جذور البنيويّة ومآلاتها

د. سلطان الزغول

شاعر وناقد أردني

sultanzgool@gmail.com

 

 

في هذا المقال محاولة لإعطاء فكرة مكثّفة عن المنهج البنيوي، بفلسفته وأفكاره ‏الأساسية، خاصة في مجال النقد الأدبي، انطلاقًا من مفهوم البنية، فنشأة المذهب، ‏وصولًا إلى التفريق بين البنيوية الشكلانية والبنيوية التكوينية، ومن ثم عن انحسار ‏البنيوية، وأهم المآخذ والانتقادات التي وُجِّهت إليها على المستوى الأدبي.  ويرى كاتب ‏المقال أن هذا المنهج قد توهّج في قلب القرن العشرين، لكنه لم ينطفئ، وإن أنزلت رايته ‏لصالح نظريات أخرى لم تنقطع عنه في أيّ مرحلة من مراحل سيادتها.‏

 

 

يُعرِّفُ "لالاند" البنية بقوله: "هي كلٌّ مكوَّن من ظواهر متماسكة، يتوقف كلّ منها على ‏ما عداه، ولا يمكنه أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه"(1). فالبنية نظام أو نسق ‏يشمل صورة الشيء -التصميم الكلّي الذي يربط أجزاءه- والقانون الذي يفسر تكوين ‏الشيء ومعقوليّته(2). فإذا تساءلنا عن المضمون أجابنا "ليفي شتراوس": "إنّ البنية لا ‏تملك مضمونًا متمايزًا، وإنَّما هي نفسها المضمون مدركًا داخل تنظيم منطقي منظور ‏إليه باعتباره خاصيّة للواقع"(3).‏

ولا يختلف الباحثون على أنّ الأب الحقيقي للبنيوية هو العالم اللغوي "فرديناند دو ‏سيسير"(4)، فهو "أوَّل مَن فطن إلى أنّ اللغة نظام مغلق له قواعده الخاصة، وأنها ‏بالتالي نسق مستقل يتخذ منه أفراد اللسان الواحد وسيلة للتواصل"(5). وهذا ما دفع ‏‏"ليفي شتراوس" إلى أن يعدّ اللغة أصل البنية، ودفع البنيويين إلى القول: إنّ البنية ‏وُجدت عندما بدأ الإنسان في تكوين فكر، أي لغة. فالأصل عندهم هو اللغة التي تختفي ‏في اللاشعور، وعن طريق اللاشعور يتم تفسير الواقع الاجتماعي من خلال الرمز، ‏ومن مجموع الرموز يتكون النموذج، ومن مجموع النماذج تظهر البنية(6).‏

ولقد كان ظهور البنيوية ردّ فعل على الوجودية بعزلِها للإنسان عن واقعه ومحيطه، ‏وتغذيتها لمشاعر الإحباط والضياع والعبثية. فنادى البنيويون بالنظام الكلي المتكامل ‏والمتناسق الذي يوحِّد ويربط العلوم ببعضها بعضًا، وظهرت البنيوية منهجية شاملة ذات ‏إيحاءات أيديولوجية، تسعى لتفسير الظواهر الإنسانية كافة تفسيرًا علميًّا(7).‏

ومع البنيوية لم تعُد النظرة العلمية إلى العالم نظرة جزئيّة، تصل إلى معرفة الكل من ‏خلال الجزء. بل هي تمعُّن في العلاقة التي تسود بين الأجزاء وتحدّد النظام الذي تتبعه ‏هذه الأجزاء في ترابطها، والقوانين التي تنجم عن هذه العلاقة وتسهم في بنيتها في ‏الوقت نفسه. فكل بنية هي مجموعة علاقات تتبع نظامًا معيّنًا مخصوصًا. وهكذا تحوَّل ‏المنهج المعرفي من محاولة معرفة الشيء إلى كيفية ترابط أجزائه وعملها مجتمعة. ولم ‏يعد العالم معزولًا عن اللغة التي تصفه(8).‏

 

فلسفة البنيوية

يؤكد شتراوس "وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ. وهذا ‏النسق سابق على الأنظمة البشرية بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيًّا ومكانيًّا. أي أنّ ‏هذا النسق قبليّ"(9). لكنَّ البنيويين ينسون النشاط الإنساني الذي ولّد البنية، وهو ما ‏يقودهم إلى ميتافيزيقيا واقع البنى المتعالي -كما يرى "غارودي"- وهو واقع يسمّيه ‏‏"ريكور": كانتية دون ذات متعالية(10).‏

والذي يؤلِّف بين البنيويين هو "البحث عن علاقات كُلّية كامنة"(11). فها هو "رولان ‏بارت" يقول: "إنَّ البنيوية... نشاط يمضي إلى ما وراء الفلسفة، ويتألف من سلسلة ‏متوالية من العمليات العقلية التي تحاول إعادة بناء الموضوع لتكشف عن القواعد التي ‏تحكم وظيفته"(12).‏

يرفض البنيويون الفلسفات جميعًا، ويعلن "ميشيل فوكو" موت الفلسفة؛ لأنها نشاط ‏تأمُّلي يرتكز على أولوية الذات، كما أنهم يعلنون موت التاريخ؛ لأنه يستحيل إدراكه أو ‏الإمساك به على وجه الحقيقة. ويرون أنّ البديل عن دراسة التاريخ هو تحليل البنيات؛ ‏فهو وحده سبيلنا إلى البحث العلمي الحقيقي(13). فالبنية "هي القانون الذي يفسر تكوين ‏الشيء ومعقوليّته، إنها نسق من التحوُّلات له قوانينه الخاصة باعتباره نسقًا يتميّز بثلاث ‏خصائص: الكلية والتحوُّلات والتنظيم الذاتي. كل تحوُّل في أحد عناصر البنية يُحدث ‏تحوُّلًا في باقي العناصر الأخرى... مفهوم البنية هو مفهوم العلاقات الباطنة الثابتة التي ‏تقدم الكل على أجزائه، بحيث لا يُفهم هذا الجزء خارج الوضع الذي يشغله داخل ‏المنظومة الكلية"(14).‏

ومع بروز البنيوية احتلت البنية مكان الصدارة في مجالات معرفية متعددة: اللغويات ‏والنقد الأدبي وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا...(15). وكان البنيويون ‏يتوقعون اكتشاف نسق مغلق للمعرفة، وعندما عجزت الأبنية الخفيّة عن التكشف خضع ‏المنهج إلى عمليات تغيير وتحسين مستمرة(16)، حتى بدأ عصر ما بعد البنيوية. ‏

‏ ‏

البنيوية في النقد الأدبي

يقدِّم البنيويون منهجًا يهدف إلى الوصول بالعلوم الإنسانية إلى مستوى العلوم الطبيعية ‏والرياضية في دقتها وانضباطها. ويسعون إلى تحقيق معقولية كافية عن طريق تكوين ‏بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر ‏خارجية(17). وربما كان هذا التوجه من أهم الإغراءات التي دفعت كثيرين من نقاد ‏الأدب إلى سلوك طريق البنيوية، فالالتحاق بالعلوم الدقيقة حلم ظلَّ يراود العلوم ‏الإنسانية التي توصف عادة بالنسبية، والبنيوية تقدم أدوات كفيلة بمساعدتها على ‏الاقتراب من تحقيق هذا الحلم(18). ‏

إنّ العلاقة الحميمة بين البنية والظاهرة اللغوية غيرُ خافية، تلك الظاهرة التي وجدت في ‏الأدب مجالًا خصبًا للبحث اللغوي، من منطلق أنَّ الأدب –على الرغم من امتثاله لقوانين ‏تركيب اللغة التي يُصاغ بها- يتفرّد بخصائص كثيرًا ما تغيِّر معطيات هذا التركيب. ‏لذلك كانت علاقة البنيوية والأدب بمثابة ملتقى لروافد الحداثة: أخذت البنيوية من ‏اللسانيات، ثم اقتحمت اللسانيات حقل الأدب بفحص خصائصه النصّية واستكشاف ‏أسرار تبدُّل اللغة فيه من أداة إبلاغ إلى أداة فنية، فانبثق علم الأسلوب، وإذا بالأسلوبية ‏نشاط وسيط له قدم في اللغويات وأخرى في النقد الحديث. وما انفكّ المنهج البنيوي ‏يتغذى من هذه المجالات جميعًا حتى تزاوج مع علم العلامات، فكانت السيميائية جزءًا ‏لا يتجزأ من طرق عمل البنيوية(19).‏

والدراسة البنيوية هي تتبُّع ورصد علاقة الوحدة الأدبية المدروسة -سواء أكانت مفردة ‏أم إشارة أم جملة أم خطابًا فرديًا أم بناءً ثقافيًا أو مجتمعيًا- بالنظام الذي يحكمها ويجعلها ‏ذات دلالة. وأيّ دراسة تعنى بالعلاقة بين الأنظمة هي بالضرورة دراسة بنيوية، تقرِّر ‏النظرة التزامنية وتستبعد النظرة التاريخية(20).‏

سرعان ما أعلن البنيويون موت المؤلف، وهو موت مجازي يعني انفكاك النص عن ‏صاحبه. وسلطة النص التي أقامتها البنيوية، والتي أزاحت بها سلطة صاحب النصّ، ‏تعود إلى أنَّ الكلام يحكم عليه ساعة يحصل التقاطه، أمّا قبل ذلك فوجوده محصور في ‏ذات صاحبه، وهو وجود كغير الوجود(21).‏

لقد أصبح الأدب عبر مفاهيم البنيوية صيغة كتابية مؤسساتية تحكمها قوانين وشيفرات، ‏وهو مجموعة حِيَل ليست من صنع صاحبها، بل إنها تصنعه وتتحكم فيه. أمّا القارئ ‏فما هو إلا حرفيّ مدرّب على حلّ الشيفرات وتتبُّعها ورصدها. وبذلك غابت مفاهيم ‏الذاتية والوعي لدى المؤلف ولدى القارئ، وأزيحت مفاهيم الإبداع والتفرُّد والعبقرية ‏والتميُّز التي حكمت أدبيّة الأدب عصورًا طويلة(22).‏

وهذا ممّا دفع "سارتر" إلى القول: إنَّ البنيوية فلسفة مجتمع تكنوقراطي، لأنها تخضع ‏للأيديولوجية البرجوازية السائدة في مجتمع لا يطلب فيه من الإنسان إلا الانضباط ‏والدقة وترك التركيب الأساسي للمجتمع على ما هو عليه دون أدنى محاولة للتغيير(23).‏

‏ ‏

من البنيويّة الشكلانيّة إلى البنيويّة التكوينيّة (التوليديّة)‏

يدفع "ليفي شتراوس" تهمة الاهتمام بالشكليّة عن البنيويّة قائلًا: إنّ البنيوية اللغوية لم ‏تقتصر على الاهتمام بالسيميولوجيا -علم الدلالات- بل هي قد اهتمّت أيضًا بالسيمانطيقيا ‏‏-علم المدلولات(24). لكن النفاذ إلى مضمون النصّ يتمّ من خلال بنيته التركيبية بكلّ ‏مستوياتها اللغوية، إضافة إلى أنّ الشروع في تفكيك البنية اللغوية كثيرًا ما ينطلق من ‏إدراك أوليّ للمضمون، ثم تتحدّد كلّ مراحل المقاربة طبقًا لذلك الفهم المنشود(25)، ‏وبهذا تكون الأولوية المطلقة للبنية الشكلية، التي لا تهدف مقاربتها إلى التأويل بل كشف ‏الكيفية التي تعمل بها عناصرها حتى تخلق التأثير. كما أنّ "القيمة المعرفيّة في النظرية ‏البنيوية عمومًا قد تركّزت على ترتيب جديد لعلاقة الخاص بالعام: فالخاص هو تشكُّل ‏نوعي، ولكن بنيته الخفيّة لا بدّ أنها تنتمي إلى نسق يستوعب الفرديّ بمختلف تكشّفاته، ‏وهذا النسق هو الكلّي"(26). البحث إذن لا يخرج عن الشكل النسقي العام مهما تشكَّلت ‏عناصره الجزئيّة أو تحوَّلت. ‏

لكن بعض المفكرين الماركسيين أبوا إلا أن يوفِّقوا بين طروحات البنيوية في صيغتها ‏الشكلية، وأسس الفكر الماركسي في سبيل إنتاج البنيوية التكوينية. وقد كان أكثرهم ‏إسهامًا في ذلك "لوسيان غولدمان" الذي نبعت طروحاته من طروحات "جورج ‏لوكاش"، صاحب النظرية النقدية الماركسية المطوّرة، وأفادت من دراسات عالم النفس ‏‏"جان بياجيه" الذي أخذ عنه المصطلح(27).‏

وقد أخذ "غولدمان" على بنيوية "شتراوس" و"ألتوسير" أنها همّشت دور الإنسان في ‏صناعة التاريخ، أمّا بنيويته التكوينية فتقوم على بنى متحركة غير ثابتة ثبات بنيوية ‏‏"شتراوس" الأنثروبولوجية، أو "رومان ياكبسون" اللغوية، كما أنها تمنح السلوك ‏الإنسانيّ شخصيته التاريخية. وهو يقول: إنَّ الناس يصنعون البنى التي تمنح التاريخ ‏معنى، لكن كونهم كائنات اجتماعية يجعلهم محكومين لتقسيمات عقلية قبلية، تأخذ لديهم ‏هيئة رؤية للعالم لم يكن لهم دور في إيجادها. وهي رؤية محكومة بالفئة الاجتماعية التي ‏تنتمي إليها كل جماعة من الأفراد(28). وهنا يبرز أنّ علم الاجتماع لديه يقوم على ‏المادية الجدلية من خلال تراث "لوكاش"(29).‏

فإذا جاء "غولدمان" إلى العمل الأدبي وجد أنّ هذه الرؤية للعالم تكوين معرفيّ يتجاوز ‏الكاتب وإبداعه، وكلما ازدادت قدرات المبدع ازداد اقترابه من تلك الرؤية وصدق تمثيله ‏لها، حتى وإن لم يعِ ذلك. فهناك حتمية ماركسية تأخذ شكل البنية أو العلاقة الدينامية ‏بين عناصر العمل الأدبي، يمكن القول إنَّها تسكن لا وعي الكاتب. هذه البنية هي رؤية ‏العالم وقد تمثّلت في العمل الأدبي، أي تحوّلت إلى نسق من الرؤى والأفكار ‏المترابطة(30). فمنهج "غولدمان" يقوم على تشريح العمل الأدبي لاكتشاف الوعي ‏الكامن للمجموعة التي يمثلها هذا العمل، أو "رؤية العالم" المتمثلة فيه(31).‏

 

انحسار البنيويّة ومعارضتها

تربَّعت البنيوية على عرش الدراسات الأدبية منذ خمسينات القرن العشرين حتى انحسر ‏سطوعها مع نهايات سبعيناته، لكنّ تأثيراتها في النظريات النقدية لم تنقطع حتى الآن. ‏وفي حين ذهب كثير من النقاد إلى أنها مرحلة مضت وانقضت، فإنّ البنيوية لا تنفكّ ‏عمّا بعدها؛ فقد سمِّي الاتجاه اللاحق (ما بعد البنيوية)، ما يؤكد وجودها فيه بقوة حتى ‏على مستوى التسمية. كما أنّ كثيرًا من طروحاتها ما زالت حيّة تثبت جدْواها في النقد، ‏وإنْ عمل بنيويون سابقون، أو حتى معارضون على تطويرها(32).‏

لقد تأسّست ممارسة البنيوية النقدية مع "رولان بارت" و"رومان ياكبسون"، إلا أنّ ‏‏"بارت" رفض علمية البنيوية وكل محاولات التنظيم التي يمارسها البنيويون، كما تجنّب ‏التناول الاجتماعي الذي تضمّنه منهج البنيوية التكوينية، وذلك منذ عام 1971. أمّا ‏‏"دريدا" فقد وصمها بالاختزاليّة والتجريد والثبات الشكلاني، واتّهمها بالوقوع تحت ‏هيمنة ميتافيزيقيا التزامن الآني"(33). وقد تمركزت جميع الانتقادات للبنيوية حول ‏مقولة البنية وثباتها، ففكرة الكل الأسبق على أجزائه والمختلف عنها تؤدّي في نهاية ‏الأمر إلى فرض نزعة دكتاتورية، وإلى نفي كلّ اتجاه ديمقراطي(34).‏

ظهر ميل البنيويين إلى تحويل النسق شيئًا، أو كيانًا، وفصله عن الممارسة الإنسانية لدى ‏‏"ليفي شتراوس"، قبل أن يتضخّم لدى "ألتوسير" و"فوكو"، حتى غدا مفهوم البنية نقطة ‏البداية لفلسفة موت الإنسان، للفلسفة بلا ذات، وللحطّ من شأن المعنى السابق للتاريخ بعد ‏أن عُزلت البنى عنه، ومن ثمّ أغفلت قضايا التطوُّر التاريخي وعوامل هذا التطوُّر(35). ‏وبذلك فشلت البنيوية في معالجتها للظاهرة الزمانية(36).‏

واعتمد النقد البنيوي البحث في بنية النص الشاملة من خلال البنى الفرعيّة، أي ‏التركيبات الجزئيّة التي يقوم عليها النص، غير أنَّ هذا الأسلوب كثيرًا ما أدّى إلى ‏اقتطاع الجزء من الكل، ما بدّد صورة الشمول، وأحلّ محلّها خلايا متناثرة، وهو منزلق ‏منهجي أدّى ببعض البنيويين إلى تعميم الأحكام على الكلّ انطلاقًا من الجزء(37). أمّا ‏الإحصاء الذي يعتمده هذا المنهج فقد تحوّل إلى أداة شكليّة في كثير من الأحيان، وساهم ‏مع الرسوم البيانية والتشكيلات الهندسية، التي تملأ دراسات البنيويين، في النفور من ‏البنيوية وجداولها(38)، خاصة إذا ما أضيف إلى إهمال البنيوية للمعنى في معاداة ‏واضحة للنظرية التأويلية(39).‏

لكنّ البنيوية لا تختلف عن النقد الجديد في تعاملها مع النصّ على أنه مادة معزولة ‏منفصلة عن سياقها وعن الذات القارئة، فالنصّ ذو وحدة عضوية مستقلة(40). وبغضّ ‏النَّظر عن المآخذ الفلسفية والإجرائية، فإنّ كلّ نقد حداثيّ لا بدّ آخذٌ شيئًا من البنيوية، ‏فالبنيوية لم تمُت، بل هي تُبْعَث في ما بعد البنيوية وفي الأسلوبية والسيميائية وفي ‏مدارس الحداثة الأخرى، كما أنها تُبْعث –خاصة- في نقد ما بعد الحداثة. ‏

يمكن القول إنّ البنيوية التكوينية بامتداداتها الماركسية أحد أكثر المذاهب النقدية الغربية ‏انتشارًا بين النقاد العرب، وهو ما لم يتح للبنيوية الشكلانية. ومن أهم الممثلين للبنيوية ‏التكوينية بين العرب: محمد برادة، ومحمد بنيس، ويمنى العيد على اختلاف في التزام ‏كلّ واحد منهم بالمنهج. أمّا كمال أبوديب فهو من أوائل من طبّق البنيوية الشكلانية على ‏الشعر العربي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يمثل البنيوية في رؤيتها ومنهجها ‏قبل توليدية "غولدمان".‏

يقول أبوديب: مع البنيوية ومفاهيم الآنية والثنائيات الضدية والإصرار على أنّ العلاقات ‏بين العلامات لا العلامات نفسها هي التي تعني، أصبح محالًا أن نعاين الوجود كما كان ‏يعاينه الذين سبقوا البنيوية. بهذا التصوُّر يكون المشروع البنيوي -الذي يهدف إلى اكتناه ‏جدليّة الخفاء والتجلّي وأسرار البنية العميقة وتحوُّلاتها- طموحًا لا إلى فهم عدد محدَّد ‏من النصوص أو الظواهر، بل إلى تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان ‏والشعر، إلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية إلى فكر يترعرع في مناخ ‏الرؤية المعقدة الشمولية والجذرية؛ أي إلى فكر بنيوي لا يقنع بإدراك الظواهر المعزولة، ‏بل يطمح إلى تحديد المكونات الأساسية لها، ثم إلى اقتناص شبكة العلاقات التي تشعّ ‏منها وإليها، والدلالات التي تنبع من هذه العلاقات، ثم إلى البحث عن التحوُّلات ‏الجوهرية للبنية التي تنشأ عبرها تجسيدات جديدة لا يمكن أن تُفهم إلا عن طريق ربطها ‏بالبنية الأساسية وإعادتها إليها، من خلال وعي حاد لنمطي البنى: البنية السطحية والبنية ‏العميقة(41). ‏

وبعد، لقد حاولتُ أن أعطي فكرة وافية مكثّفة عن المنهج البنيوي، بفلسفته وأفكاره ‏الأساسية، خاصة في مجال النقد الأدبي، انطلاقًا من مفهوم البنية فنشأة المذهب، ‏وصولًا إلى التفريق بين البنيوية الشكلانية والبنيوية التكوينية، قبل الحديث عن انحسار ‏البنيوية، وفي الوقت نفسه تأثيرها في الاتجاهات اللاحقة، وأهم المآخذ التي تناول بها ‏المعارضون هذه الفلسفة التي فرّت من الفلسفة، والانتقادات التي وُجِّهت إلى البنيوية ‏على المستوى الأدبي. ولا بدّ من القول إنّ هذا المنهج قد توهّج في قلب القرن العشرين، ‏لكنه لم ينطفئ، وإن أنزلت رايته لصالح نظريات أخرى لم تنقطع عنه في أيّ مرحلة من ‏مراحل سيادتها.‏

 

 

الهوامش

‏(1) إبراهيم، زكريا: مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، مكتبة مصر، بلا تاريخ، 43.(2) نفسه:33. (3) نفسه: 43. (4) ‏نفسه: 47. وراجع: الرويلي، ميجان؛ وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار ‏البيضاء، ط4، 2005: 68. وراجع أيضا: كيزويل، اديث: عصر البنيوية، ت: جابر عصفور، آفاق عربية، بغداد، ‏‏1985: 244. (5) مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية: 57-58. (6) شعلان، ثائرة: البنيوية، مطبعة إخوان ‏مورافتلي، القاهرة، 1985: 20-21. (7) دليل الناقد الأدبي: 67. راجع أيضا: عصر البنيوية: 15. (8) دليل الناقد ‏الأدبي: 68. (9) البنيوية: 23. (10) نفسه: 24. (11) عصر البنيوية: 243. (12) نفسه: 244. (13) مشكلة ‏البنية أو أضواء على البنيوية: 160. (14) نفسه: 258. (15) البنيوية: 3. (16) عصر البنيوية: 245. (17) ‏البنيوية: 12. (18) المسدي، عبد السلام: قضية البنيوية، المطبعة العربية، تونس، 1991: 57. (19) نفسه: 60-‏‏61. (20) دليل الناقد الأدبي: 72-73. (21) قضية البنيوية: 63-64. راجع أيضا: دليل الناقد الأدبي: 241. ‏‏(22) دليل الناقد الأدبي: 74. (23) البنيوية: 53. (24) مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية: 43. (25) قضية ‏البنيوية: 33. (26) نفسه: 44. (27) دليل الناقد الأدبي: 76-77. (28) نفسه: 77-78. (29) عصر البنيوية: ‏‏203. (30)  دليل الناقد الأدبي: 78. (31) عصر البنيوية: 204. (32)  دليل الناقد الأدبي: 72- 74. وانظر ‏عصر البنيوية: 21. (33) البنيوية: 53. (34) البنيوية: 52- 53. (35) نفسه: 44- 50.  (36) دليل الناقد ‏الأدبي: 75. (37) قضية البنيوية: 76. (38) نفسه: 77- 80. (39) دليل الناقد الأدبي: 75. (40) نفسه: 75. ‏‏(41) أبو ديب، كمال: جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر، دار العلم للملايين، بيروت، 1979: ص ‏‏(7- 9).‏