المقالح: البصمةُ الممتدّةُ في الثقافة العربيّة

هكذا يمضي الكبار؛ يتركون آثارهم تدلّ عليهم، ويبدأ الضجيجُ حولهم بعد رحيلهم، لا قبله؛ ذلك أنّهم غير معنيين بالضجيج، بل معنيّون بالإنجاز، والحضور الحقيقيّ في الحياة، وهو ما يعكسه الأثر الذي يتركونه...
هكذا كان عبدالعزيزُ المقالح، الشاعرُ، والناقدُ، والمفكّرُ، روحَ اليمن، وطاقتَها الحضوريّة في الثقافة العربيّة الحديثة، وفي المنجز النقديّ والشعريّ العربيّ، تتوهّج روحه بالرهبة في بدايات تفتّح الوعي، وتأتي هذه الرهبة أثرًا بعد حين، حين تكون القصيدة عجينَ روح، وصديقًا وفيًّا، فيقول القصيدة في القصيدة، فيكتب الحلم في تقديمه ديوان ( لا بدَّ من صنعا)، حلمه بأن يملأ الدنيا ويشغل الناس، وارتداد هذا الحلم إلى أن يكون شاعرًا شعبيًّا يعبّر عن ضمير الناس وأوجاعهم، خوفهم وحبّهم، فكانت قصيدة (لا بدَّ من صنعا) هذه القصيدة التي جاءت عنوانًا لديوانه (لا بدَّ من صنعا) والعنوانُ مأخوذٌ كما نعلم من بيت الشعر/ الرجز السائر في الحياة العربيّة، وفي الثقافة العربيّة، حيث يقول الرّاجزُ:
لا بدّ من صنعا وإن طال السّفرْ ولو تحنّى كلُّ عَودٍ ودُبِرْ(1)
وفي هذا الأخذ للعنوان يمكن أن نقرأ ملمحين قد يحضر الأول، ويغيب الثاني، ففي الأول هو العودة إلى الرحم، والبلد، والبدايات، والشعب، والأهل، وكلّ هذا وضّحه في تقديمه، هذا التقديمُ الذي لم يُرد لأحدٍ أن يكتبه، وإنَّما كتبه هو، متوجّهًا للقارئ، هكذا، مباشرةً، بعبارة (عزيزي) ويخاطب القارئ المفترض مباشرة، والملمحُ الآخرُ هو ما يوحي به الرّجز، وفي الكلمتين الأولى والثانية من البيت ( لا بدّ) وذلك في حتميّة العودة، مهما طال السّفر، وابتعد المسافر، وإذا كنَّا نقرأ هذا عن ديوان صدر في العام (1971)(2)، وأُعيد طبعه تحت مسمّى بواكير أدبيّة؛ فهو الديوان الأوّل، فإنّ في هذا استشرافًا وقرارًا في الوقت نفسه، قرار (وقْعَنَة) الحلم، واستشراف المآلات التي رأيناها ورآها في حياته، وعاناها وطنه.
لقد قال الشاعرُ الشابُ آنذاك:
إنّا حملنا حزنها وجراحها ... تحت الجفون فأورقت وزكا الثّمَرْ
وبكلّ مقهى قد شربنا دمعها ... اللهَ ما أحلى الدّموعَ، وما أمَرّْ!!
فتمتدّ التجربة بعد ذلك، يمنيّة خالصة، في عنوانات الدواوين، وفي عنوانات القصائد، من مثل:
(مأرب يكلّم، ورسالة إلى سيف بن ذي يزن، وهوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي، وعودة وضّاح اليمن... إلى آخر إصداراته الشعرية؛ بالقرب من حدائق طاغور).
وتتواصل المسيرة لينال عددًا من الجوائز والأوسمة منها:
وسام الفنون والآداب - عدن 1980م.
وسام الفنون والآداب - صنعاء 1982م.
جائزة (اللُّوتس) عام 1986م.
جائزة الثقافة العربية (اليونسكو) باريس 2002م.
وسام (الفارس) من الدرجة الأولى، في الآداب والفنون، من الحكومة الفرنسيّة 2003م.
جائزة الثقافة العربيّة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2004م
جائزة الشعر من مؤسسة العويس الثقافية 2010م
جائزة ملتقى الشعر العربي الدولي - القاهرة 2013م
جائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري 2019م.
وقد عُرف المقالح الشاعر أكثر من معرفته ناقدًا، ربّما، في ثقافتنا العربيّة، ذلك أنّه من الشعراء المجدّدين في شعرهم، الباحثين عن الأقانيم غير المعروفة مع الثبات على فكرة أنّ الشعر موجّه للناس/ الشعب/ الأهل/ في معادلة صعبة جدّا؛ فالذين أصرّوا على موقف الشّعر من حياة الناس بقي شعرُهم يراوح مكانه في الشعاريّة، والبساطة، والسطحيّة، ولكنْ أن تطلب هذا، وتجدّد في الشعر، فهذا عملُ العباقرة، وقد كان فقيدُنا منهم، رحمه الله:
"مذ صباي/ تعلّق روحي/ بشيء من الكلمات التي/ كتبتها يداكَ على حائط الكون/ ظلّت ترافقني وتقود خطاي إلى الشعر/ هذا الذي كنت أجهله/ وأهاب الدّخول إلى أرضه الفاتنة/ سلام عليك/ سلام على وطن كنت عنوانَه/ صوتَه/ وإليك تحدّق أشجاره/ وتمدّ يديها إليك عصافيره وهي تنطق اسمك (( طاغور))"
وهذه بدايةُ قصيدة (بالقرب من حدائق طاغور) وتبثّ إرسالياتها عبر الاسم(طاغور) وعبر ملفوظها (بالقرب من حدائق...) لتكون في خواتيم تجربة المقالح مفتاحًا لقراءة المقالح- أيضًا- في ضوء تجربة طاغور في الحياة، تجربة الحياة التي اختارها بنفسه، واختار ميادينها، مع إمكانية توافر ميادين أخرى غير الكتابة وصعوبتها، والارتباط بالبسطاء من الناس، وطاغور من الناس الميسور وجودهم في أسرة ميسورة، وكان يمكن له أن يكون أرستقراطيّا متعاليّا، ولكنّه اختار أن يكون مع الناس، في شعره وفي فلسفته في الحياة، وهكذا نرى إلى المقالح، رغم الجوائز والأوسمة، إلا أنّه بقي ابن اليمن، وابن ناس اليمن، قريبًا منهم، مقتربًا منهم.
في هذا الملف، نحاول أن نلقي ضوءًا على تجربته الغنيّة الكبيرة، في مجال الشعر والنقد، وقد أسهم في الملف أساتذةٌ كبار، لهم بصمتهم الواضحة في النقد الأدبيّ العربيّ، والاطّلاع على تجربة المقالح الشعريّة والأدبيّة بعامّة، وأتقدّم باسمي واسم مجلة أفكار التي كلّفتي بإعداد هذا الملف، لكلّ من الأساتذة الأجلّاء بالشكر العميم، كما أتمنى أن نكون قد وفّقنا في مجلة أفكار في تقديم الإضاءة التي تليق بهذه القامة الكبيرة، ورحم الله تعالى المقالح.

 


1) الإشبيلي، ابن عصفور، شرح جمل الزجاجي، ت: فواز الشعار، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان
2) المقالح، عبدالعزيز، لا بد من صنعا، عناوين Books ، ط ج، والطبعة الأولى 1971 .