الموتُ المشتهى في شعر المقالح؛ قراءةٌ في ديوان (يوتوبيا وقصائد للشمس وللقمر)

د. أحمد الفراصي
أستاذ الأدب الحديث والنقد المساعد كلية الآداب جامعة ذمار/ اليمن.
إنَّ "الموت والحياة" جزءٌ من جدلية الكون كله، ولا يمكن تصوّر وجود حياة دون وجود الموت. لذا شغل الموتُ فكرَ الإنسان منذ مراحل تفكيره الوجودي المبكر، إذ حاول الإنسانُ، في أساطيره الأولى، اكتشافَ ماهية الموت على أمل التغلب عليه وتحقيق الخلود، بيد أنَّ مختلف المساعي البشرية أخفقت في تحقيقه، إلا أنَّها اتّجهت فيما بعد إلى الأمام رافضة ذلك الإخفاق، عازمة على قهر الموت بالبحث عن ما يمنح الروح الخلود الأبدي وإن حلَّ الموت على الجسد الفاني.
من هذا المنطلق آثرنا قراءة الموت في شعر عبدالعزيز المقالح، لا سيَّما في ديوانه الأخير (يوتوبيا قصائد للشمس وللقمر) بوصفه آخر ما أنتجته قريحة الشاعر، ولكونه العمل الشعريّ الذي كتبه وهو على عتبة الموت، لذا فسنركز عليه لأنَّه الأقرب إلى الموت، وهو تقاربٌ مقلقٌ، لأنَّه كتبه بعد رحلة شعرية طويلة ابتدأت _تدوينًا_ منذ سبعينيات القرن الماضي وانتهت بهذا الديوان الصادر عن مؤسسة سلطان العويس الثقافية في العام 2020م.
إنَّ الشعرَ حتى الموت يبدو غريبًا خاصّةً إذا تذكّرنا أنَّ الهدف من العمل الأدبي هو الحديث عن الموت. عند هذا التعبير يمكن تخمين كتابة مشطورة إلى ما لانهاية، مسكونة بالموت في مختلف تفاصيلها. وهذا ما أفضى إليه المتأمل في قصائد الديوان التي سيطرت فكرة الموت عليها، وظهرت وهي تحمل في طياتها موتًا متعدد الاتجاهات والأشكال. مما شكّل حافزًا لهذه الورقة لتتبّع ثيمة الموت في الديوان انطلاقًا من الأسئلة الآتية:
كيف صور الشاعر الموت؟ كيف تشكّلت رؤيته له؟ ما هي منطلقاته وقناعاته نحوه؟
لعلّه من البديهي القول إنَّ الفنَّ يصبو عادةً إلى التعبير عن كلِّ ما يعتمل في ذوات الفنانين ويقلق أحاسيسهم المرهفة، ولعلَّ الموت والوجود كانا من أكثر ما يثير قلقهم ويؤرق أحاسيسهم الفنية، لذا صارت فكرة التحكّم في الموت حلمًا يراود ذهن كل فنان وعلى مختلف عصور الفن وأزمنته. وهذا التحكم اختلفت صوره من فنان إلى آخر، ومن تلك الصور تجريب الموت أو التآلف معه والتدرب عليه. وتلك الصورة تعني أنَّ الموت محرر ومن ثم مرغوب. إنَّ تجريب العزلة عن الآخرين، مثلًا، يمزّق نسيج التواصل معهم، ويؤدي إلى فقدان الشعور بالذات وبجدوى الحياة. فقطع نسيج العلاقات مع الآخرين هو تدريب على الموت النهائي. ومن ثم تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر، حتى يظهرا في وحدة متينة لا انفصام لها. أضف إلى ذلك أنَّ اتصال الحياة واستمرارها يرتبطان مباشرةً بما لها من معنى، وأن فُقد المعنى في الحياة يعني حلول الموت والفناء.
إنَّ المتأملَ في قصائد الديوان التي تسيطر على مضامينها فكرة الموت؛ سيجد أنَّ الشاعر قد تمرن على الموت بزهد، لأنَّ الحياة قد صارت بالنسبة له ثقل أكبر مما يطيقه، فكانت أمنيته أن يصبح قادرًا على الموت. إنَّ اشتهاء الموت، أو الحق في الموت، ظلّت فكرةً تطارد الشاعر بلا توقف، تجذبه وتباعده، ومن خلال الحركة نفسها، حركة اشتهاء الموت نظرًا لافتقار الحياة إلى معنى، صارت الكتابة تتشكّل، وأخذ فعل الكتابة يتوالد.
يدرك الشاعرُ أنَّه يتحتم عليه الموت يومًا، بيد أنَّه لا يدري متى، ولا كيف. بعيدًا عن استقبال الموت يتظاهر بأنَّه يفعل، يتظاهر بأنَّه يموت بشكلٍ حزين، يقول في نصٍّ أعلن فيه اليأس:
أنا هالكٌ حتمًا/ فما الداعي إلى تأجيل/ موتي/ جسدي يشيخ/ ومثله لغتي وصوتي/ ذهب الذين أحبهم/ وفقدت أسئلتي/ ووقتي/ أنا سائرُ وسط القبور/ أفرُّ من صمتي/ لصمتي.
(يوتوبيا 19).
إنَّ هذه المعرفة المطلقة بحتمية الموت تجعل الشاعر لا يتوقف عن قياس ما تبقى داخله من رغبة في الحياة، والتي يعبر أقل أثر فيها عن مدى معرفة الشاعر بالحق في الموت. فإذا كان الموت يستخدم ضعف الجسد فإنَّ الموت ليس بالأمر الفاجع، لأنَّنا والحال هذه، لن نكسب المعركة معه، والأسلم تسليم الجسد للموت؛ أو الذهاب بالحياة إلى مكان آخر، إلى الذهن أو ربما إلى الروح أو إلى ما هو الكل المطلق (وهو ما تجلّى في الاختيار الأخير للشاعر في مملكة الله).
ولأنَّ اللغة والصوت قد أصابتهما الشيخوخة، يفقد الشاعرُ القدرة على الكلام بفعالية، يموت في الكلام القدرة على الكلام، فيؤثر الصمت ويعتزل عن الآخرين، وفي هذا تدريبٌ أوليٌّ على الموت، لأنَّ الصمت يحمل في مضمونه معنى الموت وينضم إلى حشده. وما دام الأمر كذلك فإنَّ الموت لا يمكن أن يكون أمرًا مخيفًا لشخص قد تعوّد على الصمت في حياته قبل أن يصل إلى الصمت النهائي بعد موته، لذا فإنَّ الموتَ هو الخلاصُ الوحيدُ من شيخوخة الجسد واللغة والصوت.
الموتُ يفقده الاتصال بالأحبة، ويحرمه أثر علاقة المحبة، وفقدان الأسئلة، يعني فقدان القدرة على التفكير، وفقدان الوقت يعني عدم الإحساس بجريانه. حشدٌ من الفقد يتراكم في ذات الشاعر، الأمر الذي جعل الحياة حزينةً بلا معنى. في الحزن نشعر على نحوٍّ حادٍ بعدم الاتصال وبعدم معنى الحياة، وكلما عظم الموت من حوله عظم الحزن في ذاته، إنَّه تحفيزٌ للذات لتنصهرَ في الحشد، حشدِ الأموات، وتتمازج به.
يُلاحظ مما تقدم أنَّ الموت ودواعيه تحتشد وتتجمع في المتن الشعري، ليأتي السؤال الذي تم طرحه في النصِّ أولًا على الرغم من كونه نتيجةً متأخرةً للموت ومظاهره، هنا يمكن القول إنَّ السؤال يتّجه إلى الحياة وإلى الوجود الشخصي عليها، هو سؤالٌ لا يوجّه إلى أحد، بل إلى الذات وحدها، في قلب السؤال ينبثق سؤال أكثر إلحاحًا على الذات، فبعد أن شاخ الجسد، واللغة، والصوت، وبعد أن مات الأحبة، وبعد كل هذا الفقد: ما معنى الحياة وما جدواها؟ وما دام المصير إلى الموت فلماذا إذن أحيا؟ هو يدرك أنَّ كل ما يجعلنا نرى أنَّ حياتنا قد أصبحت بلا نتيجة أو أنَّها في صلبها لا معنى لها، له قوة الموت بالنسبة لنا، لأنَّه قد وضع في طريقنا حدًّا لا يمكن اختراقه ونهاية لجميع خطوط المعنى الممتدة مما لنا من حياة. هكذا يدخل الشاعر إذن في نطاق الحق في الموت. لقد أصبح وحيدًا بالإرجاء، بالبقاء على قيد الحياة. بالسؤال إذن تمكن الشاعر من الوصول إلى جذر إشكال الحياة. لأنَّ الموت ليس هو الشر، ليس ماهيته على الأقل، إنَّما فقد المعنى هو الإشكال.
ها هو ثمن الحق في الموت، يدرك الشاعر أنَّ ليس لديه سوى الكتابة؛ ومقدر لها أن تنتهي بالصمت، مقدرة إلى الانتهاء، مهددة بالانزواء، لأنَّ الشيء الوحيد الذي عليه أن يقوله، لا يمكنه قوله لأحد، لا لأحد من الأحياء، لا لأحد من الذين يعيش معهم، إذ كلما أصبح متحدثًا مع الموت، صار صامتًا. يحلُّ الصمتُ محلَّ الكلمات، ويحلُّ محلها عويلٌ مضطربٌ غير موجه إلى أحد. هنا تنطلق الآه الشعريّة قائلةً:
"أواه، كم تبدو الحياة جديرةً ... ألا تُعاش!!" (يوتوبيا 25)
إنَّ هذا الوعي الأليم بعدم جدوى الحياة يجعل الاتجاه إلى الموت إجباريًّا، فالموتُ في ذاته أصبح مرغوبًا تمامًا كالرغبة في الحياة، هنا يأتي الموت بوصفه حدثًا (أمنية)، فالاجتياز، اجتياز الحياة الخالية من المعنى، نهاية حد: إنَّه متعلقٌ بقدرة التخيل على مرافقة وعي المحتضر الذي لا يزال حيًّا، حيًّا حتى الموت. إذ يرد:
"دثريني/ فقد أصبح الموت/ أمنيةً/ بعد أن جاعت الأرض/ وافتقدت خبز أبنائها/ وطوى الصمتُ بؤس الكلامِ/ الذي ظلَّ يحرث في البحر/ أوهامَهُ/ ويبعثر أحلام أمته \في الهواءْ.
***
دثريني/ فإنَّي أرى القبرَ/ أوسع من هذهِ الأرض/ أوسَعَ من بحرها/ وأرى فيه شمسًا/ أحنَّ وأَرأَفَ من هذه الشمس/ أشهد فيه نجومًا ملونةً/ وملائكةً في الفضاء المديدِ/ تصلي/ وتغسلُ بعض ذنوب البشر.
***
دثريني/ فإن أبي... إخوتي/ في انتظاري/ وأصحابي الأوفياء/ وأمّي التي حين غابت/ وغاب سناها/ تمنيتُ لو أنَّهم حملوني/ على نعشها/ وانتهت عندها قصتي/ في الحياةْ.
***
دثريني/ دعيني أعانق في شغفٍ صحوة الأبدية/ أرحلُ عن وطنٍ بائسِ الأمسِ واليوم/ فيه تموت العصافيرُ جوعًا وتسمنُ فيه الذئابُ/ وما كتبته يدي ليس إلا صدى شجنٍ حارقٍ/ وبكاءٍ من الكلماتِ/ على بلدٍ كنتُ أحسَبهُ بلدًا/ وعلى أمّةٍ كنت أحسَبُها أُمّة/ ظلّها كان يمتدُ من ماءِ تطوان/ حتى سماءِ الخليجْ." (يوتوبيا 36)
لقد أصبح الوجودُ على الحياة، بفعل كل هذه المساوئ، معاناةً يعيشها الشاعر، فأصبح الموتُ يعني له خلاصَ الروح والبدن من أدران الحياة، وانتقال إلى حياة أخرى. أن يتحوّل الموتُ إلى أمنية فهو تعبيرٌ عن نزوعٍ قويٍّ للخلاص من مأساة الحياة ومعاناتها، فالموتُ هو المخرجُ الوحيدُ والمعبر الآمن نحو بداية جديدة وخروج من عالم الشرور والمآسي إلى عوالم الفضيلة. وبذا فإنَّ تقبّل الموت هو بمثابة مرحلة جديدة من الحرّية. إنَّه رغبةٌ في التحوّل إلى مملكة الله رغبةً في الحياة كما ينبغي للحياة أن تكون. حياة عامرة بوليمة المحبة والألفة.
ذلك أنَّ الإحساس بالقنوط وشيخوخة الجسد واللغة والصوت يجعل اشتهاء الموت طورًا آخر من الترقي، وضربًا آخر من الولادة والانتقال من عالم على عالم. أن نمضي بالحياة إلى موقع آخر هو استراتيجية لمقاومة الفناء الأبدي، ومحاولة لبلوغ مرتبة من الإرادة أعلى لا يمكن لقوّة الموت أن تقهرها. إنَّ تحدي الموت لا يمكن مواجهته إلا بأن نحمل تهديده بعدم الاتصال وفقدان المعنى؛ إلى مرتبة أعلى من الاتصال وتحقيق المعنى. وما دام الموتُ قوّةً فإنَّ ما يمكن للمرء أن يحقّقه ليس هو استبعادُ الموت، فهو لا يقبل التسوية، أو المساومة، ولكن أن يسعى إلى مرتبة أعلى من الحرية قادرة على فرض اتصالها برغم الموت. هنا يصبح الموتُ المدخلَ الرئيس إلى معنى أكثر دوامًا، وأكثر قدرة على أن يستغرق في ذاته كلَّ صورِ فقدان المعنى.
لهذا يرفض شاعرنا الحياة كما يراها عليه، ويدرب نفسه على الانتقال للإقامة في مكان آخر أكثر نقاء وحيوية وامتلاء بالمعنى. يرفض الحياة في إطار أنَّها تمنع الوصول إلى مملكة الله، لإدراكه أنَّ الخلود على هذه الحياة لن يكون أبدًا، لأنَّ الموت لا بدَّ منه فيها ذات يوم. يقولُ في نصّ "بالقرب من مملكة الله":
"كل ممالكنا الأرضية/ خاويةٌ/ زائلةٌ./ مملكةٌ واحدةٌ/ هي مملكة الله/ تظل الأنقى/ والأبقى/ لا يدركها عَطَبُ الموت/ ولا يدركها عَطَبُ الحزن/ ولا يغشاها الليلُ بظلمته/ أو يغمرها عند الصبحِ/ غبار الصحراءْ."
إنَّ التوق إلى الانتقال إلى مملكة الله هو من الآثار المترتبة على الثقة في وعود الإله، ففي هذه المملكة تتجلّى العلاقة بين الموت والحياة والأبدية، إنَّه نزوعٌ إلى الأبدي في مقابل التخلي عن الفاني (الحياة)، وهنا يكمن المعنى. مع ذلك، فما الذي يمكنه مساعدة الذات للوصول إلى هذه المملكة، إلى الأبديّة؟ وحده الدعاء من يوقظ الأمل برغبة مواصلة الوجود:
"يا حادي الأظعان/ ترفق بالأظعان/ وبي،/ دعني أتأمّلُ وجه طريقي/ أشربُ من فيض الترحال، أُسافرُ/ تحت الشمس/ بفطرتها وطفولتها/ وأفتش فيها عن غزلانِ/ المعنى/ وتأويلِ الأسرارْ.
***
ساعدني يا الله/ ساعد روحي المنفيةَ/ كي تخرجَ من ليل العثرات/ وتهبط سالمةً/ قل لي: أين البابُ؟/ لأدخله في يُسرٍ/ وأحس بأني استيقظتُ/ وما عادت أجفاني/ راغبة في الغيبوبة/ لا تعشى عيني/ حين ترى نور الأنوارْ." (يوتوبيا49)
يتجلّى أنَّ الموضوع الذي يتم طرحه ليس بين الحياة والموت؛ بل بين الحياة على الأرض والحياة في عالم آخر أكثر رحابة وصفاء. حياة لا يمكن إدراكها بالجسد الفاني بل بالروح. إنَّ البقاء الأزليّ متضمن ومحمول في التطلع نحو العيش في مملكة الله (اليوتوبيا)، مملكة ملؤها التفاؤل والامتلاء بالطاقة والتجدد بعد فقدانها، عبر العبور من الموت والتخلي عن الحياة الزائلة فاقدة المعنى، إنَّ الموت هو النجاة الحقيقية من الوجود في ظلِّ واقعٍ متهالك كل ما فيه يؤذن بانهيار كلي وشيك.
ومنه يتجلّى أنَّ مملكةَ الله طريقٌ إجباريٌّ اختاره الشاعر لعلاج الموت الواقع لا محالة. كما أنَّ الرغبة في العيش في مملكة الله، هو في الواقع تعرية لتجربة الحياة نفسها، في القلق العاري للعيش. وهو أيضًا نقلُ الموت من مفهومه المادي والمنطقي الداعي إلى الخوف؛ إلى موتٍ مألوفٍ محبوبٍ ومُشتهى، من أجل خلق توازن وانسجام بين الذات المتوترة والرافضة لحياة متناقضة، وبين الموت كواقع وحقيقة ملموسة خالقة لهذا التوتر. وهنا يرد الموت بمفهومين: واقعيٍّ ومتخيلٍ؛ فالواقعيُّ يشير إلى محدودية الزمن والنسبية في علاقة الموت بالجسد واللغة والصوت. أمَّا المتخيل فيتجاوز ذلك إلى معانقة "اليوتوبيا" التي تنتصر فيها الذات على الموت، على الحياة الخالية من المعنى، وتضمن لنفسها الخلاص من كل ما عاشته من شيخوخة، وما رأته من مآسٍ وتناقضاتٍ إبّان حياتها الواقعية.
خلاصة القول؛ إنَّ المقالح في ديوانه الأخير كان مسكونًا بشعورٍ كبيرٍ باحتمال موته القادم، بالحدوث الوشيك للموت، الموت الأكثر واقعية من الحياة نفسها. لقد ظلَّ الموتُ مرافقًا للشاعر ومهيمنًا على إحساسه وقرينًا للغته الشعرية وصورها ونماذجها التعبيريّة والتشكيليّة. وهو مع ذلك يتّجه إلى موته الموعود ببسالةٍ وطمأنينةٍ ممزوجةٍ بخوفٍ وتحسّبٍ ووجل، وبحث دؤوب عن سبل متعددة ومتنوعة قد تكون كفيلة بالتخفيف من مأساويته، وحده صوته المفجع الذي يسمعه الشاعر يتردد في الأرجاء كلها بقسوة وهيمنة.
وهكذا يكون المقالح قد عاين موضوع الموت، وعاش موته، برؤيةٍ تنبض بالانفعال والتأمل، رؤية تنفذ إلى ما وراء الأشياء التي حوله متجاوزًا حدودَ الزمان والمكان اللذين يحيطان به، ليخلق عالَمه الشعريَّ الخاصَّ الذي يعيش لحظاته الأخيرة بين أحضانه.
ولأنَّ المقالحَ قد أعدَّ نفسَه للموت، واقتنع به بكونه حدثًا يشمل كلَّ الإنسانية؛ فمن غير المعقول أنَّه كان مضطربًا عندما رأى الشيء الذي كان يعدُّ نفسه له ويتوقعه، بل العكس هو الأصدق.