ناي العالوك

 د. محمد واصف
أكاديمي وباحث في الموسيقى
لم أدرك قيمة تلك الأجواء التي عشتُها مع حبيب الزيودي، إلاّ بعد مغادرته مسرعًا ومن دون سابق إنذار. عندها عرفت الوجه الآخر لواقع الحياة، وعرفتُ أيَّ فتى أضاع الأردن والأردنيون. فحبيب من معالم حياتنا الثقافيّة (الشعريّة والموسيقيّة)، فقدنا برحيله دعامةً من أرسخ دعائم الشعر الأردنيّ الأصيل، ولكنَّه بالنسبة لجيلنا شيء أكثر من هذا، فهو من العلامات الفارقة على طريق فهمنا الصحيح لأنفسنا وتراثنا الفكريّ الأدبيّ العربيّ، وليس المحليّ فقط.
كان نعي حبيب الزيودي مفاجأة لأهله وأصدقائه، فقد شهدناه في الأيام الأخيرة وهو يشعُّ كالزمرد والياقوت، والآن؛ وبعد عشرة أعوام من رحيله، وبعد أن تحرّرت نفسه الوديعة الطيبة من الآلام التي حملتها قصائده الأخيرة، فإنَّ من حقّه علينا أن نقّيم فضله، ونذكّر الأجيال بقيمته في الثقافة والشعر.
حبيب الزيودي ليس صديقي وملهمي فحسب، وإنما كان، وسيبقى، من المعالم الثقافيّة والفنيّة المجنونة في حياتي على مدار مراحل الدراسة والنضج والتعمّق المتواضع في شؤون الحياة.. ودائمًا كانت تأسرني في شخصيته الأردنيّة البسيطة غير المعقدة، وموهبته المتدفقة، وثقافته الوجدانيّة، وحياته المضطربة التي اختلطت بعفويته وتلقائيته، وعواطفه المتأججة مع إبداعه في كلِّ ما كتب، شعراً ونثراً. طاقته الإبداعيّة الفذّة التي كانت سببًا في جمع كلِّ الأطياف حوله حتى يوم دفنه في ثرى العالوك، وكلما ازددتُ تأملًا وتعمّقًا في ثقافتنا وقضاياها وتياراتها وتفاعلاتها بين الشرق والغرب، تجلّت لي ملامح عبقرية هذا الفتى الأسمر ابن القرية، الذي حقّق ثورة وربيعًا في القصيدة الأردنيّة ستمتد آثارها مئات السنين.
وعلى المستوى الإنسانيّ، بعيدًا عن الشعر والثقافة، كانت تستهويني شخصيته بتناقضاتها العجيبة، فهو الذي أفرط على نفسه، ومع ذلك كانت أريحيته وكرمه من أبرز صفاته، فما أكثر ما كسب من مال، وما أكثر ما أنفق بسخاء. تقديري وحبي لحبيب وقربي منه في السنوات الأخيرة ليس نتيجةَ إعجابي بشخصيّة أردنية عربية فريدة، وليس مجرد تعلّق روحاني ببطل مصيري ارتبط بمرحلة معينة من العمر، إنَّما هو نتاجُ تأمّلٍ يوميٍّ ليومياته وحياته.. تأمُّل قريب متأن في الآثار القريبة والبعيدة التي تركها هذا الفتى في تاريخ الأردن وثقافته.
كانت شخصية حبيب مزيجًا عجيبًا من الشاعر والأديب والسياسيّ، فمارس السياسة بحسّ الشاعر المُرهف المُحب ومثاليته وشغبه، ومارس الأدب والشعر بحسّ السياسيّ. ومارس الحياة بطفولته وضجيجه الخاص الجميل، لكن بالمحافظة على دقة الملاحظة وروح الشاعر الإنسان الذي عشق الناس الذين تعامل معهم بإحساسه وشفافيته وبساطته قبل أن يفرد عليهم عضلات شعره، فكان ذا روحٍ مرحة، ونكتة لاذعة، ورؤية عميقة متميزة للحياة.
كان حبيب إذا ما حضر مجالس المسؤولين أو الشعراء أو الأدباء أو الموسيقيين، جذب إليه الجميع، ولم يبق في المجلس أحدٌ إلاّ واستمع إليه، كبيرًا كان أم صغيرًا.
أمَّا عن أجواء حبيب الزيودي في الكتابة وبالتحديد لحظة الإلهام: دائمًا تجده إذا ما توقّف عن الكلام شارد الخيال سارحًا في عينيك يتأملك بطريقة غرائبية يدخل فيها بين جوانحك ويتقمصك تقمّصًا تامًا، فكنتُ أحدثه وأنا أعلم أنّه ليس معي في تلك اللحظة، لأنَّ هناك بيتًا من الشعر يجول في خاطره؛ فأضحك تارةً وأغضب أخرى.
تحدّثت مرارًا مع حبيب حول موضوع أنَّ غالبية أغانيه كُتبت بالعاميّة، مع أنّ بدايته مع الأغنية كانت باللغة الفصيحة بـ (صاحب التاج). وكان كلّما سألته تظلُّ إجابته تتراوح مكانها حول عجز الفصيحة عن التفاعل مع الحياة اليومية لعامة الناس، وأنَّ العامية أقرب إلى اللهجات الكثيرة الموجودة في الأردن القريبة إلى السورية والعراقية والفلسطينيّة، وهكذا. وهنا تعجز الفصيحة أيضًا عن التفاعل مع التغير الناجم عن تبدّل العادات والآداب واللهجات بسبب التغيّرات التي حدثت وتحدث في المنطقة مثل الاحتلال الأجنبيّ.
وكان يتحدّثُ كثيرًا عن أنَّ العامية الأردنيّة تختلف عن أيِّ عاميّةٍ عربيّة محليّة أخرى؛ بسبب أنّها انحدرت من صلب لهجات عربية قديمة متباينة كالتي جاءت من الغساسنة قبل الإسلام، وأنَّ اللجهات تطوّرت في البيئة الأردنيّة، وهنا كنت ألتقي معه في الحديث والفكر، فنتيجة لما تحدّث به حبيب نجد أيضًا أنَّ الأصوات وطبيعتها وكيفية نطقها قد اختلفت، مما جعلها تتميّز بصفاتٍ صوتيّة خاصة، لذلك نجد في أغاني حبيب الزيودي التي كُتبت بالعامية خاصيّةً ترجع إلى بيئة الكلمة ودلالتها، بحيث لا تجعل هذه الأغاني واللهجة التي كُتبت بها غريبة على أخواتها، بعيدة عنها، عسيرة الفهم على أبناء اللهجات الأخرى.
والمتتبع لأغاني حبيب الزيودي يجد أنّ حبيب قد كتب بالعامية (لغة القرية) التي ما زالت تتمتع بمميزاتها العربية القديمة بعيدة عن كل المؤثرات. وباللغة الحضرية أو المدنية التي استقبلت المؤثرات والتي هي خليط من لهجات مجاورة إلى جانب الفصيحة. وكان يتعمّد الابتعاد عن العامية( لغة البادية).
ولأجل كلِّ هذا، أعيا حبيب كلَّ من حاول تقليد طريقته في كتابة الأغنية الأردنيّة، فصار بعضهم يقتات على فتات موائده، وصار كل نتاجهم تقليدًا مصطنعًا لأصل لا يُقلد.
كان حبيب الزيودي موسيقيًّا مهمًّا وصُنعته في ذلك عجيبة ونادرة، فتراه وهو يدندن أشعاره أو يشكل قصائده يتقن الإيقاع على الأرض برجله ويضبطه، وكنتُ أشعر أنَّه يمّر بأصابعه، المتفرقة المرفوعة إلى الأعلى القريبة من وجهه، على ناي ينفخ فيه، فيُخرج أنغامًا شجيّة تبعث على الدهشة.
"حبيب" كان نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ أغنيتنا الأردنيّة، واتّجه بها نحو التعبير مستعينًا في ذلك بالتعابير البسيطة التي أخرجها من الأرض، توحي بجوّ الريف والبادية، وتحاكي الحياة اليومية، تتغنى بالوطن، ومستعينًا أيضًا بعناصر الموسيقى الشعبية البسيطة من جانب، وعناصر أوليّة (هدته إليها سليقته).
ولمّا كان الرومان واليونان يقولون " غنّى شعرًا" وليس "نظم شعرًا"، والعرب يقولون " أنشد شعراً" أي غنّاه، وقضى اليونان أجيالًا لا يقولون الشعر إلا إنشادًا، حتى بعد الإسلام كان الشعراء ينشدون قصائدهم في حضرة الخلفاء، وإذا لم يكن لأحدهم صوتٌ جميلٌ اقتنى غلامًا جميلَ الصوت يُنشد أشعاره، أي أنّه كما يُقال: " الغناء هو ابن الشعر". ولو أنَّ العلاقة بينهما في مستوى ما، تُصبح علاقة جدلّية.
لكن عندما تقترب من قصائد الشاعر الأردنيّ حبيب الزيودي، تشعر أنَّ قصائده بنات أغانيه التي عاشت معه منذ طفولته، فينطبق عليه ما قال الرومان واليونان إنّه يغني شعره، لكن أغانيه ليست بنات شعره، بل العكس، فقصائده بنات أغانيه التي شكّلت ملامحها جبال وسهول العالوك، وإيقاع المهباش ودلة القهوة في مضافة والده التي طالما شممنا رائحة هيلها ورشفنا أصالتها في قصائده وأغانيه.
كما ذكرت سابقًا كتب حبيب أغانيه بالفصحى والعامية، ولا شكَّ أنَّ طابع الغناء العربي التقليديّ في " الوصلة الغنائيّة الطويلة" يختلف اختلافًا كبيرًا عن طابع الأغنية التي كُتبت بالعاميّة، فالغناء بالعاميّة قريب من الشعب وتفاصيل حياتهم اليومية، وهذا النوعُ من الغناء لا يمكن أن يعتمد على مجرد التطريب، ويكتفي بالحركات والحليات الغنائيّة، وهنا كانت لعبة حبيب الزيودي، فقد اتّجه بالأغنية الى البحث عن التعبير النفسي المباشر لمعنى الكلمات، ولجّو المواقف اليوميّة، وأصبح بعد فترة مطالبًا بالوفاء بالتزامات هذا التعبير النفسيّ.
حبيب شاعرٌ مهمٌ عندما يكتبُ الفصيحة، ولعلَّ ما وفّق فيه حبيب هو تجسيده الشعريّ الفذّ للوطن، فهو يراه دائمًا في أعين الأب والحبيبة والريفيّة والبدويّة، ويشعر بحنوه في بحّة ناي الراعي، ويستظّل بفيئه تحت سرو الجامعة الأردنية، حبيب الزيودي أضفى على الأغنية الأردنية بشكلٍ عام، والأغنية الوطنيّة بشكلٍ خاص، شحنةً تعبيريّةً هائلة بالنسبة لأهل هذا الوطن، وهي شحنةٌ نابعةٌ عن خيالٍ خصب، وحسٍّ مرهف بمعاني الكلمات ونبض إيقاعها على المسار اللحنيّ، ونابعة أولاً وقبل كل شيء عن تجاوب عميق مع الأحداث الوطنيّة والاجتماعيّة المحيطة به، حبيب أعادنا إلى أغاني توفيق النمري وعبده موسى وروّاد أغنيتنا، وبهذه القصائد والأغاني البسيطة التي لم تتجاوز المصطلحات والأوزان الدارجة استطاع حبيب أن يرتقي بالقصيدة المغناة درجاتٍ، وأن يفتحَ أمام المستمع الأردني أفقًا أعلى من مجرد إطارٍ شعريّ لألفاظ دارجة تدغدغ حواسَّ بعضهم، كما هي كثير من الأغاني والقصائد التي خرجت تقلّد قصائد حبيب، وخصوصًا القصائد والأغاني التي ادّعوا أنَّها للوطن، واعتقد بعضهم أنَّ دخولَ هذا الميدان سهلٌ ويسير، فاقتحمه من هو غريب عنه. ومن هو جاهل بدوره ومسالكه، ظنًّا منهم أنَّ مفهوم الأغنية الوطنيّة يبيح لهم الطقطقة والتكسير والقلع ورفع وتوطية الحيطان، ونسي هؤلاء أنَّ الوطن أسمى من هذه العبارات التي صُفّت وسُميّت " أغاني" ، وأنَّ الشعر له مكانته الخاصة في نفوس الناطقين بلغة الضاد، حتى أنَّه عندما تُكتب أغنيةٌ وطنيّةٌ بالفصيحة أو العامية لا بدَّ من توفّر طقوس معينة تُضفي على المكان جوًّا يعبق بالحسِّ الوطنيّ والشاعريّة التي تجعل المستمع يحلّق مع الخيال، ويستسلم لنشوةٍ لذيذة، ولا بدّ من التوضيح أنَّ الشعرَ الشعبيَّ، وخصوصًا الذي يُقدّم كأغنيةٍ من وإلى الشعب، ليس سهلَ النظم كما يعتقد بعضُ الناس، وأنَّ الشاعرَ هنا بحاجة إلى امتلاك أدوات هذا اللون ووسائله من الشعر، قبل أن يطرق أبوابه.
لأجل ذلك تمتدُّ تداعيات قصائد حبيب الزيودي في مجالاتٍ لم تُدر بخلده. وبأساليبَ خفيّةٍ تساير العصرَ القادم، وسيكون هذا دليلٌ على عبقريته وحيويّة موسيقى قصائده، وقدرتها على البقاء.