التنمُّرُ الإلكترونيّ: من مظاهر العصر الرقميّ

سعيد سهمي

ناقد وباحث مغربي
لعلَّ التحوّلات التي شهدها العالم مع التطوّر التكنولوجيّ وظهور الرقميّة، لم تمسَّ مجالًا دون مجال، إنَّما كانت ولا تزال تؤسس لمتغيِّرات جديدة (new paradigms) على مستوى الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة؛ وقد كان من نتائج هذا التطوّر تزايد الصراعات والصدامات الاجتماعيّة الناتجة عن التواصل الرقميّ، والذي وصل حدَّ التنمُّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يمكن تسميته بالتنمُّر الإلكتروني، أو التنمُّر عن بعد، والذي يُعتبر استمرارًا لمختلف أشكال التعامل عن بعد؛ في التعليم، والاقتصاد، والصحة، والسياسة، وغيرها.
لقد تحوَّل العنف والتنمُّر من طبيعته الأولى التي تتم على أرض الواقع، إلى التنمُّر الإلكترونيّ الذي يمارسه الأشخاص المرضى بالعنف اعتمادًا على الوسائط التواصليّة الرقميّة، حيث يتم التنمُّر عبرها على الآخرين المختلفين أو الأضعف في اعتقاد الشخص المتنمِّر، ولعل من أبرز أشكال هذا التنمُّر الإلكترونيّ التنمُّر بين أطفال المدارس، والتنمُّر العنصريّ الذي يعتمد على العرق أو اللون أو الأصل ، والتنمُّر عبر التحرش الجنسي، وما إلى ذلك من أنوع التنمُّر الذي يرتبطُ، بشكل عامٍّ، بممارسة العنف على الضعفاء أو من هم أقل شأنًا أو مرتبة اجتماعية أو قوّة بدنية، والذي يتنوّع بتنوّع الظروف، والأهداف، وطبيعة الشخص المتنمَّر عليه.
1- في مفهوم التنمُّر
التنمُّر في اللغة العربية مأخوذٌ من الكلمة أو الاسم "نمر"، أي أنّه يرتبط في الأصل اللغوي بعالم الحيوان، ومن ثمة فإنَّ العلاقة التي تربط بين الاشتقاقين تقوم على دلالة الافتراس، فالمتنمِّر يتّخذ صفة النمر الذي يتميّز بكونه يهدف إلى افتراس كلّ من هو تحت سلطته، يعني أن المتنمِّر هو الذي يبرز عضلاته على الضعفاء، ومن ثمة فإنَّ الأمر يتعلق ويرتبط بهؤلاء الذين يهجمون على الضعفاء للاعتداء عليهم.
وتعني كلمة "تنمّر" حسب "قاموس المعاني": غَضِب وسَاء خُلْقُه وتشبَّه بالنَّمِر في لَوْنه، وفي استخدامها في مصطلح: تنمّر لفلان أي: مدّ له في صوته عند الوعيد، أو تنكّر له وأوعده، وكلّ المصادر والمراجع لمعنى الكلمة تقول إنَّ حيوان النمر وصفاته والتشبّه به هي ما تعنيه الكلمة (1).
هذه المعاني لا تبتعد عن دلالة الكلمة "تنمّر" في السياق اللغوي الإنجليزي "bullying" المشتقة من "bull" أي: "الثور"، والتي توحي، بدورها، بمعاني الهجوم أو التهجم وتحيل على الاعتداء وعلى الاندفاع.
ومن حيث الدلالة الاصطلاحية، فإنَّ التنمُّرَ هو شكلٌ من أشكال السلوك المؤْذي الذي يمكن أن يحدث لأيّ شخص في أيّ وقتٍ من الأوقات، وغالبًا ما يمارسه القويُّ أو من يظنُّ نفسَه كذلك على الأضعف منه. والتنمُّر له أربع خصائص أساسيّة:
- سلوكٌ دنيء وضار، بحيث يؤدي إلى نتائج سلبية قصيرة أو طويلة المدى لـلضحية..
- سلوكٌ متكرر؛ فعادة لا يكون التنمُّر حادثة تخطر ثم تختفي من طرف الشخص المتنمِّر، ولكنّها تكون جزءًا طبيعيًا ينمو معه.
- سلوكٌ يتمُّ عن قصدٍ بهدف إيذاء الضحية أو تخويفه أو جعله في وضعية صعبة؛ بحيث يمكن أنَّ يكون هذا العنف أو التنمُّر في شكل ضررٍ جسديّ أو عاطفيّ أو نفسيّ أو أكاديميّ أو اجتماعيّ. ويشمل كذلك الضرر الذي يلحق بسمعة الشخص أو ممتلكاته الشخصية أو الشعور بالأمان والسلام في المدرسة.
- وجود اختلال افتراضي أو حقيقي في القوّة بين الجاني (المتنمِّر) والضحية (المتنمَّر عليه) بناءً على عوامل مثل العمر، أو الحجم المادي، أو القوة، أو الجنس، أو الهُوية الجنسيّة، أو العرق، أو الذكاء، أو الأدوات والوسائل مثل الأسلحة، والوضع الاجتماعي، والشعبية، أو الإعاقة (2).

(غالبا ما يتّخذ التنمُّر بعدًا عنصريًّا، في: https://www.columbian.com، بتاريخ: 18 دجنبر 2021)
2- التنمُّر الإلكترونيّ وأنماطه
يأتي التنمُّر الإلكترونيّ الذي أتاحته الرقميّة ليكون بديلًا عن الصراعات والمشاحنات والهجومات المباشرة على أرض الواقع التي يمكن أن يأتي بها الصراع المباشر بين الإنسان وأخيه الإنسان، بحيث انتقلت مواقع التواصل الاجتماعيّ، وخاصّة منها "فيسبوك" وتطبيقات التواصل الآلي مثل "واتساب"، من وظيفة التواصل إلى وظيفة الصراع، بل يمكن القول إنَّ هذه المواقع الإلكترونيّة التي تقدم الخدمات المجانيّة للتواصل يمكن القول إنها تمارس، اليوم، أكبر حربٍ نفسيّة على الإنسان، وخاصة من طرف هؤلاء المرضى بالعنف الذين لا يجرؤون على التواصل المباشر مع الناس ولا يستطيعون المواجهة على أرض الواقع بشكل مباشر، فتجدهم ينتهزون حرية النشر التي توفرها الرقميّة لغرض السب والشتم، والابتزاز، والتحرش، وغيرها من الممارسات وأشكال السلوك المرفوضة.
(التنمُّر الإلكترونيّ، في: https://techweez.comK ، آخر اطلاع بتاريخ: 18 نونبر 2021)
أ‌- التنمُّر من خلال السبِّ والقذف
غالبًا ما يفاجئك البعض على مواقع التواصل الاجتماعيّ بالسبِّ والشتم بسبب سوء فهم أو سوء تفاهم تجهل خلفيته وسياقه، فتجد نفسك غير قادرٍ على الدخول في هذه الحرب التي لا تفضي عادةً إلى خير، وفي كثير من الأحيان يحتدم الصراعُ بين الطرفين المتنمِّر والمتنمَّر عليه أو الضحية، ويصل في نهاية المطاف إلى المحاكم حين تمتلك الضحية القدرة على رفع دعاوى قضائية في الموضوع.

(الأطفال أكثر عرضة للتنمُّر الإلكترونيّ، في: https://docs.miniorange.com، بتاريخ: 18 نونبر 2021)
إذا عدنا إلى المحادثات بين الرجال والنساء تجد أن الأغلبية يعانون من التنمُّر التواصليّ، حيث إن التنمُّرَ الإلكترونيّ يأتي في أشكالٍ متعددة، لكن أبرزها السب والشتم والقذف، خاصّة بالنسبة للنساء، حين يتحوّل التحرش الجنسيّ الإلكترونيّ إلى ممارسة السب والشتم وقذف النساء المحصنات من طرف الذكور، وهو ما يجعل الأمر في نهاية المطاف يتحوّل الى صراعات قد تخرج إلى أرض الواقع وتنتقل إلى حرب حقيقيّة.
أ‌- التنمُّر عبر الابتزاز
يتعرض البعض إلى التنمُّر عبر الابتزاز، وهو من المظاهر الغريبة التي نشاهدها اليوم بحيث نجدُ يوميًّا في البريد الإلكترونيّ رسائلَ نصّيّة تطالبك برقم الحساب البنكي من طرف هؤلاء الذين يقومون بابتزازنا من أجل سرقة المال، وفي ذلك نوع من التنمُّر غير المباشر، من خلال استعراض الذكاء واستغباء الناس الذين قد ينساقون وراء الطمع، ومن ثمة يقعون في شرك المتنمِّر المبتَزِّ.
من جهةٍ أخرى، تتعرض النساءُ بشكلٍ خاصٍّ إلى الابتزاز الماليّ وذلك من خلال استغلال الصور التي يتم اقتناصها من الضحية بشكل ممنهج، عبر الرسائل النصّيّة، لتظهر فيها المرأة في مظاهر غير لائقة أخلاقيًّا، أو اقتناص فيديوهات مخِلَّة بالحياء، واعتمادًا على تلك الصور يتم انتهاز الفرصة لتعريض الضحية للابتزاز، من خلال مطالبتها بإرسال مبالغ مالية مقابل محو الصور أو الفيديوهات أو عدم عرضها على أنظار الناس في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وهو ما يجعل الضحية، في الغالب، تطيع المتنمِّر المبتز خوفًا من الفضيحة، وغالبًا ما يتعرض الرجال للموقف نفسه خاصّة من هؤلاء المشاهير الذين يخشون الفضيحة، فالتنمُّر هنا يأتي من خلال استغلال الوازع الأخلاقي للإيقاع بالضحية.
ج- التنمُّر عبر التحرش الجنسيّ
لا يختلف التنمُّر عن التحرش؛ ولهذا ففي اللغة الفرنسية مثلا "le harcèlement" تطلق على التنمُّر والتحرش معًا. ففي المجتمعات الذكوريّة، ينظر الرجل إلى المرأة كجسد وكعورة، وعلى أنَّها كائن ضعيف يسهل التنمُّر عليه، ومن ثمة تكون النساء هنَّ الأكثر عرضة للتنمُّر الإلكترونيّ، والذي من أهم أنماطه التحرش الجنسيّ، هذا التحرش يدخل في التنمُّر انطلاقًا من اعتماد المتنمِّر على القوة في التحرش (السلطة الذكوريّة)، من خلال استعمال الألفاظ القبيحة والممجوجة التي لا يجرؤ الذكور على قولها على أرض الواقع خاصّة في المجتمعات المحافظة، فيتم إطلاق اللسان عبر مواقع التواصل الاجتماعي كتابة أو مشافهة، لما تتيحه هذه المواقع من حريّة. وغالبًا ما يصيب هذا التحرش المتزوجات والمحصنات اللواتي يتم قذفهن وإرسال الرسائل الفاضحة والصور الفاضحة لهنَّ على سبيل التنمُّر.
يتحوّل التحرش إلى التنمُّر من خلال الاعتماد على القوة واللجوء إلى العنف اللفظي، والاستقواء على المرأة التي لا تستطيع، في الغالب، اللجوء إلى القضاء خوفًا من الفضيحة والعار، خاصّة إذا كانت متزوجة، وهو ما يجعل مواقع التواصل الاجتماعي في البلدان النامية أو حتى في بعض الدول المتقدمة مجتمعات افتراضيّة ذكورية بامتياز، يستقوي فيها الذكر الذي لا يخاف الفضيحة والعار على الأنثى التي تخاف الفضيحة وتخاف ضغط المجتمع.
3- كيف يمكنُ التحصّن من التنمُّر الإلكترونيّ؟
في الواقع، ما ذكرناه من أشكال التنمُّر الافتراضيّ تبقى مجرد أمثلة من عشرات الأشكال والأنماط التي يمكن اعتبارها إحدى أهم أسباب الأمراض النفسيّة المعاصرة، وخاصّة منها الاكتئاب الذي يُعتبر من أهم نتائج العصر الرقميّ، فالأخبار التي تقدم معلومات خاطئة ومغرضة تمارس التنمُّر، والشركات التي تعتمد الإشهار المستفز للمخاطَب تعتمد التنمُّر، والصحافة التي تنحاز إلى رأي دون آخر تمارس التنمُّر، والمثقف الذي ينحاز إلى إيديولوجيا معينة ولا يؤمن بالاختلاف قد يمارس التنمُّر.
هذه الحقائق تدعو بدايةً إلى الوعي بهذا المشكل الذي قد يؤدي إلى أمراض متعددة لمن تمارس عليه ضغوط التنمُّر؛ أهمّها الاكتئاب والتوحّد والتي قد تصل إلى الانتحار، ومن جهة أخرى لا بدَّ من العمل على تحصين النفس وتحصين مستعملي الأنترنيت عمومًا من التنمُّر الإلكترونيّ والذي يمكن أن يتم عبر ثلاثة مبادئ هي التوعية، والحزم في التعامل مع المتنمِّر، ومحاسبة المتنمِّر.
1- التوعية الرقميّة
نحتاج بشكلٍ مستعجل في المدارس والجامعات وفي الأسرة كذلك إلى توعية رقميّة في هذا العصر الذي صار فيه كل شيء يعتمد على التكنولوجيا، وفي هذا الصدد يمكن معرفة كيفية مواجهة كل أشكال المعاملات الإلكترونيّة السلبية، والتي قد تدفع مستعمل الأنترنيت عل سبيل المثال ألا يقبل في مواقع التواصل الاجتماعي من لا تجمعه به رابطة أسريّة أو مدرسيّة أو مهنيّة، والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن تطبيقات التواصل الفوري مثل "واتساب " و"انستغرام".
2- الجرأةُ في التعامل مع المتنمِّر
لا بدَّ أن نعي بدور المحاكم الإلكترونيّة والقضاء الإلكترونيّ، ومن ثمة لا بدَّ من المواجهة الصارمة للمتنمّرين الذين يقومون بالاعتداء على الآخرين عبر التحرش أو الابتزاز أو غيره، والتعامل بشكل قانونيّ مع هؤلاء المتنمِّرين لضمان حقوق الضحايا وتوقيف الاعتداءات، وهو ما يدعو ضحايا التنمُّر إلى تكسير هاجس الخوف والمواجهة والتعامل مع التنمُّر بحزمٍ في الوقت المناسب وفور التعرض للتنمُّر الإلكترونيّ.
3- محاسبة المتنمِّرين
لا شكَّ أنَّ التنمُّر الإلكترونيّ يدخلُ عمومًا ضمن الجريمة الإلكترونيّة، ولا يمكن توقيفه إلا بمعاقبة الجناة، والحق أن تضافر الجهود بين المحاكم الرقميّة المحليّة، والمجتمع الدوليّ في حال وجود نزاعات دوليّة، والمواقع الإلكترونيّة التي يتمُّ عبرها التنمُّر أو القيام بجرائم إلكترونيّة، يمكن أن يكون كفيلًا بوضع حدٍّ لتلك الممارسات اللاأخلاقيّة وتأمين التعامل الرقميّ.
هوامش:
1- انظر: https://raseef22.net، آخر اطلاع: 16 نونبر 2021.
2- انظر: https://theeducationhub.org.nz، بتاريخ: 16 نونبر 2021.