الصورةُ والعلامةُ قراءة في قصص "عندما كنتُ أجيد الطيران".

سيمياءُ العتبات النصيّة: الصورةُ والعلامةُ قراءة في قصص "عندما كنتُ أجيد الطيران".
محمد صابر عبيد
كاتب وناقد عراقيّ

أضحى موضوعُ العتبات النصيّة في الدرس النقديّ الحديث مادّة جماليّة نوعيّة للكشف عن طبقات نصيّة لها تأثير كبير وعميق في فضاء التشكيل، وكلّما كان وعي العتبات لدى المبدع كبيرًا انعكس هذا على فعاليّته في إنجازٍ عتباتيٍّ مؤثّرٍ في الصوغ العام للمعمار النصيّ، ويتشكّل هذا الوعي العتباتيّ من فهم نوع العتبة وإدراك حاجة النصّ إليها بحيث يسهم حضورها في بلوغ أعلى مرحلة اكتمال وتكامل نصوصيّ، ويُحذَّرُ من استخدامها حلية مجرّدة لأنَّها تنعكس سلبيًّا على الأداء النصيّ المطلوب في منطقة القراءة.
يوصف الناقد والمنظّر الفرنسيّ "جيرار جينيت" بأنّه أوّل من نبّه إلى أهميّة العتبات في الدرس النقديّ الحديث، وقدّم نظرياتٍ شديدةَ الأهميّة والفرادة في هذا المجال بكتابيه "عتبات النصّ" و"أطراس" فضلاً على كتب أخرى تشتغل على الخطاب عمومًا مثل "خطاب الحكاية" و"مدخل لجامع النصّ" و"عودة إلى خطاب الحكاية" وغيرها كثير، وتابعه نقّادٌ عرب قاربوا النصوص الإبداعيّة العربيّة انطلاقًا من نظرية العتبات، وسعوا باجتهاد إلى تكييف النظريّة العتباتيّة بما يتلاءم مع الكيفيات الإبداعيّة للنصوص العربيّة، على الرغم من أنّ بعضهم بالغ في التعاطي مع فضاء هذه الرؤية النقديّة الجديدة وحمّلوا أدواتها أكثر ممّا تحتمل، غير أنّ المنظور العام للقضية يحيل على منجز نقديّ مهمّ حظي بعناية النقّاد والمبدعين على حدٍّ سواء، بما يعزّز موقع النصّ الإدبيّ في خريطة الثقافة والحضارة داخل الاتجاهات الجماليّة كلّها ضمن رؤية متعدّدة وعميقة وأصيلة وفاعلة ومنتِجة.

عتبةُ الغلاف
لا يمكن التعاطي مع عتبة الغلاف إلا في ظلّ اشتراطات تؤهّل هذه العتبة للتناول النقديّ، وفي مقدّمة هذه الاشتراطات أن يكون للمؤلّف دورٌ في تصميم غلاف كتابه؛ إمّا إسهامًا أو اشتراكًا أو قبولاً ورضى في نهاية المطاف، أمّا إذا اقتصر أمرُ تصميم الغلاف على دار النشر فثمّة محاذير أساسيّة من مغبّة المغامرة في مقاربة هذه العتبة نقديًّا، فدور النشر في الأغلب الأعمّ تُعنى بالجانب التجاريّ الربحيّ في كلّ ما يتعلّق بنشاطها النشريّ، وهي غير مَعنيّة تمامًا بالعلاقة التشكيليّة الجمالية بين عتبة الغلاف وجوهر المقولة النصيّة في الكتاب، وهو ما قد يُوقِع المُحلّل في فرضيّات لا تسندها وقائع على أرض النصّ بحيث تكون البراهين عليها خاطئة، بما ينعكس على مجمل القراءة النقديّة لتكون النتائج نظريّة على الأرجح؛ لا إجرائيّة كما يجب أن يكون.
يتشكّل غلاف المجموعة القصصيّة لنورة يوسف البلوشي "عندما كنت أجيد الطيران" (منشورات دار نثر، مسقط، سلطنة عُمان، ط1، 2021.) من لوحة تشكيليّة تحتلّ الجزء الأكبر من صفحة الغلاف، ويتحلّق في أعلى الصفحة على جهة اليمين اسم المؤلِّفة بالأحمر ووبنط صغير نسبيًّا؛ يقابله في الجهة الأخرى توصيف الكتاب "قصص قصيرة"، ثم يأتي أسفل ذلك عنوان المجموعة يكون فيه الجزء الأكبر من العنوان "عندما كنت أجيد" ببنط أكبر من اسم المؤلِفة، في حين تأتي أسفلها مفردة "الطيران" ببنط كبير جدًّا يلفت الانتباه بقوّة.

 

اللوحة التي تصدّرت صفحة الغلاف للفنان "إدريس الهوتي" تبدو فيها وجوه إنسانيّة دائريّة داخل موجة لونيّة كثيفة باشتباكٍ عالٍ، ينتهي فيها الحراك اللونيّ أقرب إلى الأزرق المتعاشق مع ظلال الأسود، وجوه محتشدة يبدو عليها الجاهزيّة الكاملة للانطلاق أو الهجوم أو الاستعداد لفعل استثنائيّ قادم لا محالة، ويحيط باللوحة فضاء أزرق بزرقة أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنّها محايدة وتميل إلى اللون البنفسجيّ، وهنا تفعل مفردة "الطيران" -ببنطها العريض والمهيمن- فعلها في لفت انتباه التلقّي بوصفها المنطقة الأرجح بصريًّا، على النحو الذي يتلاءم مع منهجيّة القصّ التي اعتمدتها المؤلّفة في التشكيل العام للخطاب السرديّ، وعلى الرغم من حساسيّة البساطة التي ينطوي عليها الفضاء التشكيليّ للغلاف غير أنَّ الأسئلة التي قد تنبثق من رغبة التعمّق في طبقات اللوحة وما حولها، قد ينقل هذه البساطة إلى عمق يحتاج إلى حفر قرائيّ أوسع.

عتبةُ الإهداء
تتوسّط "عتبة الإهداء" بين المؤلّف الحقيقيّ والرسالة التي يودّ هذا المؤلّف إرسالها إلى جهة مُعيّنة بحمولة سيميائيّة خاصّة، ولا يتكشّف جوهر هذه الحمولة إلا حين يتعيّن على وجه من وجوه التحليل أو التأويل الكشف عن صورة الآخر "المُهدى إليه"، وطبيعة الرسالة الإهدائيّة وقيمتها الذاتيّة والموضوعيّة قدر تعلّق الأمر بالنصوص التي يتضمّنها الكتاب أصلاً، ويمكن بطبيعة الحال أن تكون هذه العتبة ذات صلة بالجانب الوجدانيّ المتعلّق بالمؤلّف وعلاقاته الثقافيّة والاجتماعيّة "الخارج نصيّة"، فتكون عتبة الإهداء بعيدة تمامًا عن جوهر الحادثة النصيّة في الكتاب ولا تحتاج إلى إقحامها في هذا المدار النقديّ، ولا شكّ في أنّ صورة الإهداء تقود مباشرة إلى نتيجة لها صلة بهذا التصوّر بما يجعل المتلقّي قادرًا على الكشف والبرهنة، وعندها يكتفي بإشارة عابرة إلى عتبة الإهداء حين يجد أنّها عتبة وجدانيّة "خارج نصيّة" ولا تستحق إخضاعها للتحليل والتأويل، فتنتهي الأمور عند هذا الحدّ وتستقرّ وظيفة العتبة على هذه الرؤية الكافية.
تُقسّم عتبة الإهداء إلى قسمَين رئيسَين هما: عتبة إهداء الكتاب وعتبة إهداء النسخة، ولكلّ عتبة منهما قوانينها وظروفها وحالاتها وتشكيلاتها الكتابيّة على مستوى الفعل والتدوين والمقصد، لكنّهما متكاملتان على نحوٍ ما.

1- إهداء الكتاب
تحظى عتبة إهداء الكتاب بعناية المؤلّف من ضمن الصورة العامة التي تستقرّ في ذهنه قبل أن يخرج الكتاب إلى النور في شكله النهائيّ الحاسم، وقد تشغل هذه العتبةُ المؤلّفَ كثيرًا لأنّها عتبة مهمّة يسعى فيها إلى التوجّه نحو فضاء إهدائيّ له علاقة مُعيّنة بالمرحلة التي أُنجز فيها الكتاب، فتأخذ شكلاً شخصيًّا مُصرّحًا به حين يصدّر المؤلّف إهداءَه إلى شخص بعينه أو أكثر بالأسماء الصريحة المعروفة، وقد يقتصر فيه على الإشارة إلى صفات خاصّة مميّزة لهؤلاء الأشخاص من دون ذكر أسمائهم، وقد يذهب خلاف ذلك إلى توجيه الإهداء نحو حالة رمزية لا شخصيّة؛ وبحسب الحاجة التي يراها المؤلّف ضروريّة ومناسبة وتُلبّي حاجة الكتاب في طبقة مهمّة من طبقاته.
تتحدّد صورة إهداء الكتاب في مجموعة نورة البلوشي القصصيّة "عندما كنت أجيد الطيران" في طبقات عائليّة تبدأ بالأب وتنتهي بالأخوة والأخوات، وبحسب تراتبيّة الأهميّة العائليّة المتعارَف عليها في الثقافة العربيّة الإسلاميّة بتقديم الأب ثم الأم وبعدهما الأبناء وصولاً إلى الأخوة والأخوات حيث تكتمل الدائرة العائليّة على هذا النحو:
"إلى:
أبي....
رحمة الله تغشاك بحجم الرحمة التي زرعتها في قلوبنا.

أمي....
يا أمان الخائفين وعاصمة من حنين، تختصرين الوطن ولا وطن يختصرك.

ابنتيّ....
سما وورد
سأظلّ النور بينكما.

إخوتي وأخواتي....
يا قوت أيامي ومدّخراتي.
العالم....
الذي جعل الحياة جميلة بكلّ تناقضاتها."
ولكلّ طبقة إهدائيّة حصّة من القول والعاطفة والانتماء والوصف والنداء والاحتفاء والعناية التعبيريّة بشكلها اللغويّ ودلالتها الاعتباريّة، فالرحمة للأب أولاً انطلاقًا ممّا تركه منها في نفوس أبنائه جميعًا، وللأم الملاذ والوطن والمرجع فهي المخلّص الذي يختصر الأشياء كلّها في الهمزة والميم لتكون الكلمات والأفعال والصور في أمان دائم، أمَّا "سما وورد" ابنتا المؤلّفة "ابنتيّ" فتأتيان بعد الأب والأم مباشرة كي تكون صورة الحضور الأموميّ مشفوعة بالنور الذي يغطيهما على أمثل ما يكون.
تذهب الطبقة الثالثة من الإهداء إلى الأغصان بعد أن غطّت طبقة الجذور لتمتدّ إلى الابنتين "سما وورد"، بوصفهما الأقرب من الجهة الأخرى إلى روح صاحب الإهداء؛ ولا سيّما حين تتكلّل الصورة بجملة الاستقبال "سأظلّ النور بينكما" على نحو دائم وكامل، في حين تبقى الطبقة الرابعة من حصّة الأخوة والأخوات في تشكيل جامع يحتمل إضافات أسلوبيّة ذات طبيعة سيميائيّة ورمزيّة "يا قوت أيامي ومدّخراتي/العالم.... الذي جعل الحياة جميلة بكلّ تناقضاتها."، بما يؤكّد قيمة الفضاء الذي يعزّز الوجود ويمنحه قوّة أكبر وجمالاً أوسع وأرقى في خضمّ ما ينطوي عليه هذا العالم من تناقض.

2- إهداء النسخة:
تأتي مرحلة إهداء النسخة بعد صدور الكتاب حيث يقوم المؤلّف بالتوقيع على نسخ كتابه بخطّ يده في مناسبات مختلفة، إمّا أن تكون في حفل إشهار تعدّ له إحدى المؤسسات الثقافية احتفاءً بصدور الكتاب والإعلان عنه والترويج له، كي يقوم المؤلّف بالتوقيع لمجموعة من الحضور غالبًا ما يكون فيه نصّ الإهداء متشابهًا بحكم عامل الزمن، لذا قد لا تصلح كثير من هذه النسخ للدراسة النقديّة لأنّها تحمل عبارات متشابهة لا يهمّ من يقتنيها سوى توقيع المؤلّف عليها للذكرى، غير أنّها في الأحوال كلّها تصبح هذه النسخة الموقَّع عليها من المؤلّف وثيقة ربّما تُعتمَد في مناسبات محدّدة.
أمّا حين يكون إهداء النسخة ذا طابع شخصيّ محض خارج مناسبات حفلات الإشهار والتوقيع؛ فإنّ المؤلّف هو من ينتخب الآخر "المُهدى إليه" بناءً على عوامل واشتراطات وعلاقات والتزامات مختلفة، تنطوي على جملة مقاصد متباينة يحمل كلّ مقصد منها هُوية خاصّة تحدّد نوع الإهداء وأسلوبيّته وطريقة تدوينه، وقد تَعوّدَ المؤلّفون كتابة هذا الإهداء على الصفحة الأولى أو الثانية متى وجدوا مساحة بيضاء تتّسع لتدوين الإهداء.
تتنوّع أشكال إهداء النسخة استنادًا إلى عوامل كثيرة لا مجال لحصرها؛ اجتماعيّة ونفسيّة وذاتيّة وموضوعيّة وحاليّة تمتدّ في فضاء المؤلّف بلا حدود، فمنها ما يكون إهداءً إشاريًّا قصيرًا يقوم على الاختصار والإيجاز والإلماح، ومنها ما يكون إهداءً طويلاً يجد المؤلّف تجاه المُهدَى إليه فرصة للتعبير عن رؤية وجدانيّة تسكنه فوجد الفرصة هنا لإظهاره إلى الوجود، على النحو الذي يتمتّع فيه المؤلّف بأقصى درجات الحريّة في اختيار الإهداء المناسب في اللحظة المناسبة وبحسب المزاج والحالة النفسيّة لحظة التدوين.
يحاول المؤلّف في طريقة كتابة الإهداء استثمار مساحة البياض في الورقة لأجل التلاعب بطريقة الخطّ والتلاعب بالمساحة في وقت واحد، فثمّة من يكتب بخطّ مائل أو خطّ مستقيم أو يجعل الحروف صغيرة أو كبيرة وغير ذلك من سبل التلاعب الشكليّ، بما يشجّع أدوات التلقّي على استنفار إمكاناتها لأجل التحليل أو التأويل للوصول إلى رؤية قرائيّة خاصّة، لا بدّ أن تكون لها علاقة من نوعٍ ما بجوهر المقولة التي يحملها الكتاب؛ حين يحرص المؤلّف على إيجاد وشيجة بين موضوع الكتاب ونصّ الإهداء.
يختلف نوع القلم ولونه فيما يتركه على سطح الورقة من تشكيل إهدائيّ قد يحيل على علامة مُعيّنة تساعد القارئ في فعاليّة التحليل أو التأويل، فلحظة تدوين الإهداء لحظة حاسمة يتوقّف عليها الوضع النفسيّ للمؤلّف وصلته الوجدانيّة والإنسانيّة بالمُهدى إليه، فضلاً على نوع القلم ولونه وسيولة الحبر الذي يسطّر فيها المؤلّفُ النصَّ الإهدائيّ.
يمكن القول في هذا السياق إنّ عامل المجاملة له تأثير شديد الخطورة في صوغ نصّ الإهداء؛ ولا سيّما حين يقوم المؤلّف بكتابة نصّ الإهداء بحضور المُهدَى إليه وإشرافه، بما لا يترك فرصةَ حريّةٍ واسعةٍ له لكتابة عتبة إهداء ثريّة كما يشتهي، ويُكثر هذا الأمر ويتكرّر في حفلات الإشهار حين يقوم المؤلّف بالتوقيع على نسخ كتابه لأشخاص لا يعرف أغلبهم من الحضور، وقد يميّز من يعرفهم بعبارات غير تقليديّة تكشف عن طبيعة علاقاته بهم، وبما أنّ العلاقة بين المؤلّف والمُهدى إليه ذات طبيعة حسيّة مباشرة فلا بدّ أن يتحكّم هذا العامل بقدرٍ أو بآخر في صوغ نصّ الإهداء، لكنّه في الأحوال كلّها يخضع الإهداء للدرس النقديّ في إطار مقاربة العتبات النصيّة مهما كانت طبيعته، ويتوقّف نجاح القراءة حتمًا على كفاءة الأداة النقديّة في قراءة عتبة الإهداء وهي تأخذ بنظر الاعتبار هذه الضفاف والتخوم والظلال، كي تصل في نهاية الأمر إلى نتيجة قرائيّة معقولة تسهم في استكمال القراءة النقديّة للنصّ الأدبيّ داخل مفاصله المختلفة.
سنقارب إهداء النسخة لمجموعة نورة الحارثي القصصية اعتمادًا على نسخة إهداء وحيدة وصلتنا منها، ولم يُتَح لنا الاطلاع على إهداءات أُخر كي تتوسّع القراءة لتشمل أكثر من نموذج إهدائيّ، لذا نكتفي بقراءة هذه النسخة على نحوِ ما وصلتنا من القاصّة حيث كانت حرّة في تدوين عبارة الإهداء، وقد وصلتنا النسخة عن طريق وسيط عام من دون لقاء مباشر؛ لنفترض اعتمادًا على ذلك أنّ نصّ الإهداء خضع لصياغة واعية من المؤلّفة، سعت فيه إلى أن يكون هذا النصّ الإهدائيّ متفاعلاً مع عنوان المجموعة في إشارة إلى معرفة دور العتبات النصيّة في هذا السياق.
نعرض هنا صورة لعتبة إهداء النسخة إذ حاولت المؤلّفة كما هو واضح استغلال المتاح من بياض الورقة لرسم الصورة الإهدائيّة فوق عنوان المجموعة القصصيّة المطبوع أسفل الصفحة، ولعلّ العبارة الجوهريّة في الإهداء هي "لا حياة.. من دون.. تحليق" تأتي هنا توكيدًا وإصرارًا لاختيار الطيران وسيلة وحيدة للحياة:


تكاد تشتغل موضوعات القصص العشر التي تتألّف منها المجموعة القصصيّة على فضاء موضوعاتيّ مشترك، يتعلّق بجوهر الطموح الإنسانيّ لحياة أفضل تقوم على الشروط والمبادئ والمواضعات القيميّة للصورة الإنسانيّة الطبيعيّة، إذ إنّ التحليق لا يُنجز إلا لمن يجيد الطيران بكفاءة عالية، والجملة العنوانيّة "عندما كنتُ أجيد الطيران" توحي بأنّ هذه الإجادة مفقودة الآن وهي مرتبطة بالماضي فقط، وإذا ما اختبرنا عتبة العنوان بجملة الإهداء المنفيّة "لا حياة من دون طيران" نصل إلى معنى لا يحتاج كثيرًا من التأويل مفاده أنّ من لا يجيد الطيران لن يكون بوسعه التحليق، ومن لا يمكنه التحليق لا حياة له، بأوسع وأشمل وأعمق ما ينطوي عليه دال "الطيران" ودال "تحليق" من دلالات ورموز ومعانٍ.

عتبة كلمة الناشر:
تخضع كلمة الناشر التي توضع عادةً في الغلاف الخلفيّ للكتاب لجملة اعتبارات تتوافق مع منهجيّة الدار وفلسفتها وجدّيتها، فبعض هذه الدور تولي كلمة الغلاف عنايةً كبيرةً بوصفها مفتاحًا تسويقيًّا مهمًّا يمكن أن يسهم في الترويج للكتاب على نحو من الأنحاء، لذا تُكلّفُ من هو أهلٌ للمَهمّة وتطلب منه كتابة كلمة مكثّفة تُعرّف بأطروحة الكتاب وجوهره ومقصده الرئيس، في سعي حثيث لتقديم رؤية شاملة موجزة تحثّ القارئ وتشجعه على اقتناء الكتاب بما تحمله من وعود تتلاءم مع أهدافه القرائيّة.
أمّا البعض الآخر من دور النشر فلا تُعنى كثيرًا بهذه العتبة ولا تدرك مدى خطورتها فتدوّن عندئذٍ أيّ كلام لسدّ الفراغ التصميميّ في الغلاف الخلفيّ حسب، ومن هنا يتوجّب على الناقد معاينة نصّ الكلمة ومعرفة قيمتها ومدى صلاحيّتها للتحليل أو التأويل النقديّ، وبوسعه إهمالها حين يجد أنّها لا تتوفّر على القيمة المطلوبة الصالحة للنظر النقديّ الإجرائيّ، في حين يتولّى فعاليّة الرصد النقديّ العميق في نطاق معالجة العتبات النصيّة حين يجد أنّها مثيرة وقابلة للمعاينة النقديّة الفاحصة.
تحاول عتبة كلمة الناشر في الغلاف الخلفيّ اختزال صورة نقديّة شديدة العموم من دون منهجيّة واضحة تحكم تصوّراتها، فهي عبارة عن أشتاتِ ملاحظاتٍ من هنا وهناك لتبيث رؤية عامة لا يمكن أن تساعد القارئ في توجيه قراءته ومؤازرتها، وقد جاءت على النحو الآتي:
"لم يكترث البناء الفنيّ في قصص "كنت أجيد الطيران" بالذات لإعادة إنتاج شعور داخلي عابر بين جدران تضمّ أفواهاً تتنفس حزناً وإحباطاً، إنّما برغبة حسٍّ عالٍ ورصد متعمّد ترقبُ الذاتُ الكاتبةُ واقعَ مجتمعها، وتنسج حوله قصصاً بطريقة فنيّة تجعل قارئها في كثير من قصصها العشر بين متعة القراءة ولذّة العوالم المتخيّلة، فإن خفتت الدهشة الصادمة أو ضمرت في بعض المرّات؛ إلا أنّ النهايات ظلّت مثل شجرة معتنى بها لتكون الصورة جميلة والمعنى يانع"
أتت الكلمة على مصطلح البناء الفنيّ وعلى الذات وعلى حزمة الأحاسيس والرغبات في سياق، مثلما أتت على الرصد والنسج والمتعة واللذّة في سياق آخر، وقاربت الدهشة بوصفها عنصر الصلة بين النصّ القصصيّ ومجتمع القراءة، فضلاً عن الإشارة إلى "النهايات" القصصيّة التي تتركّز فيها المؤونة السرديّة على نحو شديد الخصوصية، حين تكون الخاتمة/النهاية عتبة من عتبات القصة تؤول إليها الأحداث بوصفها بئر المحكي.

عتبة العنوانات القصصيّة
يُنظَر إلى العنوان القصصيّ نقديًّا من أكثر من زاوية بحكم طبيعة التشكيل العنوانيّ القائم على عنونة كبرى وعنونة صغرى، وتأخذ العنونة الكبرى "عنوان المجموعة" المسطّر على الغلاف الأوّل للكتاب القصصيّ فرصة التلقّي الأبرز، بوصفها تمثّل لحظة العلاقة الأولى بين الكتاب القصصيّ والمتلقّي لأنّ عناية المتلقّي تذهب باتجاه هذه العنونة قبل كلّ شيء تقريبًا، ثمّ بعد ذلك يُنتقَل إلى مجال العنونة الصغرى الذي يضمّ عنوانات القصص المؤلِّفة للمجموعة القصصيّة، ولا بدّ أنّ وجود علاقة، أو أكثر من علاقة، بين العنونة الكبرى والعنونة الصغرى يمكن أن تفتح سبيلاً مناسبًا للقراءة.
تقدّم مجموعة "عندما كنت أجيد الطيران" لنورة البلوشي عنونتها الكبرى مستعارة من عنونة صغرى لإحدى قصص المجموعة، وقد وضعتها القاصّة في ذيل تسلسل قصص المجموعة لتكون القصّة الأخيرة وكأنّها المحصّلة النهائيّة للخطاب القصصيّ في هذه المجموعة، وجاءت القصص بحسب تعاقبها بين دفَّتي الكتاب على النحو الآتي:
"أنا هنا، كومار وأكثر، خارج التوقيت، حرب باردة، بأيّ عيب أقصيت، فنجان بوشاح أزرق، مراهق، يوميّات جدّة سعيدة، فيسبوك، كنت أجيد الطيران"
إذ نجد العنونة الكبرى "عندما كنت أجيد الطيران" تستقرّ في نهاية تسلسل القصص بوصفها عنونة صغرى لإحدى قصص المجموعة، ويمكن معاينة هذا الموضوع في سياق حجم الهيمنة التي تضع فيها الجملةُ الظرفيّةُ طاقتَها الدلاليّةَ في خدمة المقولة القصصيّة التي تحملها المجموعة في خطابها الفنيّ والجماليّ.

عتبة الهوامش
تعدّ عتبة الهوامش من العتبات الداخليّة-الخارجيّة التي يُعنى بها المؤلّف لتقوم بوظائف حصريّة ذات أهداف محدّدة، قد توجد في بعض الكتب القصصيّة ولا توجد في أخرى بحسب حاجة المؤلّف لوضعها أملاً في تيسير الأمور على المتلقّي، فلربّما تحتاج بعض الكلمات إلى شرح أو توضيح بسبب مَحليّتها أو ندرة استخدامها؛ فيضع المؤلّف لها هامشًا وينقل القارئ إلى هامش الصفحة كي يشرح المعنى فقط، ولا شكّ في أنّ هذه الآليّة في رسم خريطة الصفحة تحيل على آليّات عمل الكتب البحثيّة والنقديّة ذات الطبيعة الأكاديميّة، لكن لا حرج ولا غضاضة ولا مشاحة في استخدامها في النصوص الإبداعيّة كافّة حين تكون الحاجة إليها ضروريّة وأساسيّة، لأجل الوصول إلى أمثل حالة قرائيّة لا تضع المتلقّي أمام عوائق فيما يتعلّق بمعنى كلمات غامضة عليه، قد تسيء إلى فضاء القراءة العام وتقلّل من جدوى العمليّة القرائيّة في نهاية المطاف.
تشتغل عتبة الهوامش في مجموعة "عندما كنت أجيد الطيران" القصصيّة على مرجعيّات محليّة ذات طابع شعبيّ، إذ يأتي الهامش الأوّل في قصة "أنا هنا" هامش (1) كي يشرح كلمة "الليسو" بـ"غطاء الرأس"، ويأتي الهامش الثاني في قصة "كومار وأكثر" هامش (2) ليشرح كلمة "الباني بوري" بـ"وجبة شعبية هندية"، أمّا الهامش الثالث في قصة "خارج التوقيت" هامش (3) فيشرح كلمة "ميحد حمد" ـبـ"مطرب خليجي، من الإمارات العربيّة المتحدة، وكثير مما بين القوسين من إحدى أغانيه الشهيرة"، وتختتم عتبة الهوامش فعاليّتها العتباتيّة بالهامش الرابع في قصة "يوميّات جدّة سعيدة" هامش (4) وهو يشرح كلمة "الياس" بـ"نبات عشبي تضعه النساء على شعورهنّ وله استخدامات عدّة"، إذ تسهم هذه الهوامش في التعريف بما قد يُشكِل على القارئ ويحجب عنه فرصة تلقٍّ نموذجيّة إذا ما أُهملت، وهي تمثّل اجتهادات يقوم بها المؤلّف معتقدًا أنّ هذا يسهّل على القارئ استقبال النصوص بلا مشاكل قرائيّة محتمَلة.