قراءةٌ في ديوان علي مي "نهار الغزالة".

محمد المشايخ
كاتب وناقد أردني
ينشئ الشاعرُ "علي مي" في ديوانه "نهار الغزالة" مدينته الشعريّة الفاضلة، التي تجمع بين الفكر والفلسفة والتصوّف والفن، وبين اللغة وموسيقاها وإيقاعها ومعانيها ودلالاتها وبلاغتها ونحوها وصرفها، منطلقًا من هدفٍ سام، يتجاوز نيل جائزة الشارقة للإبداع العربيّ التي فاز بها عن جدارة، لينجز أجمل الشعر وأعذبه، وأكثره التزامًا بهموم أمته، وكأنّي به يضع لنفسه شعارًا وهو يكتب، قول المتنبي:
- "إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ.. فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ".
فكان شعرُه العمودي، ابنَ العصر، وابنَ الحداثة، وابنَ الخيال المحلق المُجنـّـح. كيف لا؟، وهو يجيد الهبوط من برج الشعر العاجي إلى الأرض بمظلاتٍ بلاغيّة ونحويّة وعروضية تضمن السلامة له ولقصائده. وكيف لا؟، وروحه روح النحلة التي تبحث عن رحيق الشعر، وحواسه حواس الفراشة التي تنقل اللقاح من قصيدة إلى أخرى لتكتمل الحياة في الديوان وتتجدّد. وكيف لا؟، وهو يبثُّ في صدر البيت الشعريّ وفي عجزه علاقاتٍ غراميّةً بين الألفاظ إذا أبدع في الغزل، ويجود بمعانٍ وطنية إذا قام بتسييس القصيدة، يقول علي: "وتمرُّ حربٌ بعد حربٍ بعد حرب، ثم ماذا أيّها الموتُ المسيّر ب"الرموت"، ألا تزل خطاك عن درج البيوت؟، ألا تقل، ألا تضلّ، ألا تنام؟، ألا تصاب ولو مجازًا بالزكام؟ ألا تموت ولو قليلًا؟ ريثما أنهي نشيدي". إنّ طلب "علي" بموت الموت: تشخيص، يتم تصنيفه ضمن أجمل ما ابتكرته البلاغة العربية.
لن أتحدث عن وحدة البيت، ولا عن وحدة القصيدة في هذا الديوان، فثمة أفكار كثيرة فيه تتناثر مع شعاع الشمس، تجمعها ألفاظه المنتقاة من معجمه الخاص، وقوافيه المتميزة والبكر التي لم يـُـبدع على منوال معظمها غيره من الشعراء، فهو شاعرٌ مستقلٌ، يسبق عمره، وينهل من موهبته المتّقدة، ومن تجاربه الحياتيّة المليئة بالمعاناة، ومن مواكبته لواقعه العربي المليء بالأحداث المتسارعة.
ولأنَّه من هواة التجديد والابتكار، فقد أضفى "علي مي" على معمار قصائده صورًا بصريّة، ولوحاتٍ تشكيليّة، جمعت بين جمال الكلمات، وروعة الألوان، ورقة الإيقاع، وعذوبة الأنغام، حتى غدت تلك القصائد ألعابًا نارية تضيء فضاء الشعر العربي الحديث، وتستعجل شقَّ فجره الشعريّ؛ وبذلك، غدا شاعرًا ساحرًا قادرًا على كسوة الهيكل العظميّ للشعر، بجمالياتٍ كانت هي "المكياج" الخفيف الذي يضفي عليها من روعاته، لا سيّما وهو يجمع بين الشأنين الخاص والعام، وبين تجربته الأدبيّة ومسيرته الشعريّة والحياتيّة، يقول "علي": "ولستُ سوى حجرٍ وانصهر، أنضجتني اليد البشرية حدَّ السيولة في قالب الخلق، كنت الذي شاء لي صاحبي أن أكون، وربما صرت آنيةً أو قلائد، أو لم أزل صخرةً في عراء الضجر، بيد أن القصيدة أم الهوامش، راق لها أن تمسرحني فوق أبيضها المشتهى، ويجربني تبغُها والسهر، وأنا جرسٌ لست إلّا، ولكنّه الشعرُ يرتجل الأبديّة في الأبجديّة، يكتب موعدَنا والقدر، هي فانتازيا الكائنات إذن، هي فانتازيا، راح يحدّثها الشاعر المنتظر".
يكتب "علي" قصائده منطلقًا من عاطفته الصادقة، يكتب من حرارة الروح، يكتب من مرجله الشعري الذي يغلي، يكتب من مشاعره وأحاسيسه الوثّابة، يكتب ليرتقي بشعرنا العربيّ، إلى مستوى لم يصله غيره من الشعراء، وأعتقد أنَّه حقّق الكثير مما أراد، يقول: " يتدفق صوت القصيدة في ماء روحي، فأشعل في عزلتي قمرًا وأغيبُ، وتنأى ضفاف الجسد، وأقطف من شفتي وردة، وأحاولُ حلمي القديمَ على عتباتِ الأبد، فذات حروفٍ سيعبرُ ذاك الولد!".