رؤية الموت ودلالاتها في ديوان ''زراوند'' للشاعر زكريا محمد

سعيد بوعيطة

كاتب وناقد مغربي

bouaita10@gmail. com

 

 

‎ ‎تنطوي المجموعة الشعرية الجديدة "زراوند"، للشاعر الفلسطيني زكريا محمّد، الصادرة عن دار النّاشر في ‏رام الله (فلسطين) 2020، على خصائص شكليّة متميزة، جعلتها مختلفة عمّا هو مألوف في الكتابة الشعرية ‏العربية؛ ذلك أنَّ الملمح الأساسي البارز على صعيد الصَّنْعة "البرّانيّة" للديوان، ليس مجرَّد كسوة، بقدر ما ‏يشكل انعكاسًا لمختلف الصور الجوّانية للذات الشاعرة بكل تجلياتها وكينونتها وتعدُّد أحوالها ومقاماتها. ‏

 

عتبة النص

إنَّ أوَّل ملاحظة يسجِّلها قارئ هذا الديوان، غياب تسمية نصوصه وعنونتها. فقد جاءت جميع قصائد ‏الديوان دون عناوين. كما لا يحتوي على فهرس يشي بمحتوياته. هكذا، يجد القارئ نفسه في مواجهة ‏القصائد واحدة تلو الأخرى منذ الصفحة الأولى (ص:5) وصولًا إلى آخر الديوان (ص:260). لكن حين ‏يختار الشاعر التسمية/ العنوان، فإنه يسمّي الديوان دون أجزائه (قصائده). لهذا، فالعنوان الوحيد الذي يتركه ‏الشاعر هنا هو العنوان الرئيس ''زراوند''. ‏

يدلُّ هذا الأخير على تلك العشبة المعمِّرة التي تشبه الشِّعر في طبيعته المتحوّلة. عشبة معمّرة، ولها أكثر من ‏خمسمائة نوع. تُعرف بأكثر من اسم ذي دلالة شعريّة بالغة (غليون الهولندي، عنق الجمل، فقوس الغول، ‏قثاء الحية...إلخ). تنمو على أكمل وجه في تربة طينيّة ورمليّة. أليستْ تربة الشِّعر في أصلها تربة طينية، ‏لزجة، ورملية متحركة؟ إلا أنَّ اسم "زراوند" لا يرد في المجموعة كلها، إلا على الغلاف الأمامي. ممّا ‏يجعل من ''الزراوند'' ذلك الاسم الجامع. بحيث تتحوّل دلالة عنوان الديوان إلى ''كتاب الزراوند''. بمعنى ‏كتاب الولادة. تؤشِّر هذه الأخيرة على التجدُّد والاستمرارية في الحياة والكون. لكن التجدُّد/ الحياة عند زكريا ‏محمد وثيق الصلة بالموت. ‏

 

ديوان''زراوند''ودائريّة الكون‎ ‎

تتوالى قصائد الديوان كأنها أنفاس متوالية غير مستقطعة. قصائد عارية من كل شيء إلا من تاريخ كتابتها ‏المرقون في طرف الركن الأيسر للصفحة. ليشكل التاريخ عنوان القصيدة في علاقاتها مع الزمن النفسي ‏والوجودي للشاعر. كما تشكل تاريخ أنفاس الشاعر وعذاباته في لحظة التجلي (لحظة المخاض العسير). كأنَّ ‏الشاعر زكريا محمد يريد أن يقول: "لن أسمي قصائدي، فالتسمية موت وفناء. لأنَّ كل مسمّى (المعلوم ‏المعين) لا بد له في آخر المطاف من ميتة مفترضة مجازية كانت أم حقيقية. لذا أيها القارئ، سأترك لك ‏تواريخي، والتاريخ باقٍ". بيْد أن الشاعر لا يقدِّم تواريخه هذه وفق تسلسل زمني/ كرونولوجي. زمن الحدث ‏المتحقق وفق شرط وجوده. فقد كُتبت القصيدة الأولى عام 2018، والثانية في العام 2019، و الأخيرة عام ‏‏2018، وما قبلها في سنة 2013. وفق تسلسل قد يبدو للوهلة الأولى عشوائيًّا، لكن الشاعر جاء به عن ‏قصد. ليشكِّل خلطًا للفواصل الزمنية؛ فواصل لحظة الكتابة بعضها ببعض. حتى يغدو الزمن دورة حياة هذه ‏التواريخ/ القصائد، زمنًا دائريًا. لا أول له ولا آخر. يعيش في نفسه إلى الأبد. لهذا، فالنص الشعري عند ‏زكريا محمد، عبارة عن كون دائري لا يتوقف عن الحركة والدوران. شأنه في ذلك شأن حياة الإنسان. ‏فالكون كما يقول في القصيدة الأولى:‏‎ ‎

‏"أيتها الكذابة، سوف أكسر غصنك، سوف أكسر‎ ‎

‎ ‎المنبر الذي تعِظين فوقَه. الكون دائرة، وكل شيء‎ ‎

‎ ‎يسافر من نقطة على محيط الدائرة ثم يعود إليها"(ص:5). ‏

‏ تسافر قصائد الديوان على محيط الدائرة وحوافها ثم تعود إليها من جديد، لتشكل دائرية الكون في العوالم ‏الشعرية لديوان ''زراوند'' المشدودة إلى جدلية الحياة- الموت. ذلك أنَّ الحديث عن الموت، في مجال الإبداع ‏‏(فلسفةً وأدبًا)، هو أشبه ما يكون بالحديث عن الشمس، التي أشرقت، ثم غربت، فأشرقت في مكان آخر. ‏الموت غياب وحضور. غياب هنا، وحضور هناك. إنه، بعبارة أخرى، انتقال من الألفة إلى الغرابة ‏والاغتراب. والمرء المغترب يتجدّد بانتقاله إلى مكان غير مألوف. لأنه في هذه الحالة يستعير ثوبًا جديدًا ‏يجعله يبدو في منظر غير معهود على حدّ تعبير عبدالفتاح كليطو. لهذا، فإنَّ للاغتراب علاقة وطيدة ‏بالغياب/ الموت. مثلما أنَّ الألفة ترتبط ارتباطًا قويًا بالحضور/ الحياة. ‏

 

‏ دائريّة الكون ورمزيّة بنات نعش‎ ‎

هذا البعد الدائري للحياة/ الكون، جعل الشاعر زكريا محمد يوظف أسطورة بنات نعش من خلال عملية ‏تناصية. بنات نعش الدائرات في الأفلاك بشكل دائري ودون توقف. يقول في الصفحة 124: ‏

‏"وحين أموت ارفعوني إلى درب التبانة. ضعوني هناك‎ ‎

‏ في نعش (بنات نعش)، أريد أن أكون نديمًا للفرقدين‎ ‎

‏ أريد أن أكون قدحة صغيرة بين نجمتين‎ ‎

‏ لكن دعوني قبل ذلك أكتب مقطوعتين: مقطوعة‎ ‎

‏ للنهار، ومقطوعة لليل. مقطوعة للسيف ومقطوعة‎ ‎

‏ للضيف، فالشعر رحلة لا تنتهي". ‏

‎ ‎ويقول كذلك في الصفحة 140:‏‎ ‎

‏"اللعنة بنات نعش، موتهن يدمع عيني. ‏

‎ ‎وكلما ظننت أنني ميت هبَّت الريح وتنفست من أنفي‎ ‎

‎ ‎لا شيء يُعتدُّ به عندي، أصنع خريفًا من شظية مرآة، ‏

وألغي ربيعًا بضربة فرشاة. ‏

‏ قبضتي على عكازي، وقلبي يقفز بين الشوفان البري". ‏

‎ ‎وظّف الشاعر زكريا محمد أسطورة بنات نعش للدلالة على سرمدية الكون. وتعاقب الحياة والموت التي ‏تتقاطع في بعدها الدلالي مع دائرية الحياة/ الكون. ‏

 

‎ ‎ديوان''زراوند''، رؤيا الموت ودلالتها‎ ‎

‏ يؤكد "ألبير كامو" في أغلب تصوُّراته الوجودية على أنَّ النظرة الإبداعية، في إدراكها للموت، هي نظرة ‏إيجابية. تنظر إليه باعتباره وجودًا هناك. ولا تنظر إليه باعتباره شرًّا مخيفًا. لهذا سعى الشعر (الإبداع بشكل ‏عام) إلى التركيز على ذلك الوجود المضمر في الآنيّة، الـ(هنا) والـ(هناك). لأنّ إمكانيات الوجود تتجاوز ‏المتجلّي/ المادي. ولذلك أثث المبدعون أفضية عوالمهم هناك، قبل موتهم. ‏

يفتتح الشاعر زكريا محمّد "زراونده" بفقرة تكاد تكون عتبة الولوج إلى عالمه الشعريّ:‏‎ ‎

‏"فجأة ردّ لي الموت ما أخذه منّي. وقفَتْ عربته أمام‎ ‎

‏ بيتي، وأنزلَتْ كل شيء: أحبّتي الذين اختطفهم مني، ‏

‏ أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة. ‏

‎ ‎لم يعُد لديّ ما أبكيه. أستطيع الآن أن أضع نعلي تحت‎ ‎

‏ رأسي كي آخذ غفوةً طويلة"(ص:5). ‏

‏ يحضر الموت في هذه الافتتاحيّة على عكس ما جسّدته نصوص الشاعرة الأميركية "إيميلي ديكنسون" ‏‏(1830- 1886) التي هيمنت على قصائدها هواجس الموت ودلالاته. فعلى الرغم من حضور الموت عند ‏كل من الشاعرين، فإنه لا يأتي ليأخذ الشاعر زكريا محمد إلى العالم السفلي كما هو الشأن مع الشاعرة ‏‏"ديكنسون". لكنه يعيد إلى الشاعر كل شيء أخذه منه. هذه الإعادة التي تعمل على تجدُّد الحياة أو الأمل ‏بتنورته القصيرة إلى نقطة البدء (نقطة الخلق الأولى). فبعد أن يكمل الموت دورته المفترضة، يعيد الأشياء ‏إلى أصلها في هذا الكون الدائري. ذلك أنَّ الموت ذاته حصان يجري على محيط الدائرة الكونية. يحمل حمله ‏ثم يفسخه. يأخذ القتيل تم يردّه. يجري الموت في هذا المحيط (الكون) الذي يشكّل معادله الموضوعي ديوان ‏‏'زراوند'' الذي لا يكف كذلك عن الدوران حول نفسه. فلا نهاية للزمن/ الحياة. بل يحكمه تعاقب الحياة ‏والموت من خلال نوع من التناوب بين الإثبات/ الحياة والنفي/ الموت. يقول الشاعر:‏

‏"ردّت الفاختة ثانية: لا، لا، الموت حراث، يصيح‎ ‎

‏ ببغلته: دي... دي، ويشق ثلمه الطويل، ثلمه لا‎ ‎

‎ ‎يتوقف أبدًا، وبغلته لا ترتدّ"(ص:5). ‏

‎ ‎يتكرر هذا التناوب وتعاقب الأدوار في العديد من قصائد الديوان (الصفحات:5، 9، 10، 23، 34، 43، ‏‏61، 63، 93، 99، 104، 111، 116، 144، 210، 224، 233، 237، 254). يحضر الموت من ‏خلاله بقوة. إنه كسّار النوافذ كما يقول الشاعر، استدار رأس الرجل على كتفه، وأجاب:‏‎ ‎

‏"أنا الموت كسّار النوافذ، وأنت يا صغيري حصاني"(ص:9). ‏

‎ ‎إنها الطريق التي يمشي فيها الشاعر ثم يعود منها. لكنها الطريق التي سوف تفضي به إلى باب آخر للحياة. ‏لا يعرف عنه الموت شيئًا، ولا يستطيع أن يأتي منه. ذلك الباب الذي سوف يدخله الشاعر بعد أن تضرب ‏‏"نسرين" بمندفها الموت في داخله. ويضرب طائر الطنان بجناحيه ماضي الشاعر ومستقبله إلى حياة لن ‏يأتي إليها الموت قبل أن تتفتَّح زهرة الكتان(الصفحة:183). ولأنَّ الموت بعربته وبغلته حاضر بقوة في ‏محيط الدائرة (الديوان)، التي تتعاقب فيها فصول الحياة، فإنَّ الشاعر يمجِّد الطبيعة بمعجم زاخر بأسماء ‏الحيوانات والنباتات، والطيور... إلا أنَّ هذا التمجيد لا يحتفي بالطبيعة في حدّ ذاتها، بقدر ما يحتفي بقوتها ‏التدميرية التي تعادل الموت، فالموت هنا لا يعني العدم كما يشير شاكر النابلسي، لكن يعني التجدد والبداية. ‏أمّا الدلالة الجديدة للموت التي عبّر عنها الشاعر زكريا محمد، فتحمل معنى الخلود والديمومة والتجدد. ‏

‏ بهذه الرؤية الإبداعية، نحت الشاعر زكريا محمّد من بسيط الكلام جواهر فريدة. إنه لا يصف، لأنَّ الوصف ‏هو الظلّ. ولا يحكي، لأنَّ السكوت هو الأصل. بل يبني عوالم شعرية ذات أبعاد فلسفية، تقاطعت في بعض ‏جوانبها مع رؤية الشاعر محمود درويش التي جسّدت كذلك رؤية وجودية. ترى في الموت نقطة البدء نحو ‏الحياة/ الوجود. ممّا يجعل تجربة الشاعر زكريا محمد، من التجارب المتميزة التي تناولت دلالة الموت بعمق ‏فلسفي، ورؤية وجودية مختلفة. ‏