عودةٌ إلى "كلود ليفي ستروس"...

 

الأنثروبولوجيا في مواجهةِ مشاكلِ العالمِ الحديث

الدكتور عبد الفتاح شهيد

جامعة السلطان مولاي سليمان، المغرب

             

            أكبرُ تهديدٍ للعالم اليوم أن يصيرَ على شكلٍ واحد، تذوب فيه الاختلافات وتنصهر في أتونه الثقافات، فهذا الالتحام الذي تسير إليه الشعوب، يعني نهاية العالم الذي عرفه الإنسان الذي يناهز المليون أو المليونين سنة. فأيّ تعاون أو تواصل أو مشاركة بين الحضارات يجب أن يقترن بالتنوع إلى أقصى حدٍّ ممكن... "غيابُ الحدِّ النموذجيّ للتنوّع" هذا، و"التفوّق الثقافيّ الغربيّ"، ومشاكل "التقنيات الجديدة في الإنجاب"، و"النمو الاقتصاديّ"، و"الفكر الأسطوريّ"؛ أهمُّ القضايا التي يحسُّ إزاءها "كلود ليفي ستروس" Claude Lévi-Strauss بقلقٍ كبيرٍ في تأملاته للعالم وتنبؤاته بالمشاكل الحقيقيّة للإنسانيّة في عصر التقنيات الحديثة والعولمة. وهو يتأملُ في مختبر بحثه، لمعالجة "الأفكار" التي تشكّل خطرًا على الإنسان، يدافع بوثوق كبير عن الحلول التي تقدمها الأنثروبولوجيا للإنسان المعاصر من خلال تجربتها في دراسة الشعوب التي تُنعت بالبدائيّة.

         إنَّ الفهم الدقيق لقضايا الإنسان والثقافة والطبيعة والتاريخ لن يتمَّ دون استدعاء أعمال كبار علماء الأنثروبولوجيا وفي مقدمتهم "كلود ليفي ستروس"، وهو يحدّد، في هذا الكتاب ، "ماهية الأنثروبولوجيا" والأدوار الطلائعيّة التي تضطلع بها، والأجوبة التي تقترحها للأسئلة الصعبة التي تميّز عصرًا تتعاظم تهديداته وتتكاثر إيديولوجياته، وتضمحل ثرواته، وتنحسر موارده.

          1. نهايةُ التفوّق الغربيّ؛ نحو حدٍ نموذجيّ للتنوّع: تقدّم الحضارة الغربية نفسها، ويقدمونها، على أنّها حضارة متقدمة، وأنّها مصدر السعادة للإنسانيّة، لكن هذه الصورة اهتزت بانتشار الإيديولوجيات الشموليّة وبروز عمليات إبادة ومذابح مروّعة. وحتى باستتباب السلام ظلّت العلوم والتقنيات- رغم المكاسب التي حققتها- تهدّد الجنس البشري بالانقراض. وهو ما يُضاف إلى اضمحلال ثرواتنا الأساسيّة، وتلوّثها، وانتهاك إنسانيّة الإنسان. وهذا ما يدفع الغرب إلى ضرورة تعلّم أشياء جديدة حول الإنسانيّة والإنسان من مجتمعات كانت موضع احتقارها، والتوجّه صوب الأنثروبولوجيا قصدَ إيجاد أجوبةٍ لأسئلتها المقلقة. والأنثروبولوجيا بمفهومها الواسع هي التخصّصُ الذي يهتمُّ بدراسة الظاهرة الإنسانيّة، وهي قديمة قدم الإنسان. واعتمد علماؤها على دراسة مجتمعات ينعتونها بالبدائيّة، وهي مجتمعاتٌ إنسانيّة تختلف عن مجتمعاتنا بعدم لجوئها إلى الكتابة وإلى وسائط ميكانيكية. وهي مجتمعات تتجسّد فيها قواسم مشتركة للشرط الإنسانيّ، وتشكّل أشكالًا أصيلة من الحياة الاجتماعية، تُقصى فيها الأمراض، وتحتوي على أنواع نباتية وحيوانية جدّ متنوعة، وتستمد أهميتها من استقرارها.

         وتسعى الأنثروبولوجيا إلى "الموضوعيّة" أكثر من أيّ شيء آخر، بتشكيل مقولاتٍ ذهنيٍّة جديدة وإدخال مفاهيم غير تقليدية في التفكير. كما تتصف بالشموليّة، حيث الحياة الاجتماعيّة تمثّل نسقًا تترابط كلُّ الأوجه المكوّنة له بشكلٍ عضوي، مع التركيز على الأشكال المشتركة والخصائص الثابتة والقواسم المشتركة، حيث الموضوعية الشاملة أن تعني الظواهر دائمًا أمورًا ما، والإدراك والتمييز بين أنماط الحياة الاجتماعيّة الفعليّة. والأهم هو تحديد الاختلافات التي تميّز أشكال الحياة عن أشكال الحياة التي نعيشها اليوم. وهنا تبرز الأنثروبولوجيا وكأنّها التعبير الأكمل عن الإنسيّة. إنَّ "النظرة البعيدة"، و"تقنية الاغتراب"، هي ما سعى إليه "ستروس" في بعض كتبه وهو ما لجأ إليه اليابانيون كذلك في التعامل مع الصين لتأكيد خصوصية الثقافة اليابانية، حيث بدأت أهمية فهم الذات من خلال الرجوع إلى الآخر.

        إذ على عالِم الأنثروبولوجيا التموضع أقصى ما يمكن في الخارج، وأقصى ما يمكن في الداخل للوصول إلى قلب المجتمعات؛ وبذلك فهي تتجاوز حدود الإنسيّة بشكلها التقليدي، وتتحرك في كل بقاع العالم المسكونة، وتستقطب أساليبها من كل أشكال المعرفة ومن كل العلوم... فبعد الإنسية الأرستقراطية (عصر النهضة) والإنسية البورجوازية (ق 19) تأتي الأنثروبولوجيا لتعلن مجيء إنسية كونية ديمقراطية "تجنّد مناهج وتقنيات استعارتها من كل العلوم لتجعلها في خدمة معرفة الإنسان، مطالبة بذلك بمصالحة الإنسان والطبيعة وضمّها في إنسية شاملة، فإلى أي حد تنجح الإنسية الأنثروبولوجية في ذلك؟!". إنَّ من أهم فوائد الأنثروبولوجيا في هذا المضمار أنّها تحثنا على التواضع والحكمة، ويؤكد علماؤها إمكانية وجود طرق عيش وقيم وأنساق مختلفة تمدّ تجمعات إنسانية بأكملها بما تحتاج إليه للتمتع بحياة سعيدة.

        تكشف الأنثروبولوجيا أنَّ الشعوب التي تُنعت بالبدائية لم تكن تعاني من الخوف من الموت جوعًا، يعملون ما بين ساعتين وأربع يوميًّا لسدِّ حاجياتهم وحاجيات عائلاتهم، ويمارسون أنشطتهم الدينية والفنية، مما يدفعنا إلى التساؤل بصدد العالم الذي نعيش فيه اليوم؛ ألا يمكن أن يكون الظهور المدوي لمختلف الإيديولوجيات الشمولية سوى ردود فعل ثائرة على أوضاع حياتية تشكل قطيعة عنيفة مع تلك التي كانت معروفة في الماضي؟! ولذلك يجب على الإنسانية لتجاوز السيناريو الأسوأ أن تفترض وجود حد نموذجي للتنوع إن هي رغبت في الاستمرار، بين الثقافات وداخل المجتمع الواحد، فـــ"التعامل باهتمام وتقدير مع الاختلافات التي يلاحظها بين الثقافات، أو تلك التي تنشأ داخل كل ثقافة على حدة، هذا ما يشكل جوهر المنهج الذي تتبناه الأنثروبولوجيا"، مع مراعاة خصوصيات المجتمعات. ودور عالم الأنثروبولوجيا أن يُقنع بأهمية الاختلاف، وروح الأنثروبولوجيا هي محاربة اندحار الثقافات واندثار مكوناتها، وهنا تتجلى أهميتها.

         2. قضايا العصر الكبرى: يمكن التوصّل، ولو جزئيًّا، إلى حلِّ بعض مشاكل الإنسان الحديث، من خلال دراسة المجتمعات التي لا تعرف الكتابة:

- نظامها العائليّ والاجتماعيّ: تلجأ هذه المجتمعات إلى علاقات القرابة بشكل منظم أكثر مما هو الحال اليوم، بحيث تعمد إلى علاقات القرابة والمصاهرة لتحديد الانتماء لمجموعة ما، وهي الكفيلة بالتعبير عن العلاقات الاجتماعية المختلفة. فكل المجتمعات تسعى إلى الحفاظ على استمراريتها، من حيث إثبات انتساب الأفراد وتحديد مكانة الواردين الجدد على المجموعة، وتصنيف الأقارب، وطرق الزواج... كما طُرح في المجتمعات الغربية مشكل إيجاد علاجات للعقم، وطرق مختلفة للولادة، فيما يمكن إدراجه ضمن عمليات "الإنجاب بالمساعدة"، التي أصابت المفكرين المعاصرين بالذعر، لما تطرحه من مشاكل قانونية ونفسانية وأخلاقية. لكن لدى علماء الأنثروبولوجيا ما يقولونه في هذه الإشكالات لأنَّ المجتمعات التي يدرسونها واجهت هذه المشاكل وقدّمت لها ما يناسبها من حلول.. فقد عرفت الشعوب البدائية لدى الهنود في البرازيل، وفي بوركينا فاسو والسودان، أشكالًا متعددة لتقنيات الإنجاب، دون أن يعيشوا هذا الصراع بين ما هو بيولوجي وما هو اجتماعي، فالأولوية دائما للاجتماعي.. فعالم الأنثروبولوجيا يقدّم لنا معطياتٍ تمثّل ملامحَ كونيّةً حملتها الطبيعة البشرية في كل مكان وزمان، ولا يمكن اعتبارها بحال انحرافًا أو شذوذًا. وإذا كان القانونيون والأخلاقيون يتحمسون أكثر من اللازم إلى سنِّ قوانين؛ فإنَّ علماء الأنثروبولوجيا يرغبون في ترك الأمور تسير على سجيّتها وعدم التدخل، وذلك لأنَّ المنطق الداخلي للمجتمع قادر على خلق بنيات اجتماعية قابلة للاستمرار وإقصاء أخرى.

- الحياة الاقتصادية: تساعدنا كذلك الأبحاث الأنثروبولوجية على اكتشاف نماذج مختلفة من تلك التي توجد عندنا، وتحثّنا على التفكير في هذه الأخيرة ومساءلتها. ومن المواضيع المشتركة بين الأنثروبولوجيا وعلماء الاقتصاد، مدى إمكانية تطبيق قوانين علم الاقتصاد المنبثقة عن نظام اقتصاد السوق في المجتمعات القديمة وفي المجتمعات الزراعيّة، والتي لا تفصل الجوانب الاقتصادية عن باقي الجوانب الأخرى. فلا يمكن اختزال الأنشطة الاقتصادية في هذه المجتمعات في تحقيق الربح، بل الحصول على حظوة داخل المجتمع والمساهمة في الإصلاح من أمره. ودراستنا لهذه المجتمعات المختلفة عن مجتمعاتنا توفّر قدرةً عجيبة على حل مشاكل الإنتاج. لقد كانت الحضارات القديمة تلجأ إلى أنظمة زراعية دقيقة، وبالإضافة إلى إيجاد طرق للحصول على أكبر كمية من الإنتاج، كانت تعمل على وضع طرق زجرية لتحديد الإنتاجية. والدرس الأول الذي تستخلصه الأنثروبولوجيا في الاقتصاد هو وجود أشكال متعددة للنشاط الاقتصادي... إنَّ ما يبدو لنا سلبية وبساطة في هذه المجتمعات هي في الحقيقة مظاهر لما يحدثه الرجل الأبيض فيها من نهبٍ ودمار...

             لا بدَّ كذلك من إبراز الأسباب العميقة التي تدفع المجتمعات التي تُنعت بالبدائية إلى مقاومة النمو، وهي ترجيح الوحدة على التناقضات الداخليّة، فكلها ترفض مثلا التصويت بالأغلبية، وتفضل الإبقاء على الانسجام الاجتماعي والتفاهم الداخلي. والاحترام الذي تكنّه لقوى الطبيعة، فالأشياء المصنوعة تصبح عديمة القيمة كلما تعلق الأمر بما هو جوهري. ونفورها من الدخول في أية صيرورة تاريخية، وميلها إلى البقاء إلى ما لا نهاية على حالتها الأولى، ولذلك قد تبدو بدون تاريخ ولا تتقدم أبدًا.

             وما يمكن استنتاجه هو التعامل بكل احترام وتقدير مع الأنماط الاقتصادية التي قد تبدو رواسب بدائيّة وعقبات في طريق النمو، والتساؤل عن مستقبل اقتصادنا دون الحفاظ على العوامل النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، وأهمية دمجها في عملية الإنتاج، لتحويل الثروات المنتَجة إلى قيمٍ أخلاقيّة واجتماعيّة؛ ولتحقيق الذات، وإحراز تقدير الأقرباء والجيران، والتناغم بين الإنسان والطبيعة، "وكلّما تبيّن بأنَّ الحضارة بشكلها الصناعي تهدّد بتقويضه؛ يأتي عالم الأنثروبولوجيا لتنبيهنا وإرشادنا للسبل التي بإمكاننا سلكها لاسترجاعه".

- بين الفكر العلميّ والفكر الأسطوريّ: يجب استخلاص الدروس من التصورات الدينيّة في أوساط الشعوب التي يهتمُّ بدراستها علماء الأنثروبولوجيا، لأنَّ الديانات تمثّل خزانًا واسعًا للتمثّلات التي تتّخذ أشكال أساطير وطقوس. ومن خلال استعراض أساطير بعض الشعوب التي تنعت بالبدائية يمكن استنتاج أن المعاني التي تحملها الأساطير لا تبدو واضحةً إلا عندما تدخل في علاقات فيما بينها، من خلالها تبدو المساهمة التي يمكن أن تقدمها الأبحاث لحلِّ مشاكلنا الراهنة... فإذا كانت تلك الشعوب تلجأ إلى الأساطير فإنّنا اليوم نلجأ إلى التاريخ وتأويل الماضي مما نختلف فيه باختلاف بيئاتنا ومعتقداتنا السياسيّة وقيمنا الأخلاقيّة. وعلى الرغم من أنَّه لا يوجد إلا تاريخ Histoire  واحد، فكلٌّ منا يروي لنفسه تاريخًا مختلفًا. وتعلّمنا الأنثروبولوجيا أنَّ الماضي لا يقبل تأويلًا واحدًا مطلقًا؛ "فحتى بالنسبة لنا قد توجد أوجه قرابة بين المعرفة التاريخيّة والأسطورة، وعلى ما يبدو فالعلم يميل هو الآخر ليصبح تاريخًا للحياة وللعالم، ومن المحتمل إذن أن أجد الفكر العلميّ نفسه في يوم من الأيام قريبًا من الفكر الأسطوري".

               3 . القبولُ بالتنوّع الثقافيّ: كل ما سبق يحثّنا على اختزال المسافة بين مجتمعاتنا نحن وتلك التي لا تعرف الكتابة. وتواصل الأنثروبولوجيا تأملاتها في هذه المشكلات، من قبيل مشكلة العِرق ومعنى التقدم. فلتبرير عملية الفصل كان يُلجأ إلى نوعين من الحجج؛ الفرق بين الجماعات البشرية يوجد في إرثها الجيني، والتوزيع اللامتكافئ لهذا الإرث يؤثر سلبًا على المقدرات العقليّة والاستعدادات المعنويّة. في حين ترى النظريات النشوئيّة أن عدم تساوي الثقافات يرجع لأسباب ليست بيولوجية بقدر ما هي تاريخيّة.. ولدحض فكرة ترابط العرق والثقافة تدفع الأنثروبولوجيا بأنَّ عدد الثقافات يفوق كثيرًا عدد الأعراق، وأنَّ التركات الثقافيّة تتطور بوتيرة أسرع من التركات الجينية، وهو ما يفسر الاختلاف الكبير بين علماء الأنثروبولوجيا الثقافيين والاجتماعيين، وعلماء الأنثروبولوجيا الطبيعيين المنتمين إلى المدرسة القديمة. وقد استفادت الأنثروبولوجيا من تخصّص حديث هو علم وراثة الشعوب، والذي أثبت صوابية مواقفها، وهو يعوّض مفهوم العِرق، غير الدقيق، بالمخزون الجيني.

          فأشكالُ الثقافة وأنماطُ المعيشة هي التي تحدّد وتيرة التطور البيولوجي وتوجهها، لنجد أنَّ العِرقَ (وهي مفردة في غير محلها) مجرد عامل، تابع للثقافة، من جملة عوامل أخرى. إنَّ أهم ما ينتهي إليه الكاتب في حديثه عن "العِرق" هو أنَّ علماء الأنثروبولوجيا وعلماء البيولوجيا يتفقون اليوم على أنَّ حياة الإنسان تنتج بالتنوّع، التنوّع الثقافي والاجتماعي والجمالي والفلسفي، وهو تنوّع لا يمكن ربطه أساسًا بذلك الذي يوجد في البيولوجيا بين العائلات البشرية، وإن كانت مشكلة "القدرات العِرقية الوراثية" لم تُحل نهائيًّا.

           لا يتصوّر الكثيرون تنوّع الثقافات على حقيقته، فيبدو أنَّه في تصوّر البعض فضيحة، أو فظيعة؛ فدأبوا على رفض الأعراف والمعتقدات والعادات والقيم الأكثر اختلافًا. فاليونانيون والصينيون القدامى والأوروبيون كانوا يلقون المختلفين عنهم إلى الطبيعة أي خارج الثقافة، وهو ما رفضته الأنساق الدينية والفسلفية الكبرى... أمَّا المذهب النشوئي الذي هيمن على أوروبا فهو محاولة لاختزال التنوع الثقافي مع التظاهر بالاعتراف التام بوجوده.

            إنَّ الأفراد يتعاطفون مع ثقافتهم بقوة، ولا شيء في كل من الثقافتين المختلفتين يثير اهتمام الآخر، لسببٍ بسيطٍ هو أنَّهما لا تتشابهان. غير أنَّ تأمل الثقافات الأخرى يبيّن ما قدمته للإنسانيّة؛ الهند، الإسلام، إفريقيا، أمريكا ما قبل المرحلة الكولومبية، الصين، اليابان.... وما نسعى إليه هنا ليس إنكار ما حققته الإنسانيّة من تقدم، ولكن أن نفحصه على نحو أكثر دقة، وما حققته معارفنا من تقدم يحثّنا على توزيع الحضارات بكل أشكالها عبر الفضاء (الذي يمثله العالم) بدل ترتيبها لتبدو متسلسلة عبر الزمن.

            وفي الأخير فقد بسط "كلود ليفي ستروس" في مواقع مختلفة من هذا الكتاب معالم نسبوِيّة ثقافية، لا تنكر حقيقة التقدم، لكنها ترى أنَّه لا يحدث إلا في بعض المناطق ويبقى عرضة للركود في مناطق أخرى.. فقد توصل علماء الأنثروبولوجيا إلى استحالة ترتيب الشعوب في سلم مشترك، بإصدار أحكام ثقافية أو أخلاقية عليها، وتقييمها بالمقايسة فيما بينها. غير أنَّه من بين المشكلات الكبرى التي تواجهها هذه الدراسات اليوم، أنَّ هذه الشعوب أضحت تقرُّ بتفوق الحضارة الغربيّة، التي بدأت تفقد ثقتها في نفسها. وفي المقابل تتهم الأنثروبولوجيا بتكريس الهيمنة الاستعمارية، والتشجيع على استمرار ممارسات وطقوس عفا عليها الزمن، تعرقل مسيرة النمو والتقدم. فهل تستطيع الأنثروبولوجيا تجاوز هذه المشاكل واستعادة ثقة المجتمعات التي تدرسها في نفسها وفي الأنثروبولوجيا؟!