المثقف والسلطة: تحوّلات العقد الأخير‏ بؤس المعرفة وهشاشة الإصلاح

فتح عبدالفتاح كساب

كاتب ومترجم أردني

fatehkassab@gmail.com

 

ساهَمَ حصرُ أصناف المثقفين باليسار واليمين في إقصاء مجموعات بحثيّة متخصِّصة ‏قادرة على التشخيص والتحليل وتقديم الحلول القابلة للتطبيق. وغدت الحالة الثقافية، ‏التي يُفترض أن تكون حالة صلبة، غير متجذِّرة وغير قادرة على الظهور كحالة ‏متميّزة مستقلة عن تأثيرات السلطة أو التجاذبات الأيديولوجية بحيث يكون لها ‏امتداداتها الجماهيريّة المحليّة أو العربيّة، كما أنها قائمة على ردود أفعال، وليس على ‏المبادرة لخلق الفعل على أيّ صعيد.‏

 

اعتاد الكُتّاب والقُرّاء كثيرًا على سماع تعبير "المثقف والسلطة"، أو قراءة ما يتم ‏إدراجه تحته من مختصرات أو مطوّلات، وتحوّلت هذه الأدبيات إلى حالة كتابية لا ‏تضيف شيئًا جديدًا غير مزيد من الشُّروح للمفهوم. وكأنَّ الشَّرح والإطناب يُدخل ‏القارئ أو المستمع في حالة من المعرفة الجديدة التي ستفتح له أبواب حلّ الإشكالية ‏التي لا نهاية لها. وقد أصبحت الكتابة في هذه الإشكالية -علاقة المثقف بالسلطة ‏ونظرة السلطة إلى المثقف- مطابقة للكتابة في القضايا التراثية، حيث أحاط الأوّلون ‏بكل شيء علمًا، واقتصر عمل المتأخرين على الشرح وشرح الشرح وأصبحنا ندور ‏في دوّامة لا تصف مشكلة ولا تضع حلولًا.‏

كما اعتاد الكتّاب –غالبًا- على تناول هذا المفهوم من باب النَّظر إلى المثقف على أنه ‏شخص كثير القراءة، واسع الحيلة لغويًا، قادر على التحليل وإيجاد المخارج له ولمن ‏يمثله بقدرات عجيبة ترقى للحالة السحرية. وكان يتمّ -في الغالب أيضًا- التركيز على ‏المثقف "المعارض أو اليساري" وعلاقته بالسلطة المُهيمنة دون تحديد واضح ‏لمفهومَيْ المعارضة واليسار. وبدا عدم التحديد عفويًّا أحيانًا ومتعمَّدًا في أحايين كثيرة. ‏أمّا مفهوم السلطة فانحصر في السلطة السياسية التي تمتلك أدوات القمع أو الغواية ‏التي تحدد أو تتحكم بمسارات "المثقف". وتمّ القفز عبر ذلك النمط من التفكير ‏المحصور بالسلطة السياسية عن سلطات أخرى مثل السلطة الاجتماعية والسلطة ‏الدينية والسلطة الاقتصادية، ودورها بالتحالف مع السلطة السياسية في قمع أو تهميش ‏أو إغواء المثقف. كما ساهم حصر أصناف المثقفين باليسار واليمين في إقصاء ‏مجموعات بحثية متخصصة قادرة على التشخيص والتحليل وتقديم الحلول القابلة ‏للتطبيق. ‏

نجد أنَّ الحال لا تختلف في الأردن عن بقية الجغرافيا العربية من حيث مآلات الثقافة ‏والمثقفين وخاصة بعد عام 2010. فالسلطة في الأردن لم تخرج عن المألوف في ‏تعاطيها مع "المثقف المُعارض" من حيث الوسائل التي تتّبعها عند تعاملها معه أو ‏احتكاكها به. وقد انحصرت تلك الوسائل بثلاث هي الترغيب أو الترهيب أو التهميش ‏كوسائل ذات فاعلية عالية من أجل منع وصول صوت أو حركة المثقف إلى الناس ‏للتأثير فيهم. وظهر ذلك جليًّا في فترة "الربيع العربي".‏

اختلف استخدام هذه الوسائل بحسب الشخصية المُراد التعاطي معها، فالترغيب كان ‏مع المثقفين ذوي القدرات اللغويّة العالية والسَّند العشائري البائن ممَّن انخرطوا في ‏الحراك السياسي، وكانوا ذوي قدرة على الصّياح ولفت الأنظار، وكان اللافت في ‏هؤلاء هو عدم طرحهم لأيّ مشروع سياسي أو ثقافي إصلاحي واضح المعالم، إضافة ‏إلى أنهم لم يُنتجوا أيّ مشروع ثقافي قبل انخراطهم في النشاط السياسي "المُعارض". ‏واقتصر نشاطهم على الصراخ والاستعراض اللغوي. ‏

أمّا الترهيب أو الاعتقال فكان لبعض المثقفين الذين ليس لهم وزن سياسي أو اجتماعي ‏ولا مطامع أو مطامح شخصية ولا يؤثر اعتقالهم أو محاكمتهم بموجب أي تهمة على ‏الاستقرار المجتمعي أو على حالة الركود العام. لكن هذه الفئة عانت من الافتقار لرؤية ‏تغييرية أو إصلاحية في المجال السياسي أو الثقافي. واقتصرت إنتاجاتهم الثقافية على ‏إصدار دواوين شعرية أو مجموعات قصصية أو روايات في مجتمع يُنظر فيه إلى ‏القراءة على أنها نشاط نخبوي ترفي.‏

لكنَّ المفاجئ في سلوك السلطة هو اللجوء إلى التهميش، حيث كشفت الحالة الثقافية ‏والسياسية في هذه الفترة الممتدة لعقد من الزمان أنَّ المثقف البعيد عن الأهواء ‏الشخصية والأضواء الإعلامية والذي يمتلك برنامجًا بديلًا عن برامج السلطة ‏والمؤسسات الحزبية التقليدية -على قلّة هؤلاء- هو مَن يتعرَّض إلى التهميش ولا تتم ‏ملاحقته أو تقديم الإغراءات له. وتكشَّفت الحالة أيضًا عن أنَّ "الناشطين" في حقلي ‏السياسة والثقافة عمومًا يميلون إلى الابتعاد عن هذا "الصنف" من المثقفين تحت ‏مبررات عديدة، منها أنه "حالم أو بعيد عن الواقع أو مثالي أو أنَّ الواقع أقوى ممّا ‏يطرح أو يرى". وبعبارة أخرى فإنَّ بعض المثقفين يمارسون التهميش أو الإقصاء ‏لمثقفين آخرين. ‏

إضافة إلى البؤس الإبداعي الثقافي، أتاح بعض المثقفين للسلطة استخدامهم لتمرير ‏أجندات سياسية داخلية أو خارجية تخدم مصالح السلطة، وغالبًا ما يتم هذا الاستخدام ‏بهدف إضعاف طرف أو جهة سياسية ما. وعند الانتهاء من هذا الاستخدام يعود ‏الطرف المُستَخدَم إلى حالة التهميش ويُعاد تقوية الطرف الآخر لإضعاف أو تشويه ‏الطرف الأول. والأمثلة كثيرة على هذا التوظيف مثل تقوية "اللبراليين" لإضعاف ‏‏"الإسلاميين" أو العكس، وقد ظهر ذلك بوضوح في فترات مختلفة في المدة الزمنية ‏التي نتحدَّث عنها. والغريب أنَّ الكثير من المثقفين واعون لهذا الاستخدام من قِبَل ‏السلطة، لكنهم يقبلون به مرارًا بحجة طرح مشاريعهم عبر إعلام السلطة أو العمل ‏على الإصلاح من الداخل! ‏

كلُّ ما ذُكر سالفًا قادَ "المثقفين" الأردنيين إلى صراعات تبدو جديّة وخطيرة، لكن عند ‏التعمُّق في تلك الصراعات نجد أنَّها خلافات لغويّة ذات طابع تفسيري أو تبريري أكثر ‏منها خلافات جديّة على مشاريع تغيير أو إصلاح قد تقود إلى حالة شعبيّة مُدرِكة ‏وواعية لِما تريد وتستطيع اختراق جدران السلطة الصلبة العصيّة على الاختراق، على ‏الرغم ممّا يظهر عليها من وهن وتصدُّع نتيجة تفشّي الفساد والاستفراد بـِ"صناعة ‏القرار" بعيدًا عن المشاركة الشعبيّة.‏

وقد ساهمت الأزمة السورية في مفاقمة حالة التنازع والفرقة بين مختلف المكوّنات ‏السياسية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني التي يقودها ظاهريًّا مجموعة من ‏المثقفين. وظهر ذلك جليًّا في الأحزاب والنقابات ورابطة الكتاب الأردنيين التي من ‏المفترض أن تكون الواجهة الفعليّة للثقافة والمثقفين في الأردن. كان للحالة الموصوفة ‏أعلاه آثار غير محمودة على المثقفين في الأردن، حيث انقسموا إلى ثلاث مجموعات ‏رئيسة مثَّلت ثلاثة محاور تقف خلف هذه المجموعات، وفق التجاذبات السياسية في ‏الإقليم.‏

اصطفَّت مجموعة من هؤلاء مع السلطة تحت مبررات مثل أنَّ المنطقة من حولنا ‏ملتهبة، وأنَّ أيّ مطالبة بالإصلاح أو التغيير قد تقود إلى حالة من الاحتراب الأهلي، ‏وقدَّموا مثالًا على ذلك في سورية والعراق- بحكم الجوار، أو أنَّ الحالة المسيطرة ‏شعبيًّا هي ذات طابع عشائري، وهي حالة بدائية لا تنتج حالة إصلاح حقيقي ودلّلوا ‏على ذلك بالحديث عن إفرازات الانتخابات النيابية والبلدية، لكنهم لم يتطرّقوا إلى دور ‏السلطة الفعلي في إيصال الناس إلى هذه الحالة "البدائية" من التفكير أو التمترس. ‏وبذلك فاقم هؤلاء من حالة التردي الثقافي لأنّ هذه الفئة قامت بتبنّي رؤية السلطة ‏السياسية "للمعرفة وتشكيلها" بما يتناسب ومصالح السلطة والمستفيدين من وجودها. ‏وأبعد من ذلك فقد ذهب بعضهم إلى تخوين مَن يدعو إلى طلب أيّ إصلاحات في ‏الوقت الراهن "لأنه لم يؤُنْ الأوان لذلك". وعبّر هؤلاء عن وجهات نظرهم في ‏محطات وصحف السلطة ومواقعها الإلكترونية التي فُتحت لهم دون غيرهم. واستند ‏خطابهم على التخويف والحرص على الاستقرار وأنّ المستقبل مجهول لا يُؤمَن ‏جانبه، وأنه ليس بالإمكان أحسن ممّا كان. ‏

واصطفَّت مجموعة أخرى من المثقفين خلف المحور الذي يرى أنَّ ما جرى في ‏سورية والعراق وليبيا عبارة عن مؤامرة تستهدف بقاء "الثقافة العربية" ومحاولة ‏إدماجها في المحور المعادي للأمة العربية وحرفها عن قضيتها المركزية وهي القضية ‏الفلسطينية. والغريب أنَّ هذه المجموعة أيضًا قامت بتخوين مَن طرح تساؤلات حول ‏دور الأنظمة في تلك الدول في إيصالها إلى ما وصلت إليه من قتل ودمار للعمران، ‏وتشويه لثقافة المواطنة البعيدة عن الهويات الفرعية، حتى لو آمن المتسائلون بسيناريو ‏المؤامرة، وكسابقيهم انحدرت لغتهم لمستوى السُباب والشّتم إذ أعيتهم الحيلة أو خانتهم ‏اللغة في "التعبير عن آرائهم". ‏

وظهرت مجموعة ثالثة اصطفَّت خلف مجموعات الإسلام السياسي والجهات الداعمة ‏لها عربيًّا أو غربيًّا. وكانت حجة هؤلاء أنَّ ما يجري –بنظرهم- كان فرصة لا ‏تعوَّض من أجل إحداث تغيير حقيقي، وإحداث هزّة سياسية تقود إلى مجتمع جديد ‏أساسه مستمَدّ من حالة ثقافية محلية مستندة إلى التراث والتاريخ الإسلامي. والعجيب ‏في المجموعة الثالثة أنها كانت حالة هجينة من مجموعات سياسية ذات توجُّه إسلامي ‏ووطني وقومي. وهذه الحالة الهجينة، إن صحَّت تسميتها بذلك، لم تتوحَّد بناء على ‏برنامج سياسي وثقافي إصلاحي واضح الملامح؛ ولكن على حالة من النِّكاية ‏السياسية. فالشق القومي الخاص بالبعث العربي/ الجناح العراقي استند على خطاب ‏شوفيني انتقائي انتقامًا لِما جرى مع القيادة السياسية العراقية السابقة، وحمّل مسؤولية ‏سقوطه للجانب الإيراني أو "الفارسي" كما يحلو له تسميته، كما استند الإسلاميون إلى ‏تحريض طائفي وأحيانًا تكفيري لِمَن يختلف معهم، واستند الوطنيون إلى التحيُّز ‏للسلطة على قاعدة "انصر سلطتك ظالمة أو مظلومة". أدّى كل ما ذُكر إلى مزيد من ‏الانتكاسات الثقافية نتيجة للاصطفاف خلف هويّات فرعيّة قسمت المجتمع أفقيًّا ‏وعموديًّا، وأعادت المنطقة عمومًا والأردن خصوصًا إلى حالة من التردّي الثقافي ‏والاجتماعي. ‏

قد يبدو ما تمَّ سَوْقه من سرد متجنِّيًا أو مُبالغًا فيه، لكن يُظهر ذلك بوضوح أنَّ الحالة ‏الثقافية التي يُفترض أن تكون حالة صلبة هي في الواقع غير متجذِّرة وغير قادرة ‏على الظهور كحالة متميزة مستقلة عن تأثيرات السلطة أو التجاذبات الأيديولوجية ‏بحيث يكون لها امتداداتها الجماهيرية المحلية أو العربية، كما أنها قائمة على ردود ‏أفعال، وليس على المبادرة لخلق الفعل على أيّ صعيد؛ سواء كان سياسيًّا أو اجتماعيًّا ‏أو غير ذلك من المجالات التي يظهر فيها أثر الحالة الثقافية النشطة القائمة على ‏تطوير المجتمعات. وممّا ينتج عن ذلك خلق الاصطفافات التي تقود إلى مزيد من ‏الجمود والتراجع. وقد باتت المؤسسات الممثلة للحالة الثقافية أبعد ما تكون عن ‏الانخراط في أيّ مشروع يدعو للتغيير أو الإصلاح سواء كان ذلك في الحالة السياسية ‏أو الاجتماعية أو الثقافية، وباتت الثقافة والمثقفون عالة على المجتمع ولا تنتج/ ‏ينتجون غير الجمود والتخلف ولكن بحلّة جديدة تتواءم مع مصالح القائمين على ‏المشهد العام، وظهر المثقف بأكثر حالات الهشاشة والمأساوية والبؤس المعرفي ‏وارتباطه بأنظمة أو أحزاب أكل الدهر عليها وشرب، ولم يكن صاحب قضيّة يدافع ‏عنها ويحاول الارتقاء بأطروحاته وتطويرها.‏

كما انتشرت حالاتُ "الارتزاق الثقافي"، وهي ظاهرة لم تقتصر على "المثقف ‏الأردني" فقط، حيث استُقطب بعض المثقفين للعمل أو الكتابة في دوريات أو مواقع ‏‏"ثقافية" عربية تفرض عليهم أجندات الدول التي ترعاها، وتحدِّد لهم المواضيع ‏والمواقف التي يمكنهم تبنّيها. ‏

لا أدَّعى حكمةً ولا قدرة عجيبة على تحديد الخلل بدقة والخروج بحلّ سحري لِما تمرُّ ‏به المنطقة عمومًا والأردن خصوصًا، لكن أرى أنه من الضروري طرح أسئلة مثل ‏إلى متى هذه الحالة؟ وما السبيل إلى الخروج منها؟ وهل في الأفق ما يدعو إلى ‏التفاؤل؟ ‏