ناي الشّاعر حبيب الزيودي وصيوان المسرّة الشرقية.

 ناصر الريماوي
كاتب وباحث
غنائيّةُ الفقد التي أمطرت باكرًا على "العالوك" أوجعتني، كلّما مررتُ من هناك أعادني حزنُ الغياب إلى ذكرى "التشارين" البعيدة.
في الذكرى العاشرة لعودة الشاعر "حبيب الزيودي"، التي توافق رحيله المباغت، نحو أمِّه الأرض، شأنه شأن البقية من شعراء الأرض والحب، وممن حبتهم السماء بولع القوافي ورتق الوصايا العتيقة بالقصائد؛ "عرار"، "تيسير سبول"، "محمود درويش"، "نمر بن عدوان".. وغيرهم.
منذ اليوم الأول من شهر "تشرين"، وأنا أترقبُ ظهوره العفويّ، كل ليلة، مأخوذًا بفوح "الخزامى" حين يعبق فجأةً، مثلما اعتدت في كلِّ عام، كدلالة أكيدة على عودة الشّاعر.
هذه المرّة، رحتُ أغالبُ الظن، وأتبعُ الرعاة أيضًا، أصغي لعزف ناياتهم، علّها تقودني إليه قبل غيري، أو تدلني على مكان ظهوره المرتقب.
أسعى وحيدًا خلفهم كلَّ ليلة، من تخوم "الهاشميّة" وحتى أطلال "المسرة"، أتبع صمتهم وصياحهم عند المغيب وهم يجمعون شياههم، ويمرحون. أتربصُ بهم في كلِّ المراعي، وألحق "بشلايا" أغنامهم الهاجعة في الفلوات، وحظائر الخشب الفقيرة، المشرعة على فسح السماء.
حين يوغل الليلُ، كانت تدلّني عليهم نيرانُهم عند السفوح، وفوحُ أدخنة الخبز المسائيّ، وأصداء بعيدة تتردّد لناياتٍ عابرةٍ تجرح الريح وهدأة المدى .
هذه الليلة تحديدًا.. كان أولهم حزين وآخرهم حزين.
سألتهم عن برد الأهازيج في القصائد، ولوعة الغياب، ومما يحفظون من نقوش البوادي الخالدة، وصدحت به زمنًا في هذا الوقت التشريني المتقلب.
انبرى أحدُهم منشدًا، ثم تبعه الرعاة كلهم على امتداد الليل والأفق المترامي البعيد، أنشدوا بصوتٍ واحد أبياتًا من الشعر الرعوي الجميل للراحل "حبيب الزيودي"، بدا لي وكأنَّ أصواتهم صدى صوت الشّاعر، "حبيب"، وهو يعارك الليل ليستأثر وحده بالمدى:
"في ناي الراعي بيت
لفتاةٍ حين تمرُّ به تبطئُ في السير
وتكسرُ إبريقَ الماءِ
وحين تعودُ إلى المنزل
تلتهمُ المرآة في الناي،
أصابعُ ظامئةٌ للحبْ
ما مرّت في بال الراعي امرأةٌ
إلا فكَّ بها أسرارَ الثوبْ".
ثم سكت الجميعُ وظلّت تردّد الوديانُ على امتدادها صدى القصائد، حتى بعد أن عاد كلُّ واحدٍ منهم، إلى مكانه، وخبزه المسائي حول موقد الحطب، في انتظارٍ وترقبٍ للشاعر المنتظر.
واصلتُ طريقي نحو "المسرة".. استوقفتني هالة شحيحة وشاحبة لفانوس يذوي أمامَ بيتِ شَعرٍ بدويٍّ مهجور، "هجيني" وربابة راحت تجرُّ وديانًا سحيقة من وجع خريفيّ نحو عتمة الدرب الواصلة بين مفترق الرعاة وبلدة "العالوك"، ربابة بدت وكأنّها تستعطف الغيم.
غافلني ظلٌّ كثيفٌ لرجل يعالج "شبابة" من القصب، لم يلتفت نحوي، وهو ينشد بولعٍ صوفيٍّ متعبد:
" في ناي الراعي بوحٌ وكلامْ
وشرودٌ يوقظه منه نباحُ الكلب على الأغنامْ
في ناي الراعي كلُّ الدنيا إلا ناي الراعي".
حاولتُ أن أتبينَ حقيقةَ العازف ولم أفلح، ربما كان آخرَ الرعاة، وأنَّ لحظة اللقاء قد حانت، حتى قبل وصولي لمنازل "الرّبْع" البعيدة.
ما رأيتُه الليلة وتناهى إلى سمعي، كان يؤكّد لي أنَّ للشاعر الزيودي كرامات، وهو الذي يصطفي مفرداته الشعرية من رجوم الفيافي وطين الأرض، ليشيّد بيتًا في قصيدة، وبأنَّه محض شاعر مبدع ومحظوظ.
فهذا ما حدا بالشاعر "الزيودي".. ليغدو حقيقيًّا بما يكفي، وهو يرتقي بروحٍ جماليّةٍ عالية، متفردة، ليحظى بشعبيّة طاغية كتلك.
مفرداتٌ بسيطةٌ، متداولةٌ، لكنّها غنيّة بوقعها ومدلولها، يلتقطها ليمنح مضمونها الخاوي المعاني الجديدة، الفكريّة والوجدانيّة، لتخلف وراءها أثرًا تراثيًّا عميقًا داخل الفرد، في استحواذ محبب للقلوب والعقول والمشاعر.
****
لمْ أعد أستدل على الرعاة.. ربما خمدت نيراهم في التلال.
كنتُ حينها قد تجاوزتُ بلدة "بيرين" في الطريق إلى بلدة"العالوك". سلكتُ دروبًا شجريًّة معتمة، وضيقة، كانت وعورتها تتسلق الهضاب، لكن في صعودٍ تدريجيٍّ، معتدل.
وسط الأحراش المطلة، واستواء نسبي، استوقفتني هالاتٌ عديدة، متفرقة، لبيوت بدت وكأنَّها خلت من أهلها للتو، بيوت حجرية بلا أسيجة، وأخرى خيام واسعة بأوتاد مختلفة، متباينة في أعدادها وأحجامها.
مصابيحُ معلقةٌ، تذوي فوق أوتاد ومصاطب أعدها أصحابها للسهر المسائيّ، لكنّها لم تنطفئ، وظلّت تبعث ببعض نورها الباهت في قلب الطريق. على بعد مسافة قصيرة، رائحة قهوة تصطلي على "محماس" في مضافة جانبيّة، رحل عنها ضيوفُها وأصحابُها فجأةً. على مقربة من ذلك البيت وتحت كرمة عامرة، كان هناك عجين مختمر وخبز "شراك" يصطلي على التنور، ربما تركته امرأةٌ بدويّةٌ واشمة، كانت على وشك الخبيز، وفرّت لسبب ما، غير معروف.
رائحة "الخزامى" تهبُّ أخيرًا، ناصعة وذائبة في الأثير، كان مصدرها الجبال وأوابد "البلقاء" المجاورة.
تلاها وهجٌ بعيد لبركانٍ ضوئيٍّ هائل بدا وكأنّه ينبثق من مروج، منبسطة، تمتد كراحة اليد، ثم يندفع مشتعلًا نحو السماء دون فتيل.
علا صوتٌ دافئ لفتاة لم أتبينها راحت تنشد خلف سلسلة حجريّة مائلة، تسيّج بيتًا ريفيًّا معتمًا:
" صباح الخيرْ يَا عمان
يَا حِنّه على حِنّه
يَا فوح الخُزامى والندى..
ويَا ريحة الجنّه
ويا دار بناها العزّ..
لا هانتْ ولا هنّا
أهلْها جبال فوق جبال ..
بيها المجد يتغنّى
وإنْ تتْبدّل الأيام ..
حنّا ما تبدّلنا "
استرقتُ النظر، فلم أجد أحدًا، ولا حتى الفتاة، كان وحده النشيدُ الذي يتردّد في المكان، وصوت الفتاة التي علقته كقصيدة على حبال الريح، قبل أن تفرّ كغيرها.
تملكتني حيرةٌ مفاجئة، أخذت تتصاعدُ مع الوقت.
لحظات قليلة، مرّت، قبل أن تجلب الرياحُ إلى سمعي همهماتٍ كونيّةً غريبة، اختلطت بحفيف أوراق الشجر، قبل أن تتحوّل إلى حواراتٍ وأحاديثَ متقطعة، وغامضة، بين أناس لا أراهم.
تلك اللحظة، وصلتُ إلى تلة مشرفة تطل على الطريق الأسفلتيّ الواصل بين "الزرقاء" وبلدة "العالوك" العامرة. من بين أشجار البطم والبلوط رأيتُ مشهدًا لا يُصدّق، وفود كثيرة تتدافع عبر الطريق المعبد، جماعات وأفراد من كل حدب وصوب يهبطون التلال الحرجيّة ليلحقوا بالركب.
مرّ بي ثلاثة رجال وفتاة تشدو بقصيدة للشاعر "حبيب" من دون صوتها الذي نسيته معلقًا ومررتُ به قبل قليل. أدركتُ في تلك اللحظة بأنّني كنتُ مثلهم، وكان عليّ أن أواصل.
لكنّني تجرّأتُ وسألتُ أحدَهم: إلى أين؟
التفت نحوي ومد ذراعه بالسراج، حتى تبيّن وجهي، فقال: إلى صيوان "المسرّة الشرقية".. حيث الشّاعر "الحبيب". وأشار بعيدًا نحو فوهة الضوء البركانيّة المنبعثة من بين الطلول والهضاب.
بعيد ساعات قليلة، وفي ثلث الليل الأخير، كنّا أمام لافتة كبيرة، كُتب عليها:
"غابة الشّاعر الكبير، شاعر الوطن، حبيب الزيود".
تحوّلت هذه الغابة بأكملها إلى صيوان كبير، وضخم، وراحت تستقبل الوفود.
كان ولدا الشاعر "الزيودي".. "محمد" و"بشير"، في استقبال الجميع. وكانت بين يديهما الدلالُ ورائحةُ القهوة، ومن ورائهم عباءة مقصّبة، معلقة، توسطت بعض الشعراء الكبار، من أسلاف الشاعر الراحل، وممن أفسح الناس لهم صدورهم وصدر المجلس في صيوان "المسرّة".
عرفت منهم، "الشّاعر حسن الزيود" ولقبه "زناد البلقاء"، "محمد ابن غدير الخلايلة"، "علي إبراهيم الخوالدة"، "عيد أبو جابر الزيود" و «خلف ناصر المعلا".
في منتصف الحلقة، كان هناك حجر أساس ناصع البياض، وكان على انتظاره يخطف الأبصار، أيضًا، ولافتة تشير إلى ((مشروع دارة السنديان الثقافي)) وكان الجميع بانتظار أحد ما ليدشنه.
أعاد إلى ذهني ذلك الحجرُ، بعضًا من وصايا الشّاعر "حبيب"، وصور عتيقة "لبيت الشِعر" في عمّان.
وكان على ولديه أن يكونا خيرَ دليلٍ حيٍّ لأولئك السلف، وهما يجسدان قصائد الشاعر بين الوفود، كانا نشيدًا حيًّا بين الناس، وكنتُ أقرأُ فيهما ما قاله الشّاعرُ ذات يومٍ:
"أبي في المضافة
والقهوة البكر مع طلعة الفجر عابقة بالمحبّةِ
وهي على طرف النار تغلي
وصوت أبي الرحب يملأ قلبي طمأنينة
وهو يضرع لله حين يصلّي.
***
وعاد أبي وهو يفرش قريتنا هيبةً
وإخوته من حواليه سرب صقور
وجوه إذا عتّم العمر طلّوا على عتمة العمر مثل البدور
منازلهم عند سفح الكلام مشرّعة للندى والضيوف
وقوفاً بها يا خليليّ إنّي توجتها فأطيلا الوقوف
وقد عمروا بالمحبة جدرانها
وأضاءوا مداخلها العاليات وعلّوا السقوف".