حبيب الزيودي.. عَزْفُ الشاعرِ على ناي الحضور!!

*مفلح العدوان
سارد وكاتب مسرحي/ رئيس مختبر السرديات الأردني.
أطرقُ بابَ الذاكرة، فأسمع وجيب القلب..
تهلّ خيالاتُ وجهه الغائب بعد عشر سنوات على رحيله، فيتجلّى أمام عينيّ شاعرًا مكتمل الحضور، كأنَّه يعلن ميلاد قصيدة طازجة كتبها الآن، وَوَقّعها باسمه: حبيب الزيودي.
أنصتُ لبحة صوته، وأتابعُ حركة يديه في تماهيه مع إيقاع حديثه، ها هو ما زال على سمرته بملامحه التي كتب فيها (الشيخ يحلم بالمطر)، في الثمانينيات من القرن الماضي، وكأنَّ السرو في الجامعة الأردنية يعرفُ أنَّ له نصيبًا في كثيرٍ من قصائده التي كتبها على مرأى من أعين الشجر والبشر والحجر هناك، ومن تلك الدروب التي عرفته فيها، والتي حضنته معها قبابُ بوابة الجامعة التي شهدت له، وعليه، قصصًا وحكايات وقصائد دوّت على منابر كلية الآداب، وتناقلها الطلبة والأساتذة في ذلك الوقت.
***
ها أنا في مساحة التذكار هذه أستحضرُ روحَ حبيب الزيودي ومقامه، تلك الروحُ التي ما زالت منقوشةً وراسخةً في الأمكنة التي التقيته فيها، وما غاب عنها، كأنَّه الحارسُ لها، المالكُ لمفاتيح أسرارها، فيأتي صوتُه مهيبًا رغم غيابه جسدًا، غير أنَّ هالةَ حلوله تتجلّى، كأنَّه ما زال يحمل ناي الراعي، وريشةَ المبدع، ونبضَ الرائد الذي لم يكذب أهله أبدًا.
***
هو ذا حبيب الزيودي، أراه جالسًا تحت سنديانة في العالوك، يحفر شعره على الأغصان والورق قصائدَ، مُرحبًا بالآتين إليه، أن "يا هلا، ويا مرحبا، باللي زارونا اليوم"، ثم يضيف بوحًا من شفيف القلب، معتزّاً: "اليوم لي لغتي وترعى في مفاليها رئامي، واليوم لي باعي وإيقاعي يفيض على كلامي، واليوم لي قمحي وحوراني وعماني وشامي، واليوم لي وشمي وباديتي وقطعاني أمامي".
يا لزين ذاك اليوم حين آنستُ بوحًا يناديني في العالوك!!، فرتّب لي تلك الزيارة حبيب الحبيب، وعلى عادته، هيّأ لي كلَّ ذخيرة قدومي إلى قريته، ولكنّه لم يحضر، غير أنَّ العالوك كانت تنتظرني بفيضٍ من نبضه المحب، وقد كان منشغلًا في جريدة الرأي، لكنّه كان يديرُ دفّة زيارتي من هناك، وهاتفه لا يتوقف وهو يطمئن على حَجّي إلى مرابع طفولته، ومرتع أحلام شبابه، فيستوقفني، وهو على الهاتف ما زال، بمقاطع من قصيدته تقربًا للعالوك، وأنا أقرأ تفاصيلها بِوَحيٍّ من شعره:
"العالوك؛ قطّرتها في كتابي خمرةً مُزجت بريشتي وتعاويذي وأنفاسي، ما ذقتها، فأنا الساقي أطوف بها في حانة العشق نشوانا على الناسِ، جرارها الراعيات السمر فالية على الروابي بقطعانٍ وأجراسِ".
كان حاضرًا وأنا أتجوّل في قريته، يُوَجِّهني نحو كل أمكنتها، ويكشف لي دفاتر النفوس فيها، وأحوال الأهل الذين واطنوها، وما فارقوها، بل صار المكان مهوى أفئدتهم، وفؤاده، الذي أنهى معي الزيارة، كما بدأتها، بما تبقى من قصيدته، كأنَّه يودعني: "غدًا تجف دواليها ويضجرها أنَّ الندامى إذا جفت ستهجرها لذا تركت لهم خمرًا بقرطاسي".
***
ولكن العالوك، كانت عنوانه الأهم في الحياة وفي الشعر، وبقيت حين توفّاه الله قبل عشر سنوات، عنوانه أيضًا حين نُصب بيت عزائه فيها، كأنَّه كان يكتب العالوك مُوَثّقا فيها بداية حياته ومنتهاها!!
يا الله!! لماذا نكتبُ عن الأمكنة التي نحبّها بحميمية أكثر حين يكون حضور الغياب، وهواجس الرحيل؟
فيا حبيب.. تفتقدك عمان، وكلُّ أمكنة الأردن، والقصيدةُ تَحِنّ إليك، وأنت فارسها، غير أن شهقة ابنتي "بترا" التي كان عمرها حين غادرت روحك إلى سمائها الشفيفة، ستة أعوام، آنذاك، حين فاجأتها، بأن قلت لها إنّك رحلت، ما زلت أذكر حتى الآن شهقتها، ودمعتها عليك تعتصر قلبي، هي التي وقفت أمام زملائها الطلاب، قبل أشهر من وفاتك في عام 2012م، ذات صباحٍ مدرسيٍّ، منشدةً لهم في الإذاعة المدرسيّة قصيدتك في عمان:
"صباح الخير يا عمان يا حِنّا على حِنّا..
يا فوح الخزامى والندى، يا ريحة الجنه
ويا دار بناها العز لا هانت ولا هِنّا
أهلها جبال فوق جبال بيها المجد يتغنّى
وإذا تتبدل الأيام حِنّا ما تبدلنا
صباح الخير يا عمان يا حِنّا على حِنّا"
وما زالت بترا تستذكرك، ومعها كل بنات وأبناء الأردن، كأنّها تبكيك، أو تستحضرك، أو توميء لك بالمحبة.
حبيب.. ترى كيف ستحضر الآن؟ وقد وعدتها بأن تلتقيك، وتكتب لها قصيدة عنها، عن "بترا"، و"البترا"...
***
يا حبيب.. أنت الذي تغنيت بكلِّ تلك القرى، تغنيت بالأهل، بالقيم، بالشيم الأصيلة، بالوطن، بدروب الجامعة الأردنية، بأشجار السرو، بالخيل، وبالفرسان، تلمست نخوة الأرض، وتفيأت شجن الكرمة، وتتبعت بحّة الأشجان.
أتذكرك الآن، بعد عشرٍ على رحيلك، وأتذكر حالي حين زرتُ مرةً، قرية "ذات راس" في الكرك، و"ذات راس" تعني لك أنَّ صديقك حمدان هناك.
كان قبرُه ينبض بكثيرٍ من القصص والحكايات والأحداث والمواقف، وكانت قصيدتك التي قلتها فيه حين استُشهد، تحضر، كأنَّها ما زالت بكرًا، وما زال ألقها يردّده الأهل وكلُّ من عرفك وعرفه، كل من قرأك وتتبع سيرته، فقد كان صديقك، ورفيقك.
وكان أن اختلفت بكما الدروب، فسرت وحيدًا بعد أن مضى، غير أنَّك حين تعود، وتتكئ على مرافئ ذاكرتك، كنت تستلُّ قصيدتك في حمدان، وتطلق صوتك للريح إذ توقظها.
ها أنت حتى بعد سنوات الغياب تلك، وبعد شجن القصيدة الأولى لحمدان، ها أنت قبل أشهر من رحيلك، تستذكرُ حمدان، في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيله، بقصيدةٍ تحملُ اسم "حمدان"، كأنَّه تنبيهٌ أنّك قادمٌ إليه، فسلامٌ عليك وعليه:
"حمدانُ دبَّ الحيا في العود فابتسمت/ بعد المحول، دموع العارض الهطل.
وهشّت الأرض بالأشجارِ حانيةً/ تثغو عليها ثغاء الشاة للحملِ.
وفضّها بارقٌ في الليل فارتعشت/ مع الضحى بشميم العشب والنفلِ.
أزورُ قبرَك كي أبكي على زهر/ وكنت آتيه كي أبكي على طللِ.
في طيّةٍ أنت من طيّاتها وغشى/ ثراك ما جاد صاديها من البلل.
أراك في سهل حوران إذا انعقدت/ براجم القمح مع آذار في السبل.
وحنّ في سهلها الدحنون واستندت/ في السنديان أغانينا على الجبل.
دار الربيعُ على آذار يصهبه/ ففاض فيه الغوى كالشارب الثمل.
ومدّ راحته الدحنونُ يشرب من/ حمر الخدود وسحر الأعين النجلِ.
فلو مشت عاقر في السفح تخصبها/ إن هفهف القمح فيها نظرة الرجلِ.
فحبذا نافخ اليرغول ينفخه/ لظبيةٍ خطرت تمشي على مهلِ.
والواردات على العالوك رهوجة/ يمزجن غيّ القطا مع خفّة الحجلِ.
مررت في "ذات راس" اليوم يسبقني/ "رغّ" الهزار، و"زغّ" البلبل الوجل".
***
هو الشاعرُ الذي كانت قصيدته تتحركُ في فضاءات قلق حياته، تلك الفضاءات المجبولة من علاقة الإنسان بالمكان، وما يتفرع عن هذه العلاقة من شجون وإنسانيّة وخصوصيّة ثقافيّة، لكنَّ هذا القلقَ وهذه العلاقة ولّدتا لدى حبيب الزيودي الغنى في تنوّع التجربة، فكان خارجًا من عبودية الشكل الواحد للقصيدة، ذاهبًا في تجربته وتجريبه إلى مجاهيل إيقاعيّة وشكليّة انعكست على منتجه الشعريّ، ومسارِ قصيدته.
إنَّه الشاعرُ الذي ولد في مواسم الحصاد، ليكون القمحُ أباه، وبطن السفح أمه، كما عبّر عن ذلك في واحدةٍ من قصائده، وكان الشعرُ مبتدأه ومنتهاه، أجزل فيه عطاءً، وكانت حياته، مثل شعره، قلقًا حينًا واحتفاءً بالحياة أحيانًا أخرى، شجنًا أو بهجة، فكلّها تدلّ عليه، كأنَّ في القصيدة خلاصه، كأنَّ فيها اكتماله، حبيب الذي قال: "ما كانت الأيام عاقلة لأنشأ عاقلًا؛ الشعر لمّا غاب ظلّ أبي.. أبي. ولم يكن بيديّ شيء أشتري وأبيع به، في هذه الحياة، ولكنّي ربحتها لما اشتريتُ الضلالة بالرشد".
***
في الذكرى العاشرة لرحيل حبيب الزيودي، تُرى على أيِّ جنبٍ تتكئ تلك الربابة التي استلهمها شعرًا، وكانت مع ناي الراعي، استحضارًا ذكيًّا منه للبيئة الأردنية بتوظيف حداثي مجدّد!!. وهو الشاعرُ الذي لم تذبل وردةُ شعره ولا ناسَ وهجُ قصيدته، رغم غيابه، فقد ترك إرثًا من الشعر لا ينضب، وكنزًا من القصائد لا تفنى، حتى وإن مات مبدعها.
وحبيب الزيودي صاحب الذائقة الموسيقيّة العالية الرفيعة المستوى، كأنَّه ينشد الشعر ولا ينظمه فقط، تتقمصه روح الملحن والموسيقار، فتبعث من مكنونات نفسه تلك الموسيقى التي حيك نسيجها من خلال تكوينه وبيئته، فقد امتلكها دون زيفٍ ولا ادّعاء، بل جاءت على الفطرة من رحم سفر تشكّله الأول، من فضاءات العالوك، من سرو الجامعة الأردنيّة، ودروب عمان، وأغاني الرعاة، وزغاريد النشميات، ومن بيادر تنوعات البيئة من حوله، فكان إحساسه الصادق بتلك العلاقة الحميمية بين الشعر والأغنية، وكان أن أبدع قصائده التي تُعتبر ريادةً وسبقًا في الكتابة الجديدة للأغنية الأردنيّة، إذ استطاع من خلالها أن يصل إلى أكبر شريحة من الجمهور حين تلمّس دربه بوعيه وبشعره ليتفرّد بالأغنية التي كتبها، فجدّد فيها، ورفع من مستواها في كلماتها، وبيئتها، وموسيقاها، تلك الكلمات والقصائد التي ما زالت تصدحُ بها حناجرُ المغنين، والجماهير: "عمان يا حنّا على حنّا"، و"يا بيرقنا العالي"، و"هلا يا عين أبونا"، و"يا صاحب التاج"، و"أردنيين وما ننظام"، و"نغمة شوق يا عمان"، و"عمان يا صف نعنع مرتوي عالمي"، و"يا مهدبات الهدب غنن على وصفي"، وكثير غيرها.
لقد كان الشعرُ رفيق حبيب الزيودي في الحياة، كأنَّه يتلبسه في كلِّ مكانٍ يكون فيه؛ إنَّه يجلس معه في المقهى، ويتأمل برفقته الشوارعَ وصخبَها، ويتابع الأرصفةَ ومشاتها، إنَّ الشعر حاضر بينه وبين من يحب، بينه وبين رغيفه، بينه وبين فراشه، إنَّه حبيب حبيب الذي يعيش الشعر ولا ينظمه فقط، لذا فقد طوّع اللهجة الشعبيّة لتكون أحدَ أقانيم قصيدته، فاندمجت مع الفصحى بسلاسة وتلقائيّة، وفي هذا عبقريةُ شاعرٍ حقيقيٍّ لمّاح.
***
يا حبيب.. بعد عشرٍ أرهقتنا، وما ارتحنا فيها، ولا حلّ مكانك شاعر يليق بمقامك.. كأنَّك كنت تستشعر الآتي من الأيام فآثرت الرحيل، ابتعدت، بحثًا عن فضاءات أخرى حين ضاق عليك المكان، واستأت من فعل الزمان.
ابتعدت.. وأنت مقتنعٌ بأنّه ليس موتًا هذا الذي تسبح فيه، بل هو تهيئة لحالة وعيٍّ أخرى، لعالم آخر، نحن أبناء القرى، والبوادي، نحتاجُ له، ربما، وقد نحتاجُ لأكثر من موتٍ وحياة، لنكتب كلَّ ما يجول في دواخلنا من نبضٍ نريد أن نرسمَ فيه العالم حولنا، كما نريد.
يا حبيب، قبل أن أختمَ هذا المقال في مقامك، قل لي ما الذي جعلك تكون عمانيًّا بكل وجدانك، تحبُّ هذه المدينة، كما روحك، ومع كل هذا لا تنبضُ شوقًا لها، إلا وتقرنها بقرى أخرى، كقريتك العالوك؟ أنا أعرفُ الجواب، ولن أشي به، وقد نحتاج إلى أكثر من موتٍ وحياة لنقول كل ما في دواخلنا، بأنّا نحبُّ أرضنا، ونحبُّ من حولنا، وما فوقنا، ونحب أحبابنا، ونشفق على الحاقدين علينا، ونحدب على من هو معنا، ونستذكر من يحنُّ علينا، نحن يا حبيب، نُحبُّ ونعشق، نُحبُّ ونخلص، نُحبُّ ونُعطي، نُحبُّ ونشفق، نُحبُّ ونغفر، نحن يا حبيب مخلوقون لنحبّ، ونحبّ، ونحبّ، ولا مكان في قلوبنا لغير الحب، لا مكان في أفئدتنا لحقدٍ ولا لضغينة، تلك كانت قصائدك ورسائلك، وما زالت تنبضُ كأنَّك كتبتها الآن، "حِنّا على حِنّا"!
***