حلم

قصة: فرانتس كافكا
ترجمها عن الألمانية: عاطف أحمد عريقات
رأى "يوزِف ك" في ما يرى النائم:
لقد كان يومًا جميلًا وأراد" ك" أن يخرج في نزهةٍ، لكنَّه ما كاد أن يخطو خطوتين حتى كان في المقبرة. كانت هناك طرق اصطناعيّة متعرجة جدًّا على نحو غير عمليّ، غير أنَّه انزلق طافيًا فوق أحد هذه الطرق وعلى وضع ثابت لا يتزعزع، كما لو كان فوق ماء جارف. عن بعد وفي مدى بصره لمح كومةَ ترابٍ ناتجة عن حفر قبرٍ جديد، أراد أن يتوقف عندها. كومة التراب أغرته، وظنَّ أنَّه من غير الممكن الوصول إليها بالسرعة الكافية، لكنَّه على الأغلب لم يكن يرى كومة التراب إلا لماما، فلقد حُجبت عنه برايات يلتف قماشها وتصطفق ببعضها بعنفٍ بالغ، ولم يكن بالإمكان رؤية حملة الرايات، غير أنَّه كان هناك الكثير من هتافات الفرح.
بينما كان لا يزال متّجهًا ببصره بعيدًا، لاحظ -فجأةً- أنَّ كومة التراب تلك قد أصبحت إلى جانبه على الطريق، بل أصبحت خلفه تقريبًا، ولأنَّ الطريقَ أصبح يتحرك سريعًا تحت قفزاته، ترنح وسقط من فوره على ركبتيه أمام كومة التراب. كان هناك رجلان يقفان خلف القبر يحملان بينهما شاهدة قبر في الهواء، وما إن ظهر" ك"، حتى دفعا بالحجر بقوة على الأرض، فاستقر هناك كما لو أنَّه كان مبنيًّا هناك منذ زمنٍ بعيد. وعلى الفور برز رجلٌ ثالثٌ من بين الشجيرات، عرف فيه" ك" أنَّه فنان. لم يكن يرتدي سوى سروالٍ وقميصٍ قد زُرَّ على نحو سيء، وعلى رأسه قبعة من المخمل، وكان ممسكًا بيده قلمَ رصاصٍ عاديٍّ، أخذ يرسم به أشكالًا في الهواء أثناء اقترابه.
بقلم الرصاص هذا اتّجه إلى أعلى الحجر، كان الحجر مرتفعًا للغاية، ولم يكن عليه أن ينحني، ولأنَّ كومةَ التراب التي لم يرغب في أن يدوسها كانت تفصله عن الحجر، كان عليه أن ينحني. ولذلك وقف على أطراف أصابع قدميه معتمدًا بيده اليسرى على وجه الحجر. وبمناورة حاذقة جدًّا، تمكّن بقلم الرصاص العاديّ هذا، من أن ينجز شيئًا ما، فلقد كتب: " هنا يرقد..... ". لقد ظهر كلُّ حرفٍ واضحًا وجميلًا ومحفورًا عميقًا وبالذهب الخالص. بعد أن انتهى من كتابة الكلمتين التفت إلى "ك" الذي كان يتوق بشدة إلى متابعة الكتابة، ولم يعُد يهتم بالرجل إلا قليلًا، وإنَّما كان ينظر إلى الحجر فحسب. وبالفعل بدأ الرجل الكتابة ثانيةً، ولكنَّه لم يستطع ذلك، فلقد كان هناك عائقٌ ما، فترك قلم الرصاص يهبط والتفت مرة أخرى باتجاه "ك". نظر" ك" إلى الفنان أيضًا ولاحظ أنَّه في حيرة شديدة، ولكن لم يكن بوسعه الإفصاح عن سبب ذلك. لقد اختفت حيويته السابقة تمامًا، ولذلك كان" ك" في حيرة أيضًا، وتبادلا نظرات تنمُّ عن العجز، وخيّم عليهما سوء فهم شديد، لم يستطع أحدهما أن يحلّه. وفي الوقت غير المناسب بدأ جرسٌ صغيرٌ في كنيسة المقبرة يقرع، ولكن الفنان لوَّح بيده الممدودة بشدة فتوقف الجرس عن القرع، غير أنّ الجرس عاود الرنين ثانيةً، بعد برهة قصيرة، ولكنَّ الصوتَ هذه المرة كان خافتًا، ودون متطلبات خاصة، وتوقف من فوره عن الرنين، وبدأ الأمر كله كما لو أنَّه كان يختبر رنينه. لقد كان" ك" يائسًا من حالة الفنان، فانخرط طويلًا بالبكاء والشهيق خلف راحتي يديه المبسوطتين أمام وجهه. انتظر الفنان إلى أن استعاد" ك" هدوءه، وصمّم بعد ذلك على أن يستمر بالكتابة، لأنَّه لم يجد مخرجًا آخر. لقد وجد" ك" الخلاص في أول سحبة صغيرة خطّها الفنان، ولكن يبدو أنَّه وبكلِّ جلاءٍ لم يقم بذلك إلا رغمًا عنه وبعد عناء شديد، ولم يعد الخطُّ جميلًا كما كان من ذي قبل، والشيء الأهم أن الذهب قد اختفى، ومضى الخطُّ شاحبًا ومضطربًا، ولم يكن الحرفُ إلا كبيرًا جدًّا فقط. لقد كان "ي"، وكان الفنان على وشك الفراغ منه عندما داس بقدمه غاضبًا كومة التراب، مما أدى إلى تطاير التراب حوله إلى الأعلى. وأخيرًا أدرك" ك" ما يرمي إليه الفنان، ولم يعد هناك مزيد من الوقت يكفي لطلب الصفح، وأخذ يحفر بأصابعه جميعًا التراب، الذي لم يبد أية مقاومة تقريبًا، يبدو أنَّ كلَّ شيء كان معدًّا مسبقًا، وأن قشرة التراب الرقيقة لم تكن إلا خداعًا، وانفتحت خلفها مباشرة حفرة واسعة ذات جدران شديدة الانحدار، غرق فيها "ك"؛ إذ لفّه تيارٌ خفيفٌ هادئٌ وألقاه على ظهره. وبينما كان لم يزل في الأسفل يحاول تعديل رأسه، وقد تلقته الأعماق التي لا يمكن النفاذ منها، ظهر اسمه في الأعالي فوق الحجر كزخارف فخمة.
وهنا استيقظ مبتهجًا لهذا المشهد.