الثقافة. وبما أنّ الأمر كذلك، لجأ العديد من الباحثين العرب إلى ترجمة كُتُبٍ غربيّة حول الصورة مثل: سعيد بنكراد(غي غوتيي) وريتا الخوري(جاك أومون) وفريد الزاهي(ريجيس دوبريه) وجمال شحيد(جيل دولوز) وغيرهم.

وأمام المجهودات العلميّة الكبيرة التي خصّصها هؤلاء الباحثون لشحذ ترسانتهم المفاهيميّة، صوب هذه الأعمال الغربيّة، ظلّ معها الفكر العربيّ بمنأى عن التفكير في الصورة وقضاياها وعوالمها المُتخيّلة. وكأنّ العنف التاريخيّ الذي مارسته الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة خلال العصر الوسيط على مفهوم الصورة، يجعل ذلك يُخيّم على الزمن المعاصر، ويسحب معه كلّ تجديدٍ يُذكر لهذه الثقافة، في وقتٍ لجأت فيه دور نشرٍ عربيّة إلى تشجيع ترجمات الصورة وعيًا منها بأهميّة تأمّلات "رولان بارت" في هذا الموضوع. ثمّ إلى خصوصية المرحلة التي نعيشها تجعل من راهننا زمن صورة بامتيازٍ.  يُعتبر كتاب "la chambre claire"(الغرفة المُضيئة: تأمّلات في الفوتوغرافيا) الذي صدر عام 1980 آخر كتاب في حياة "بارت" الفكرية، ففيه يرصد "بارت" العلاقة التي يُمكن أنْ تتشكّل بين الفوتوغرافيا والفكر، لما للصورة الفوتوغرافية من أهميّة بالغة في تخييل الزمن، فهي ذات قدرة مخصوصة على التقاط تفاصيل صغيرة من حياة الناس والقبض عليها داخل إطارٍ فنيّ، أقرب إلى فسحة وجودنا. وبالتالي، فإنّ الفوتوغرافيا وباهتمامها بعنصر الزمن كمُكوّنٍ أنطولوجيّ يجعلها ذات صلة حميمية بمفهوم الماضي، الذي تجعل منه المُحرّك الخفيّ والأساس لجمالياتها. فكلّما أخذنا صورة فوتوغرافية تغدو في آنيتها في رحاب الماضي.

هذا ويبقى المُفكّر المغربي عبد الكبير الخطيبي أكثر المُفكّرين العرب الذين اهتموا ليس بدراسة مفهوم الصورة لدى "رولان بارت" فقط، وإنَّما في تفعيل أفكاره النقديّة كمدخلٍ جديدٍ لمقاربة بعض قضايا شائكة ترتبط بالنصّ والجسد والحكاية والصورة والعلامة والأثر داخل الثقافة العربيّة المعاصرة، انطلاقًا من كتابه المهم "الاسم العربي الجريح"(1980)، بحيث أنّ القارئ يتلمّس عن كثب بعض مفاهيم "بارت ودريدا وليفي ستراوس وفوكو ودولوز" وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين، الذين حاول الخطيبي مساءلة تراثهم الفلسفيّ من خلال جملة من الموضوعات المُرتبطة بالوشم ومورفولوجية الحكاية، وجماليّات الأمثال، وفتنة الجسد الإيروتيكي. كل هذا، على ضوء مقاربة شاملة للتراث المغربي منذ الوسيط إلى اليوم؛ ما جعل من الكتاب على مدار سنوات يتنزّل منزلةً عميقة داخل الثقافة العربيّة؛ لأنّه كتابٌ مغايرٌ في طروحاته ومنهجه الأركيولوجي الواضح، وأدواته الفكريّة المُستمدة بالأساس من تاريخٍ وأنثروبولوجيا وسيميولوجيا "بارت" وشطحاته الجدليّة، هذا فضلًا عن خاصية جرأة المنهج غير المُتعدّد التي ميّزت الكتاب، وجعلت بارت يُخصّص مقدمة  مهمة يتحدث فيها عن عشقه لكتابات عبد الكبير الخطيبي وأهميّتها، التي اكتسحت الثقافة العربيّة صوب مواطن التفكير الغربيّ، ومدارات لغاته وفنونه في تقاطعاتها مع الحضارة العربيّة، بوصفها حضارة علامة، على حساب الثقافة الغربية التي اعتبرها الخطيبي ثقافة صورة. يقول رولان بارت عن الخطيبي.

لعب "رولان بارت" دورًا كبيرًا عبر عبد الكبير الخطيبي منذ أوّل لقاء لهما بباريس، حين كان الخطيبي يعدُّ أطروحةً بجامعة السوربون حول الأدب المغاربي، التي أشرف عليها "جاك بيرك"، وبما أنّ "بارت " كان عضوًا في لجنة المُناقشة، تمّ التعارف، وتمتد هذه الصداقة الفكريّة سنوات طويلة داخل المغرب وخارجه، استطاع فيها "رولان بارت" المُفكّر  المُنفلت من قبضة المتعاليات الأكاديميّة داخل جامعات ومراكز بحثٍ فرنسيّة، من التأثير الواضح في كتابات أجيالٍ كاملة لدى كلٍّ من: محمد برادة، ومحمد بنيس، وعبد الفتاح كيليطو، وعبد السلام بنعبد العالي وغيرهم. إنّ المتأمّل في سيرة بارت والخطيبي، يكتشف وكأنّهما شخصًا واحدًا من حيث أنماط التفكير ونوع المنهج الذي من خلاله يحفران في عمق الثقافات الشعبية اللامفكّر فيها، وفهم ميكانيزماتها والأسّس المعرفية التي تُشيّد عليها. إنّ الثقافة الفرنسيّة لم تعُد تتوفر حسب "بارت" على "ثقافة شعبيّة" غدت بالنسبة له مجرد مادة "متحفيّة"؛ بحيث أنّ الثقافة الفرنسية وأوساطها الأكاديميّة ترفض "بارت" ومعه موضوعات من قبيل الثقافة الشعبيّة، فهي بالنسبة لها نشأت خارج مسار التاريخ، وهذا الطرح يذهب إليه عبد الله العروي نفسه في كتابه "الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة" في الفصل المُخصّص لدراسة الفولكلور، مُعطيًا أهميّة بالغة لمفهوم المركز على حساب الهامش الذي انصب عليه كل من بارت والخطيبي، وجعلا منه المُنطلق الإبستمولوجي الذي يحكم مسار أطاريحهم الفكرية. وهذا الأمر أحدث جدلاً واسعًا داخل المغرب منذ نهاية السبعينيات، لما صدر كتاب الخطيبي "الاسم العربي الجريح" (ترجمة محمد بنيس) الذي أخذ يكتسح الجامعات المغربيّة، ويُعطي إشاراتٍ ضوئيّةً عن ضرورة دراسة مفهوم الهامش، ومعه الأمثال والصور والآثار والجسد والفنّ والتصوف. لقد كان الكتاب أشبه بدعوة فكريّة داخل ثقافة مغربيّة تقليديّة، ما تزال تحتكم في موضوعاتها إلى الحركة الوطنيّة، ومفاهيم الدولة والوطنيّة والمقاومة، أمام جرأة كتابات الخطيبي وهي تحفر في المكبوت واللامفكّر فيه داخل هذه الثقافة. رغم الجدل الكبير الذي خلّفه إصدار الكتاب في مرحلة حسّاسة، لم تتشكّل فيها بعد بوادر حداثة فكريّة تُحاول أنّ تنفلت من سُلطة النموذج الغربيّ في مساءلة مفهوم الحداثة، ومن فتنة الانحسار الفكري داخل هُويةٍ عمياء، لا تنتبه إلى الآخر الذي أضحى يسكننا ونسكن فيه.