الجَريمةُ الإلكترونيّة في القَرن الواحِد والعشرين

محمد ياسر منصور
كاتب وباحث سوري
بيئةٌ جديدة وإجرامٌ جديد
الثَّورة على صَعيد الاقتصاد الرَّقمي في السنوات الأخيرة قَلَبت طُرز الحياة وأشكالها، وتَقدُّم المَعيشة على صعيد الفَرد أو على مستوى الإدارة بَلغَ مرحلة اللاَّعَودة، إلى درجة أتاحَت التدخُّل في كلّ فِعل من أفعال الحياة اليوميّة، وأصبحنا نعيش حياة تتمتَّع فيها الأجيال الجديدة بِالسُّهولَة واليُسر.
والإدارة أيضًا تَخطَّت عَتبة مهمة، كَما الفَرد، وذلك باستخدامها التقنيات الجديدة لِلوُصول إلى الوثائق والمُستندات التي تُريدها، والحصول على المعلومات الخاصَّة بِكلّ مُواطِن، وإصدار بَعض الوثائِق المَطلوبة أيضًا بوساطة تلك التقنيات نفسها.
فَالتجارة المَاضِية قُدمًا نحو الأمام تُمثِّل الآن جُزءاً مهمًّا من الاقتصاد، وكذلك الحال بالنسبة لِلعَمل.
فَفي فرنسا، على سبيل المِثال، هناك أكثر من 25 مليون مُشترك في الإنترنت، واستخدام هذه التقنيات في تَزايُد مُستمرّ.. سواء على صَعيد الهاتف الجوَّال أو على صَعيد الحَواسِب الشخصيِّة.
هذه التقنيات الجديدة، شأنها شأن كل اختراع يَدفَع البَشريّة إلى التقدُّم، أَفرزَت تصرُّفاتٍ وسلوكِيَّاتٍ سَيِّئةً ومُنحرفة؛ إنَّها عِلم الإجرام، وقد تكون نتائج هذا الإجراء ذات مَساوئ على الأمن الجَماعيّ تفوق أخطارها على المُبادَلات التجاريّة؛ بل وعلى الصناعات الرقميِّة (الديجتال)، وتزيد حَجم الأخطار والأضرار بحيث تفوق أضرار انتشار الأوبِئة القاتِلة، فَعلى الصَّعيد الفَردي، قد يتعرَّض المُواطنون لإساءات تَمسّ شخصهم أو أُسرتهم (أفلام دعارة يُستخدم فيها الأطفال، أفلام تُحرِّض على العنصريّة..) أو تَمسُّهم ماليًّا (سَحب نقود بطريقة الاحتيال، انتحال الشخصية...).
إنَّ المبادلات التجاريّة من خلال الإنترنت تُشجِّع على اختراق الحَواجز غير المَشروعة، ويعتقد مستخدمو الإنترنت أنَّ المعايير الأخلاقيّة أو القانونيّة أو الشرعيّة المُطبَّقة في العالَم الحقيقي لن تُطبَّق في هذا المَجال، الذي هو الإنترنت. ولمَّا كانت حماية الأشخاص وممتلكاتهم هي مسؤولية الدولة؛ فإنَّ عليها إنشاء "شرطة خاصَّة بالإنترنت" وتُنسِّق عَملها لِتَضمن الأمن والهدوء لِلعُموم.
ربما كانت أعمال الإجرام على الإنترنت تُشكِّل في يوم من الأيام حَدَثًا هامشيًّا، غير أنها حاليًا تُشكِّل إجرام المستقبل؛ لأنَّ المُخالَفات التي تُرتكَب في ازدياد دائم، وقد ازدادت سهولةً من خلال استخدام التقنيات الرقميِّة. وإنَّ العمليات الإرهابيّة الأخيرة والأكثر دمويّةً التي حصلت في أكثر من دولة في العالم، استخدَمت تلك التقنيات سواء في الإعداد لها أو في تنفيذها.
مخالفاتٌ جديدة:
عِلمُ الإجرام التقنيّ لَفظةٌ نَوعيِّة يمكن تعريفها بأنَّها مجموع أعمال الابتزاز والاغتصاب المُرتَكبة عن طريق وسيلة مرتبطة بالتقنيات الجديدة، وعلى رأسها الإنترنت، والتي تُتيح من خلال شبكتها السِّلكيَّة أو اللاسلكيَّة أو الأقمار الصناعيّة سرقة أو اختلاس أو شَلّ أو تزوير أو تبديل أو تخريب المعلومات والمُعَطيات، أو الاستيلاء عليها أو نَشرها وتبادل مَضامين غير مشروعة. وهذه الأعمالُ تشمل نوعين أساسيين من المُخالَفات هُما:
1ـــ الأعمالُ الإجراميّة التي تَستخدِم بشكل أساسي التقنيات الرَّقميِّة:
الإساءة إلى نظام المُعالجة المُؤتمَتة لِلمُعطَيات ( STAD) ونَشر بَرامِج تُتيح إلحاق الضَّرَر بِـ ( STAD) والتي نَصَّت عليها المادة 323 ـــ 1 وما بَعدَها من قانون الجَزاء: تزوير بطاقات مَصرفيِّة ونَشر بَرامج تُتيح صناعة بطاقات دَفع مُزيَّفة أو مُزوَّرة ؛ المُخالفات المُرتبطة بقانون المعلوماتيِّة والحريَّات التي نَصَّت عليها المادّة 226 ـــ 16 وما بَعدها من قانون الجَزاء حَول حِماية المُعطيَات الإسميِّة؛ المُخالَفات الواقِعة بِحَقّ تشريع الكريبتولوجيا (الترميز).
2ــــ الأعمالُ الإجراميِّة التي تَستخدِم بشكل ثانَوي التقنيات الرَّقميِّة:
نَشر مَضامين مُحرَّمة (أفلام إباحيِّة تَستخدِم الأطفال، كُره الأجانب، معلومات حول صناعة القنابل، التزوير ) على شبكة الإنترنت؛ الاختلاس من خلال الاحتيال على أرقام البطاقات المَصرفيِّة؛ الاختلاس من خلال عمليَّات بَيع زائفة في أحد المَواقِع؛ تزوير الأعمال السَّمعية ـــ البَصريِّة.
والمُخالَفة (إعدادًا أو تنفيذًا) قد أصبحت سَهلة باستخدام التقنيات الرَّقميِّة: استخدام الإنترنت والهاتف المَحمول والميكرو ـــ أنفورماتيك لتبادل الرسائل وتدوين الوثائق، والإعداد لارتكاب المُخالَفة.
الطرائقُ العمليِّة:
1ـــ إلحاقُ الضَّرَر بأنظمة المُعطيَات المُؤتمَتة:
مِن بَين الإساءات إلى المَعلوماتيِّة (الأنفورماتيك) فإنَّ أخشى ما يُخشى هو الأضرَار التي تُسبِّبها الفَيروسات ورُوح التخريب (إدخال قنابِل مَنطقيِّة) والهَجمَات على الأنظمة الآتية من الخارج.
قد تأخذ قَرصنة المعلوماتيِّة أشكالاً مُختلفة: اعتراض البريد الإلكتروني، انتِحال الهَويِّة؛ التنَصُّت على الشَّبكة للاستفادة من مَعلوماتها أو عَرقلَتها أو الحَيلولة دون استخدامها، وتخريب المُعطَيات أو تغييرها؛ التدخُّل في النِّظام؛ قَرصنة الحَواسِب، قَرصنة الهَواتِف، تَخريب النِّظام...
ظَهَر مُؤخَّرًا شَكلٌ جديد من الاحتيال يُتيح لِلجَاني الاستيلاء على المعلومات السِّريِّة لِبطاقة الائتمان لِأَحد مُستخدمي الإنترنت، وبالتالي الوُصول إلى أحَد مَواقِعه المَصرفيِّة. وعُموماً تزداد القَرصَنة المَعلوماتيِّة بِمُعدَّل 9% سنوياً.
2ـ الاحتيالُ على البطاقات المَصرفيِّة:
يقوم الاحتيالُ على البِطاقات المَصرفيِّة على ضَعف مَغنَطتِها، ولا سيَّما أن هناك مَلايين البِطاقات المُتداوَلة. في العام 1986 تَقرَّر زراعة برغوث إلكترونيّ في البطاقات المَصرفيِّة مَنعاً للاحتيال، الأمر الذي أدَّى إلى تقليص مَلموس جدًّا في عمليات الاحتيال خلال عشر سنوات، غَير أنَّ المُجرمين اتَّبعوا تقنيات جديدة للاحتيال، فاستخدموا مادّة خاصَّة لِنَسخ ذلك البرغوث الإلكتروني جزئيًّا، من البطاقة الحقيقية وحَوَّلوه إلى بَرغوث يُمكِن بَرمَجته. ولا يُمكِن إلاَّ لِلمُخدِّم المَركزي كَشف هذا النَّوع من الاحتيال. ويتزايد هذا النَّوع الجديد من الإجرام بِمعدَّل 10% سنويًّا، بِغَضّ النَّظر عن نَشر برامج معلوماتيِّة عَبر الإنترنت تُتيح صناعة بطاقات مُزوَّرة.
3ـ نَشر مَضامين (مواضيع) مُحرَّمة:
في هذا النَّوع من الإجرام عَبر الإنترنت، يجب أن نَخُصّ بِالذِّكر المُخالَفات الجِنسيِّة، ولا سيَّما استخدام الأطفال في الجِنس، حيث يُمكن لِلمجرمين من خلال الإنترنت الدُّخول في تَماس مُباشَر مع ضَحاياهم والتَّغرير بِهم وإغوائِهم: إفسَاد القُصَّر، الاعتداءات الجِنسيِّة، النَّيل جِنسيًّا من القُصَّر، بَل الاغتصاب وتِجارة البَغَاء. وذلك كلّه يَعني مُخالَفات جَزائيِّة يُزيد استخدام الإنترنت من خُطورتها ويُعاقِب عليها القانون. وهذا الأمر استدعَى استنفار جُهود رجال الشُّرطة والدَّرَك لِفَرض رقابة صارِمة ومُشدَّدة على تِلك البَرامج الإباحيِّة التي تَستغِلّ الأطفال جِنسيَّاً عن طريق الإنترنت، كما شَملَت تِلك الرَّقابة بَرامج كُره الأجانِب والبرامج الدَّاعِية إلى العُنصرية.. إلخ.
حال التشريع والتنظيم:
وُضِعَت نُصوص كثيرة أوروبيِّة أو وطنيِّة لِتنظيم تطبيق التقنيات الرقميِّة واستخدامِها مُجدِّدَةً شُروط ذلك الاستخدام لِلمُعطَيات المُرمَّزة، والمُحافَظة عليها، وإصدار الفواتير الهاتفيّة وفواتير الإنترنت، وأتاحَت تِلك النُّصوص القانونيِّة لِلقُضاة التمكُّن من التحكُّم في الاستخدامات الجُرمِيِّة لِتلك التقنيات.
تَدخُّل الشرطة والدَّرَك لمعالجة المخالفات:
سُرعان ما قَدَّرت الشرطة والدَّرَك مَدى خُطورة التهديدات الجديدة المُرتبطة بالتقنية الرقميِّة والإنترنت وغيرها، وستزداد مَسؤوليتهما المُشتركة في المُستقبَل عن الصِّراع ضِدّ الجَرائِم والمُخالَفات التي ستُرتكَب بِحَقّ هذه التقنية.
ورشة عِلم الإجرام التقنيّ:
هذه الوَرشَة هي في فرنسا على سبيل المِثال، إحدى سِتّ وَرشات أسَّستها وزارة الداخلية لِلحَدّ من الأخطار الأمنيِّة، ووظيفة هذه الورشة مُتعلِّقة بِالمُخالفات والجَرائم المُرتكَبة بِحَقّ التقنيات والإنترنت.
والمَهمَّة المُلقاة على عاتِق هذه الوَرشة هي التخطيط لِمَواقِف يمكن تنفيذها على نحو أكثر هُجوميّة، وأفضل تنظيمًا من حيث التآزر بين رجال الشُّرطة والدَّرَك، وطبعًا، تطوير التعاون التَّقني والقَضائي مع جميع المؤسَّسات والمشاريع والهيئات العامَّة أو الخاصَّة، التي يضطَّلِع كل منها في مَجال اختصاصه في مُحاربة الإجرام التقني.
الإجراءات والثمار الأولى:
1ــــ اكتساب مَعرفة أفضَل بالإجرام التقني.
2ـــ تعزيز مُراقبة المَضامين (المَواضيع) المَحظورة وغير المَشروعة التي تُنشَر عَبر الإنترنت؛ فَالشُّرطة الوطنيِّة ستكون أفضل إعدادًا وتدريبًا لِمراقبة المَضامين ذات الصِّبغة العُنصريِّة أو المُضادَّة لِلسَّامِيِّة أو الدَّاعِيَة إلى كُره الأجانب أو المُرتبطة بالإرهاب أو بِقَرصَنة المَعلومات. أمَّا رجال الدَّرَك فَمهمَّتهم أكثر خُصوصيَّة، وهي مُراقبة المَضامين الحاوِيَة على دَعارة الأطفال.
3ـــ تعزيز المُراقبة التقنية والبَحث عن التطوير؛ وذلك من خِلال شَبكة من الخُبَراء في الشُّرطة الوطنيِّة والدَّرَك الوطني. وتعمل هذه الشبكة بالتعاون مع الخُبراء في الإدارات الأخرى ويُمكِنها الاستعانة بِالخُبرات الخارجيِّة.
4ـ تكثيف أعمال التَّدريب والتأهيل؛ من خِلال زيادة عَدد المُحقِّقين الاختصاصيين لَدى كلٍّ من الشُّرطة والدَّرَك، وتطوير أعمال التدريب والتأهيل.
خاتمـــة:
إنَّ الصِّراع ضِد الأعمال الإجراميِّة والمُخالَفات المُرتكَبة بِحَقّ التقنيات الحديثة والإنترنت، والتي تُمثِّل الإجرام في القَرن الواحد والعشرين، يُعَدّ صِراعًا أو مَعركة طويلة الأمَد، وبِحاجَة إلى نَفَسٍ طويل. والتآزُر والتعاون بين الشُّرطة والدَّرَك يجب أن يتطوَّر في المُستقبل لِيَشمل مجموع الوزارات في الدَّولة.
المرجع المعتمد: مجلة "DEFENS NATIONALE" الفرنسية ـــ عدّة أعداد.