المقالح مقّدمًا البردوني

د.أميرة شايف الكولي
أكاديمية وناقدة يمنية.

لا أزعم في هذه الدراسة السريعة أنَّني أحصي كل ما كتبه المعاصر الراحل د.عبد العزيز المقالح من مقدمات، غير أنّي قد انتقيت عينةً منها لتكون نواةً تجريبيّة، وتطبيقيّة.
وقد اعتمدت ما وجدته مطبوعًا في بعض الإصدارات الجادّة في زمنها، التي تصف في رفوف مكتبتي الخاصة في منزلي الصغير.
وما التفاتي إلى فكرة كهذه ومراودتي لها إلا استشعارًا للوزن الأدبي والقيمة الخالدة في هذه المقدمات، فهي موسوعةٌ معرفيّةٌ ممتدة عبر عقود طويلة تقف على مفترق الأزمنة، ومختلف الأمكنة، ولربما تجاوزت في عددها المائتي مقدمة ، تنوعت بين مختلف الكتب والإصدارات الأدبية وغير الأدبية، واحتوت في طياتها مختلف الأجيال في اليمن وخارج اليمن.
وتشكل هذه المقدمات ثروة نقدية هائلة، ومن خلالها يمكن استشفاف صورة العمل الإبداعي والأديب الذي خرج عنه هذا العمل، وقد وقفت هذه القراءة على عينة من المقدمات لتكون –أنموذجًا- للزمان، والمكان، إضافة إلى الجيل.. علمًا أنَّها عينة انتقائية تمهيدًا لما يكون مستقبلًا من الفرز والتجميع..
ولعلّي قد حظيت ذات يوم بواحدة من هذه المقدمات ، وقد أثرى الحديث فيها عن التجربة القوية التي عشتها وإمكانية تحوّلها إلى طاقة تعبير لامتناهية خاصة لو تعالت عن الحزن العميق فيها، كما أشار إلى الموهبة العالية، والواعدة بالوصول إلى حيث تكون الإرادة القوية. ولم يغفل الحديث فيها عن الأمل، والمواساة الإنسانية المرمّمة للجرح الكبير الذي عشته في هذه الحياة، وطرح فيها إشادة بالقدرة على استعمال اللغة وتطويعها في معانٍ مبتكرة جديدة، وكان هذا الاهتمام باللغة هو الطريق الأسهل للوصول إلى عالم الشعر. ولا أنكر أنّني كلما قرأت هذه الكلمات أتجدّد، وينبثق الأمل داخلي فأعود من شيخوخة عميقة لأضع خطوتي التالية على عتبة أكثر نضجًا من سابقتها.
والملاحظ أنَّ مقدمات الدكتور المقالح في السبعينيات والثمانينيات قد اتسمت بالطول مقارنة بمقدماته في التسعينيات وما بعدها -خاصّةً – ما كان في عقود الألفية الثالثة. ولربما نعزو ذلك إلى القلة والكثرة في عدد الأدباء، فهم في السبعينيات والثمانينيات أقل منهم في التسعينيات وما بعدها، إضافة إلى أنّهم كانوا أكثر قربًا وصداقة له، ومن حقِّ الصداقةِ أن تنالَ نصيبًا أطول في التحليل، وكيف لا يكون اهتمامه كبيرًا بالأصدقاء وهو من وضع كتابًا كاملًا عنوّن له بـ(الأصدقاء) في حين امتاز عقد التسعينيات وما بعده بالكثرة، وجل الأدباء فيه كانوا من طلاب وتلاميذ المقالح، وقد ازداد عددهم بالمرور على عقود الألفية الثالثة إلى حين لحظة وفاته، لذلك فإنّ ازدياد أعداد الشباب كان يتوازى مع زيادة في الأعباء والأعمال والمسؤوليات، فكانت المقدّمات مقتضبة، مكثّفة موجزة، لم تتجاوز في أغلبها صفحتين، غير أنّها احتوت في تكثيفها على إشارات مهمّة، ودلالات بالغة، وكان أهم ملحوظاتها هو قدرة المقالح على مواكبة التغيرات الفكرية والفنية للأجيال المختلفة، إضافة إلى عرضه للتجارب المختلفة والمتجددة، وتأييد الشباب في نظرياتهم المغايرة للمألوف وتشجيعهم.
وكثيرًا ما عرّجت هذه المقدمات على قضايا الحداثة وما بعد الحداثة، إضافة إلى قضايا الكلاسيكيّة القديمة والحديثة، وقضايا –أخرى- كثيرة تنوّعت في اختصاصها بقضايا الشعر، والنثر والسرد وغيره. وفيها اختصارٌ لعقود طويلة من تاريخ هذه القضايا نشأةً وديمومةً واستقرارًا بدءًا من العصر الجاهلي إلى عصرنا اليوم؛ وهو العصر الذي غادر المقالح فيه هذه الحياة. وفي دراسة نقدية تحليلية ستهدف هذه الدراسة إلى استجلاء أهم القضايا النقدية في مقدمات المقالح الأدبيّة عبر أجيالٍ مختلفة، وفتراتٍ زمنية متباعدة، وقد اكتفت هذه الدراسة بتقييم المقالح للأعمال الشعرية للراحل البردوني الصادرة في العام 1979، وهو ما سأكتفي بقراءته في هذا الملف.
وعلى الرغم من أستاذيّة المقالح، وشهرته الأدبيّة الكبيرة فإنَّه يأبى إلا أنَّ يتواضع في مدرسة الشاعر الأكبر(البردوني)، لذلك هو يقدّم درسًا في التواضع، والتأدب مع العلم والثقافة، ففي سياق تقديمه لأعمال البردوني، وتحديدًا في المفتتح يقول: " هل تستطيع الساقية أن تقدِّم النهر؟ وهل يستطيع النهر أن يقدم البحر" .
أمَّا في خاتمتها فسيحاسب نفسه عن طريق السؤال، الأمر الذي يؤكّد شغفه بكتابة المزيد، واعترافه بأنَّ نصوص البردوني لا تزال تخفي الكثير المدهش والمبدع معًا، يقول: " هل وصلت الحصاة إلى قاع النهر؟ هل الدوائرُ الصغيرة التي تركتها الحصاة على صدر النهر كافيةً لقراءة ملامحه؟ هل سأتمكن يومًا من كتابة دراسة متقنة ومعمّقة عن هذا الشاعر الفذ؟ أرجو ذلك.." . وهو في موقفه هذا يجب أن يكون قدوة لغيره في أدب المثقف وتواضعه إضافة إلى الاحترام والشغف المعرفي.
وتحتوي المقدمة على سردٍ تعريفيٍّ بحياة الشاعر (البردوني)، معتمدًا في ذلك الخطاب المباشر أسلوبًا، الأمر الذي يصف أسلوبه بالبساطة، وهي البساطة التي تقود إلى وضوح المعنى دون إسفاف في اللغة، وهذا ما كان يتحدث عنه في الكثير من المقدمات يقول المقالح:"أيّها الصديق العزيز، لقد قرأت شعرك وأنا تلميذٌ في الابتدائية، وقرأته وأنا طالبٌ في الإعدادية، وقرأته وأنا مدرسٌ في الثانوية، وصار بيني وبينه ألفة العمر" . غير أنَّ المقالح يقرُّ بعمق البردوني، وأنَّ قراءة واحدة لا تكفي لسبر أغوار تجربته الأدبية الشعرية؛ لذلك فإنَّ الحديث عنها يتطلب تجرّدًا من كلِّ قرب، واقترابًا من صوت الذاكرة، يقول: "ومن هنا تصوّرت في فترة من الفترات أنّني أعرف الناس به، ثم اتضح لي وأنا أعيد قراءته من جديد أنَّ الأشياء التي نألفها لا نعرفها كما ينبغي. لذلك فقد ابتعدتُ عنه، اغتربت عن شعرك كما اغتربت عن الوطن لا لكي أعرفه أكثر، ولا لكي أحبه أكثر، ولكن لكي أستطيع أن أتحدث عنه بعيدًا عن عواطف الطفولة، وسلطان المألوف!! وكما كان البعد عن الوطن مثارًا للحنين، ومبعثًا للتولّه، فقد كان البعد عن شعر البردوني مثارًا للجدل مع النفس، ومجالًا لامتحان الذاكرة" .
وقد عرَّف المقالح بدواوين الشاعر مُرتّبةً وفقًا لسنة ظهورها، وأتبع بعض العناوين فيها بتعليقات متناسبة مع الأثر والمضمون معللًا ما ذكره عنها من ذلك ما قاله في ديوان(مدينة الغد)، فهو" ديوان من الشعر حبيب إلى نفسي، وقد يكون أحب دواوين شاعرنا البردوني إلى نفسه لأنَّه القمة أو الذروة التي وصل إليها الشاعر في رحلته مع الحرف المنغم، وقبلها كان يجاهد إلى الوصول نحو تلك الذروة" . ومدينة الغد هو ذروة الحلم المشترك والمتبادل بين الأدباء، والممتد عبر الأزمنة المختلفة.
وأشار إلى أنَّ قصائد هذا الحلم المشترك، أنقذت البردوني من الخروج عن الشعرية المجازية إلى فخاخ الخطابية المناشيريّة " وبعدها ظلَّ يراوح في مكانه، ولولا بعض قصائد تمسكه في الذروة، وتسكنه في مدينة الغد، لانحدرت به قصائد أخرى جاءت بعد ذلك خطابية أو مناشيريّة، كانت تستدعيها ظروف الوطن ويقتضيها/ وضع البلاد، وحينما أسمع من يهاجم هذا النوع من القصائد وفيهم الحريص على الفن والحريص على السيارة والقصر، أـذكرُ على الفور قول "بريخت" ( الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة...لأنَّه يعني الصمت على جرائم أشد هولًا). تلك هي الحقيقة الناصعة، فعندما يكون سيف الإرهاب مسلطًا على الرؤوس لا تنظر العيون إلى السماء حيث تتلألأ النجوم، وإنَّما تنظر إلى الأرض حيث السيف يوشك أن يسقط على الرقاب فيحزّها كما تحزّ السكين رقبة الخروف" .
وفي سياق هذه المقدمة يتحدث المقالح عن تجربة البردوني الشعرية، فما هي أبرز المحطات والقضايا التي توقف عليها المقالح، وجعلت من البردوني شاعرًا خالدًا ليس على المستوى المحليّ فقط، بل على المستويين العربي والعالمي.
ولعلَّ المقالح يشير إلى مسألة العنف الثوريّ والجرأة التي تميّز بها البردوني عن الكثيرين ممن عاصروه من الشعراء، فيقول: " أمَّا الكلمات التي تضمنتها هذه المقدمة، فلا تزيد عن كونها محاولة لكشف اللثام عن وجه شاعرٍ ثوريٍّ عنيفٍ في ثوريته، جريء في مواجهته" وهذه الجرأة هي التي ميّزت البردوني، وجعلت منه شاعرًا حقيقيًّا، أبعد ما يكون عن المجاملات، والتملق، والكذب، كما كان من شأن هذه الجرأة أن تعرض البردوني لأخطار كثيرة تبدأ بالمضايقات وتنتهي بالقتل.
وقد أشار إلى سمات القصيدة الإبداعيّة عند البردوني فقال: " شاعرٌ يمثّل الخصائص التي امتاز بها شعر اليمن المعاصر والمحافظ في الوقت نفسه على كيان القصيدة العربية كما أبدعتها عبقرية السلف، وكانت تجربته الإبداعية أكبر من كل الصيغ والأشكال". فشعر البردوني جامعٌ للمعاصرة والمحافظة على القديم، إلا أنَّه أبدع فتجاوز الاثنين معًا.
وقد عمد المقالح في مقدمته إلى عقد مقارنة جادة بين المبصر البردوني وبين طه حسين عميد الأدب العربي، الذي شابهه في فقد البصر، خرج منها إلى أنَّ البردوني استطاع القفز على الظروف والصعاب في بيئته، فأكمل تعليمه وصار موسوعة من العلوم والمعارف لا يقل شأنًا في ذلك عن غيره ممن توفرت لهم ظروفٌ أسهل في الحياة، يقول المقالح: "إيقاع الزمن هنا بطيء، القفز إلى أكثر مما يستطيع الضرير الشاب ابن البردون ضرب من المستحيل، لقد وصل – رغم أنف ليل التخلف_ إلى ما لم يصل إليه ملايين المبصرين في بلاده، معلوماته الدينية تزداد، خبرته في علوم العربية تتسع" ، مؤكّدًا أنّ ثقافته طوعت الشعرَ العصيَّ له " ثم هذا الشيء الذي يسمّى الشعر بدأ يلين له ويعطيه من بواكير فاكهته" ، وأنَّه تمكّن من الوصول إلى العظمة ليس في اليمن فقط؛ بل في الوطن العربي بأكمله.
وينظر المقالح إلى حقيقة الوجود الشعريّ في اليمن، إذ ليس كل من أمسك القلم بشاعر، وهم قلة، والموهوبون أقل منهم" إذا الشعراء في اليمن قلة، قلة قليلة، والموهوبون منهم أقل من القليل، وإذا كان التعليم في عهد الإمامة ظلَّ قاصرًا على علوم الدين واللغة، وكلها مما يساعد الشاعر الموهوب على الكتابة الشعرية؛ فإنَّ المدارس الآن والجامعة _حتى قسم اللغة العربية للأسف_ لا تعطي علوم اللغة ولا تعطي الشعر إلا أقل القليل، وهذا قد يجعل الشعر في مستقبل بلادنا عرضة للانقراض" .
وفي نقاشه لمشكلة الشعر في اليمن يرى أنّ الثقافة المجتمعيّة التي كانت تعتبر الشعر منقصةً في حق من يقترفه، إلى مقدمة محمد الشامي في ديوانه (لزوميات الشعر الجديد) بحديث تبيّن فيه رفض المجتمع للشعر واعتباره لغةً كاذبةً مخادعة، من خلال حوار الشامي مع هاشم المرتضى." هذا الحوار الذي لم أقتطف إلا جزءًا صغيرًا منه له أكثر من دلالة، فهو يكشف أنَّ الشعر قد كان محاصرًا دينيًّا، وكانت الأسر الشريفة تأباه لأنَّه قد أصبح إمَّا مدحًا أو قدحًا، تسوّلًا أو هجاءً، وهو أولًا وأخيرًا(كذب في كذب) فما الذي شجّع شاعرًا ضريرًا كالبردوني أن يخوض غماره، وأن يحترق في ناره؟" . غير أنَّ أصواتًا كثيرة لم تستسلم لهذه النظرة تجاه الشعر، وقد انطلق كثير منها يقدم الجميل المتجدد، والرائع المتمرد عن القديم من الشعر محدثة بذلك انقلابًا وانفصالاً عن الموروث، يقول: "أعتقد أن أصوات الزبيري والموشكي والإرياني والعزب كانت قد مهدت الطريق أمام جيل جديد من الشعراء، وفتحت للشعر بابًا تاريخيًّا جديدًا يتجاوز معه الشاعر أسبابَ التخلف، وتصبح الكلمةُ فيه وسيلةً للتعبير عما يجيش في صدور الملايين، وسلاحًا كفاحيًّا عن طريق الثورة وتحقيق أحلام الجماهير في العدل والحرية والمساواة.
ولا يخلو تقديمه البردوني من التطرق إلى تغيّر وسائل التعبير: "وقد تغيّرت وسائلُ التعبير في العصر الحديث وأصبح جانبٌ كبيرٌ من الشعر وسيلةً إلى الشعب بعد أن كان وسيلة إلى الحكام، لكنَّه في اليمن كان كتابةً بالأظافر وتمردًا بحدِّ السيف" .
كما يتطرق إلى موقف الشعراء: " الشعرُ إذن في بلادنا موقفٌ، موقفٌ وضع قواعده شعر الشهداء، هذا الشعر الذي أصبح ظاهرة فريدة متميزة في الشعر العربي المعاصر. القضية _إذن_ أصبحت واضحةً أمام جيل الشعراء الأصغر سنًا والأقل تجربة، التوق نحو المستقبل، والصمود في ساحة الحاضر، مواجهة الهول الأكبر، وتحدي المخلوقات المخوفة، وقد خرج البردوني الضرير عن المألوف، وفي صوت لا أقوى من روعته وبساطته" . وفي الحديث عن مطلب الجماهير اليمنية من الشعر، وحاجتهم إليه يتحدث المقالح عن القضية والموقف، فليس المطلوب من القصيدة وهي تقاوم الظلم وتكافح المستبد التأنق بالأساليب والصور أو الحداثة والتقليدية، إنَّما ما تمتلئ به من مواقف ومبادئ هو سمة الشعر اليمني إلى الحين الذي كُتبت فيه هذه المقدمة " ومنذ صار الأدب في اليمن موقفًا وقضية التقى الشعراء جميعًا في ساحة القضية، التقليديون منهم والمجددون، شعراء الفصحى وشعراء العامية " . ويشير إلى تباين المثقفين من الشعر قائلًا: " صحيح أنَّ صفوة مختارة من المثقفين قد بدأت تأخذ جانبًا في ساحة المتلقين، وبدأت ثقافيًّا تطلب نوعًا من الشعر، وأسلوبًا معينًا من التعبير، لكنَّ الساحة لا تزال تنتظر من يخاطب عواطفها، لا يهمّ أنَّ يكون الشعر عموديًا مقفى، موزونًا أو مرسلًا، المهم أن يكون مشحونًا بقضية، ومعبرًا عن موقف، وعامرًا بالمحتوى المهيج المثير، بعضهم يقول إنَّ هذا اللون من الشعر يخدر الجماهير ويسلبها القدرة على الفعل، ويلهيها عن واقعها لأنَّه ينتصر لها بالكلمات، ويعوض عن آلامها بالنغم، ولأنَّ بعض الأنظمة قد حذقت ذلك فهي تشجع مثل هذا الشعر ولا تعاقب عليه، قد يكون في مثل هذه الملاحظات قدرٌ من الصحة في أزمنة الاستقرار، أمَّا عندما كانت الكلمةُ قنبلةً، والبيتُ الشعري رصاصة،ً فلا شيء من الصحة في مثل تلك الأقوال" .
أمَّا عن قضية (الانفتاح) في كتابة الشعر والاستيراد من الثقافات المغايرة فهو يعرض إليها من خلال دعاة الانغلاق الذين سلّطوا أقلامهم على مهاجمة كلِّ من يفكّر في ثقافة الآخر، أو يقتبس منها يقول: " إنَّها تعلن كلَّ يوم محاكمتها للمصطلحات المستوردة كالكلاسيكية والرومانسية والسريالية وغيرها من المصطلحات المتداولة في الحقول الفنية والأدبية كمعايير نقدية تحدّد هُوية بعض الأعمال الأدبية، وقد بلغ الضيق بدعاة الانغلاق الإقليمي والفكري في قطر من أكبر الأقطار الإسلامية رقعةً وعددًا وإيمانًا أنَّ يُتّهم الدينُ الإسلامي بأنَّه مستوردٌ من الجزيرة العربية؛ ولولا (موضة ) الاستيراد ما حدث مثل هذا، ولما تجرأ شخصٌ حتى ولو كان في مثل الدكتور زكي نجيب محمود من الهمس بمثل هذه المقولة السخيفة" . ويشير إلى أنَّ دعاة الانغلاق يعودون بالشعر إلى قمقم يحبس القصيدة، ويجعل المستوى فيها هابطًا، فيتداولون هذا الهبوط، وينشرونه، ومواقفهم تدفع إلى ظهور الصراع بين القديم والجديد، ورغم هذا كلّه فإنَّ الشعر سيستمر في الانفتاح ليتمكن من مواكبة المتغيرات الثقافية المحيطة عربيًّا وعالميًّا، يقول المقالح: "وبما أنَّ الشعر وكل الأعمال الأدبية –بما فيها الدراسات النقدية_ لا تزدهر ولا تنفتح إلا في مُناخ من الحرية الكاملة، فإنّ هذه الصيحات التي تتنادى من جوانب الطريق معلنة العودة إلى القمقم، تعرقل مسار الإبداع كما تعرقل مسار الحركة النقدية، وتجعل للأشكال التقليديّة ومضمونها الهابط حق الانتشار والتداول. ولكن رغم كل المصاعب التي تواجه الحركة الأدبية، فإنَّها سائرة إلى الأمام بخطوات ثابتة، والمصطلحات الأدبية والفنية والنقدية شقّت طريقها إلى الحياة الأدبية العربية منذ وقتٍ مبكرٍ من هذا القرن، وأصبح مفهوم الكلاسيكية والرومانتيكية مثلًا واضح المدلول؛ فيكفي أن نصف شاعرًا بأنَّه كلاسيكي لتمثل المحافظة وتقليد القدماء...الخ" .
وقد تناول طرائق التجديد في شعر البردوني قائلًا: " وشاعرنا البردوني –رغم محافظته على الأسلوب البيتي في القصيدة وهو المعروف بالعمودي-شاعر مجدّد ليس في محتويات القصيدة فحسب، بل في بناء هذه القصائد القائم على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية، وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية، صحيح أنّ إيقاعه كلاسيكي محافظ، لكنّ صوره وتعابيره حديثة- تقفز في أكثر من قصيدة-وبخاصة في السنوات الأخيرة-إلى نوع من السريالية تصبح فيه الصورة أقرب ما تكون إلى ما يُسمّى باللامعقول" . ويشير إلى أن (البردوني) قد حاول في فترة من فترات حياته الشعرية اعتماد" نظام المقاطع المتعددة القوافي والموحدة البحر، وأحيانًا المتعددة أو المختلفة الأبحر، إلا أنَّه في الفترة الأخيرة اكتفى بالتحديد داخل القصيدة نفسها، التجديد في اللغة وفي الصورة وفي أسلوب الاستعارة والمجاز اللغوي، وبالرغم من أنَّ العالم الشعري بدأ ينهار من حولنا في شتى الأقطار وفي أرجاء المعمورة؛ إلا أنَّه عنده يبدو أصلب عودًا أو أكثر مواجهة للانهيار" .
كما أنَّ المقالح عرض في مقدمته إلى قضية (الدراما الشعرية) ويقصد بالدراما (الحوار) وهي متواجدة بقوّة في شعر البردوني تحديدًا دونًا عن غيره من الشعراء،" ولعل ما كان ينقص القصيدة العربية في معمارها الفنيّ التقليديّ هو قدرٌ حقيقي من الدرامية، وهذا ما توافر في شعر البردوني وفي دواوينه الأخيرة بصفة خاصة فلا تكاد تخلو قصيدة من الحوار المباشر وغير المباشر" .
ويتناول المقالح أسباب الجفاف في الشعر وما يترتب عليها من مشكلات، فالمقالح يعلل أسباب جفاف الشعر عند البردوني إلى رتابة الواقع: " ليس البردوني شاعرًا فحسب بل هو ناقدٌ أدبيٌّ وكاتبٌ اجتماعي، وتكاد الكتابة النقدية أو الدراسة الاجتماعية –في الأيام الأخيرة- تكونان صلته الوحيدة بالمتلقي بعد أن جفّ ضرع الشعر أو كاد، وهو جفافٌ مؤقتٌ يعود إلى رتابة الواقع، والرتابة بالنسبة للشاعر والشاعر السياسي بصفة خاصة تمثل العدو التقليدي؛ فتكرار الأشياء يعني تكرار الحديث عنها، والتكرار على أهميته يفقد الشعر بلاغة التعبير وسحر الأداء" . ولعلَّ البردوني في لحظات الجفاف الشعرية التي تعرض لها قد لجأ إلى كتابة النثر، وهو مجيدٌ شعرًا ونثرًا، و"النثرُ إذن هو المادة الطيّعة القادرة على تتبع الأحداث المتكرّرة، والدراسة الأدبية هي المجال الوحيد لاسترجاع أصداء أعمال الفنية وإعطائها طاقات جديدة وفعالية أجد، وقد أصدر شاعرنا-حتى الآن- كتابين نثريين، أحدهما دراسات تحليلية ونقدية لبعض قصائد الشعراء اليمنيين الأقدمين والمحدثين، وهو كتاب رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، والآخر دراسات اجتماعية وتاريخية سجّل فيها الشاعر انطباعاته الخاصة عن بعض القضايا اليمنية المعاصرة، واسم الكتاب(قضايا يمنية)"
تبقّى أن أشير إلى الاقتباس في هذه المقدمة، فالمقالح يقتبس المعلومة المعنية من كتبه، ويقوم بتوثيق ذلك، فهو يتعامل مع كتبه كما يتعامل مع كتب الآخرين على الرغم من أنَّه هو مصدر هذا الاقتباس "وفي كتابي (الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر الحر المعاصر في اليمن) قلت عنه: الشاعر عبد الله البردوني من الشعراء القليلين في اليمن، بل في الوطن العربي الذين لايزالون يحافظون على شرارة الشعر والفن في القصيدة العمودية، وهو من القراء المدمنين على الشعر الجديد، يفيد من صوره الجديدة ومن تحرّره في استخدام المفردات والتراكيب الشعريّة الحديثة، وقد اكتسب شعره على محافظته أهميّةً كبيرة في السنوات الأخيرة لمضامينه الجماهيريّة الواضحة" .


.لم نتمكن في هذه العجالة من إحصائها، على أمل العودة إلى ذلك- لاحقا-.
.حفني الدكتور بمقدمة لأعمالي الإبداعية في 2010م.
.مقدمة د. عبد العزيز المقالح، عبد الله البردوني، الأعمال الشعرية الكاملة،الهية العامة للكتاب، صنعاء، اليمن،ط1، 1423هـ، 2002م. ص31.
.نفسه: ص52.
.نفسه: ص31-32.
نفسه: ص 31-32.
نفسه: ص32.
.نفسه ص31-32.
.نفسه: ص52.
.نفسه: ص34.
.نفسه ص35.
نفسه ص36-37.
نفسه: ص38.
نفسه ص39.
نفسه:ص40.
نفسه: ص43.
نفسه: ص34.
نفسه ص44.
نفسه ص45.
نفسه: ص45.
نفسه:ص50.
نفسه:ص49.
نفسه:ص50-51.
نفسه :ص51.