قمعُ الطفولة في مذكرات إدوارد سعيد

 

 

سمير أحمد الشريف

كاتب أردني

انشغالُ الباحثين والدارسين في بحث تراث المفكّر إدوارد سعيد، وتأثيره العميق في النقد الحضاريّ ودراسات الاستشراق والنقد الأدبيّ والأدب المقارن، ودفاعه عن القضيّة الفلسطينيّة، حال دون وقوف الكثيرين على مفاصل في طفولته التي مثّلت بئرًا عميقةً لمعاناة طويلة من الاضطراب والقمع والقلق، سواء من والديه أو معلميه، أو من لداته ومجايليه.

رصدت المذكرات مراحلَ القمع التي وقعت على طفولة المؤلف، كما تتجلّى في صورة الأب التي رسمها "خارج المكان" وكيف تشكّلت تلك الصورة في وعيه من خلال سلوكيات والده: " كان أبي يملك مجموعةً من السيارات.. كان دائمَ الاستخدام للسائقين، وقد أجاز لي التحدث مع اثنين منهم خلال رواحه إلى العمل وإيابه منه، يُصرُّ على الصمت الكامل، قد يتكرّم عليّ بابتسامة إلى أن نصل جسر بولاق، وإذ ذاك ينكمشُ تدريجيًّا ويصمت، ثم يتناول أوراقًا من حقيبته ويأخذ يراجعها، ومع وصولنا لتقاطع الإسعاف، يكون قد انغلق دوني كليًّا، فلا يجيب على أسئلتي ولا يعترف بوجودي، ويتحوّل إلى ربِّ عملٍ مهيب، أيّ إلى شخصيّة كرهتها وخشيتها، لإنَّه كان يبدو فيها مثل نسخةٍ أضخم وأقل آدميّة عن الرجل الذي يُشرف على حياتي.. وظلّت صور أبي في انغلاقه وصمته تراودني سنوات". ص 48-52.

بمثل هذه الصراحة والجرأة، يرسم إدوارد سعيد صورةَ والده، فماذا قال عن والدته؟: "ما أن عدتُ إلى القاهرة حتى تحوّل مسار حياتي، شجّعتني أمّي على الاعتقاد أنَّ المرحلة الأوفر سعادة من حياتنا قد ولّت، وظلّت تقولُ لي " أنت شاطر جدًّا.. لكنّك بلا شخصيّة وكسول وشيطان". ص 53.  "وظلَّ والداي يتناوبان على تحذيري دائمًا من الاقتراب من الناس في الباص أو الحافلة.. وقد صوّرا لي أن بيتنا والعائلة هما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا". ص54.

كان لسعيد شأنٌ آخر في المدرسة التي طُرد منها وهو في عمر الثامنة، على يد إحدى المعلّمات، فلم يكن هناك معلمون ذكور في المدرسة، تلك المعلمة لم تكن تلجأ للعقاب الجسديّ وتركتني خارج الباب، واستدعت "مسز بولين" التي جرّت الطفل جرًا وأوصلته ل"مستر بولين"، الإنجليزي الضخم مُحمرّ الوجه الذي ما زالت خيزارنته القصيرة في ذاكرتي تهوي بضرباتها على... مرات ثلاث، وصفيرها يشق الهواء..، وموقف الأب السلبي من هذه الحادثة عندما قال " أترى كم أنت شيطان، متى تتعلم؟ ولمَ يبدر في نبرة صوته أو صوت أمي أي اعتراض على بذاءة العقوبة نفسها". ص 69/70.

هل مجمل هذه الإرهاصات في طفولة إدوارد سعيد هي التي كوّنت شخصيته الخجلة الحسّاسة، وميله للعزلة، وضبابية علاقته بالآخر، أم أنَّ كثرة الترحال وعدم استقرار العائلة في مكان، وتمزّقه بين لغتين وهُويتين وثقافتين، كان له دورٌ في تشكيل شخصيته المنطوية القلقة؟.

هل يمكننا القول إنَّ إدوارد سعيد يتعزّى بالتأليف بغير لغته الأم، وعاش مكتويًّا بصراعات " اللغة والمكان والدين"؟.

هل نراه محقًّا في مقارنته لنفسه وهو المبدع، الباحث، والأكاديمي، عندما يقارن نفسه ب "جوزيف كونراد" الذي كتب هو الآخر بغير لغته، وأبدع فيها، وقد غادر وطنه وهو في السابعة عشرة إلى فرنسا؟.

إلى أيِّ حدٍّ حاول كاتب سيرة "خارج المكان " أن يجسّر المسافة زمانًا ومكانًا، بين حياته بين الأمس واليوم، وكان وفيًّا لتجربته وأحاسيسه وذكرياته التي انطبعت على شغاف قلبه، وسطّرها عقله، حتى لو كانت مخالفة لرأي البعض ممن تناولهم في هذه السيرة، ونجح في التخلّص من ملامح شخصيته السلبيّة، والخروج على مرض حرجه من اسمه المركّب الذي سبّب له إرباكًا أمام الآخرين، وكان أول ورطة يواجهها في مجتمعه.

فإذا عرفنا أنَّ والده ووالدته لم يفتحا قلبيهما له، ولا يعرف عنهما الكثير، أدركنا عمق الهوّة التي وجد "إدوارد سعيد " فيها نفسه، وظلّ صريع السؤال الملُّح: من أنت؟، سعيد اسم عربي وأنت أمريكي.  ص 28.

يُقدّم صاحب السيرة ذاته بلا رتوش، جريئًا في كشف أسراره وخفايا أسرته، بموضوعيّة، خجول في طفولته، مفرط الحساسيّة، تعرض لكثير من انتقاد والديه، عانى من ضعف ثقته بنفسه، وعدم قدرته على التكيّف مع مجتمع البيت والمدرسة، تنازعته طريقتان في التربية؛ منهج الأم وأسلوب الأب، تائه على طريق تحديد هُويته بين المكوّن العربي والأمريكيّ، يتنازعه قلقُ العيش في وسط مسلم وهو المسيحيّ.

لم يلتزم كاتب السيرة الخط المتنامي في كتابته؛ بل قفز وهو يحكي عن طفولته للمستقبل، وعندما تحدّث لاحقًا عن شبابه ونضجه، عاد للحديث عن طفولته.

أرّخ للأحداث السياسيّة كما عاصرها في مصر ولبنان، وظلَّ يتوجّس السلطة وتحمّل مسؤولياتها، ويتهرب منها، أمضى حياته بين القدس والقاهرة والأسكندرية ولبنان وأمريكا، صوّر لنا العالم برؤيته، وبعدسة وعيه، وأضاء الحقبة الناصريّة، وسجّل أحوال القاهرة بدقة في أربعينيات القرن العشرين، بعد أن استقر فيها الأرمن والإنجليز والشوام واليهود، وعانى من نظرة العرب له كعربيٍّ يحمل الجنسيّة الأمريكيّة، ونظرة الإنجليز له وهو يحمل جنسيّة مغايرة.

عاش حيرة كونه الفلسطينيّ الذي لا يعيش في فلسطين، والأمريكي  الذي لم يولد بأمريكا، والعربي الذي يعيش في مصر، ويتعلّم فيها اللغة الإنجليزية: أنا من هناك، أنا من هنا، لست هناك ولست هنا.

 فصّل تكوين المجتمعات الأجنبيّة، المدارس، في البلاد العربيّة، منتقدًا المدارس البريطانيّة والأمريكيّة الخاصّة، وكيف تفرض مناهجها وقيم مجتمعاتها على طلبة المجتمع العربيّ، في عقر داره، وما يسبّبه ذلك من إرباكٍ لُغويٍ للطلبة، في مراحلهم الدراسيّة الدنيا والمتوسطة، وضياعهم بين اللغتين؛ الإنجليزيّة والعربيّة، وظلَّ يعبّر عن عدم رضاه لوجود المدارس الخاصّة في بلاد العرب. 

قدّم في مذكراته التي وقف فيها على فترتي الطفولة والشباب تأريخًا لحيوات الجاليات في مصر قبل ثورة 1952.

الملفت هنا أنَّ ذكريات الكاتب عن فلسطين عادية، والمكان باهت، وطفولته فيها من المعاناة الكثير، وظلَّ المكان بالنسبة له محصورًا بحيّز المدرسة والكنيسة، والنادي والحديقة، تلك التي تختصر عالم  "إدوارد" كله حتى بلغ سنوات مراهقته المتأخرة. ص 48.

أمام جلّ هذه التشبيكات العاطفيّة، التي تعرّضت لها طفولة "إدوارد سعيد"، هل نجد جوابًا لرفضه للوظيفة السياسيّة والسلطة التي كانت في متناول يده، وابتعد عنها ورفضها جميعًا، وهو المفكّر والسياسيّ والباحثُ والناقدُ الذي يمتلك أدوات ذلك جميعًا؟.