الدَّرس الفلسفيّ في مدارس الأردن

د. زهير توفيق

كاتب وأكاديمي أردني

 

على الرّغم من الوعود والمُبادرات، والمشاريع التربويّة الرسميّة والفرديّة، التي تدّعي ‏الإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلّا أنَّ مسيرة الفلسفة وتدريسها في الأردن؛ في ‏المدرسة والجامعة، ظلّت في تراجُع مستمرّ، فكيف بدأت مسيرة تدريس الفلسفة في ‏المؤسسة التعليميّة وبخاصّة المدرسة؟ وكيف سارت؟ وإلى أين انتهى بها المطاف؟! ‏

بدايةً، علينا التَّنويه للقارئ بأنَّنا لسنا هنا بصدد التَّذكير بأهميّة الفلسفة، وضرورة ‏تدريسها لإثبات جدواها، والردّ بطريقة غير مباشرة على القائلين بمجانيّتها، أو ‏المناهضين لها تحت حجج مكشوفة لا تنطلي على أحد. إنَّ ما نودّ الكشف عنه، هو ‏واقع الفلسفة في المؤسسة التعليميّة وخاصة المدرسة قديمًا وحديثًا، وبيان الشروط ‏الاجتماعية والسياسية التي فَرَضَتْ على الفلسفة هذا الوضع أو ذاك. ‏

في الوقت الرّاهن، وباستثناء الجامعة الأردنية، لا يوجد تخصص فلسفة في الجامعات ‏الأردنية الحكومية والخاصة التي يربو عددها عن ثلاثين جامعة، حيث نشأ قسم ‏الفلسفة مع الأقسام الأخرى في كلية الآداب؛ نواة الجامعة الأردنية التي تأسست سنة ‏‏1962. وفي عقد السبعينات بدأت أزمة تدريس الفلسفة في المدرسة، حيث بدأ ‏التراجع والانتقال من سيّئ إلى أسوأ، فقد تصاعد تأثير التيار السلفي والإخوان ‏المسلمين، تحديدًا في الحياة السياسية والفكرية والتربوية في الأردن، فاستأثروا ‏بالمشهد العام، مستغلّين مناخ الأحكام العرفيّة التي ألغت المشاركة السياسية الشعبية في ‏اتخاذ القرار، وحظرت الأحزاب، وصادرت الحريات العامة منذ سنة 1957.‏

بقي التيار السلفي المؤثّر الوحيد في الفكر والتربية والسياسة، وهو الاتجاه الذي بقي ‏مواليًا ومتطابقًا مع سياسات السلطة في فترة الأحكام العرفية؛ حين حدَّدت (الحكومة) ‏عقيدتها إبان الحرب الباردة، بمكافحة قوى اليسار والاشتراكية والقومية، الأمر الذي ‏انعكس سلبًا على العقل والحرية والتفكير النقدي، التي هي -أصلًا- نواة الفلسفة ‏ووظيفتها، وعدوّ التيّار السلفي وخصمه!‏

فكيف تستقيم الأمور وتنسجم سلطة التيار الإخواني سليل التيار السلفي الفقهي التقليدي ‏في الحضارة العربية الإسلامية المناوئ للفلسفة والعقل، وهو المهيمن؟! وكيف تستقيم ‏سلطته بوجود الفلسفة ومعنى وجودها وتدريسها الذي يعني توطين العقل والحوار، ‏والتفكير النقدي والحرية، والسؤال وإعادة النظر بالبديهيات والمسلَّمات، ورفض ‏سياسات الأمر الواقع التي تفتقر لمسوّغات العقل والوجود والاستمرار! وهنا تطابقت ‏حاجات السلطة باستمرار فرض الأحكام العرفية، ومُصادرة العقل والنقد والحريات، ‏وملاحقة المعارضة والنقد خدمةً لتوجُّهات التيار السلفي الذي يتوجَّس خوفًا على ‏شعبيّته (وحضوره بلا منافس) من التفكير النقدي والتساؤل والفلسفة والعقل، فتمَّ ‏التواطؤ على إلغاء منهج تدريس الفلسفة في الصف الثالث الثانوي (التوجيهي)، وهو ‏الكتاب الذي أقرَّته وزارة التربية للتدريس سنة 1973، كأوَّل منهج وطني بالفلسفة ‏من تأليف كُتّاب أردنيين، وقام بمراجعة هذا  الكتاب الباحث الشاب –حينذاك- الأردني ‏فهمي جدعان، القادم حديثًا من السوربون، والذي أصبح لاحقًا من أهم المفكرين في ‏الوطن العربي في الفكر العربي المعاصر، وتمَّ إلغاء هذا الكتاب في السنة الدراسية ‏‏1976-1977، واختفى، حتى من متحف الكتب الأردني ولم يعُد له أثر. ‏

احتوى الكتاب على مبادئ الفلسفة وتاريخها الطويل، ونبذة عن الفلسفات في الشرق ‏والغرب وتضمَّن فهرس فصول الكتاب ما يلي:‏

الفصل الأول- مقدمة عامة في الفلسفة، 12 صفحة. ‏

الفصل الثاني- الفلسفة القديمة: الفكر الشرقي والفلسفة اليونانية، 27 صفحة. ‏

الفصل الثالث- الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، 14 صفحة. ‏

الفصل الرابع- علم الكلام والفلسفة في العالم الإسلامي، 10 صفحات. ‏

الفصل الخامس- الفرق الإسلامية، 13 صفحة. ‏

الفصل السادس- الفلاسفة المسلمون، 40 صفحة. ‏

الفصل السابع- أثر الفلسفة الإسلامية في الفكر الأوروبي، حركة التجديد في الفكر ‏الإسلامي في العصر الحديث، 24 صفحة. ‏

الفصل الثامن- الفلسفة الحديثة، 25 صفحة. ‏

كان هذا هو الكتاب الوطنيّ الأوَّل في منهج تدريس الفلسفة، الذي راعى قدرات ‏الطلاب وحاجاتهم المعرفية والوجدانية والسلوكية، وتمَّ برعاية وإشراف قسم المناهج ‏الأردنية، التي كانت على جانب كبير من الاحتراف والاستقلالية والمهنية والشعور ‏الوطني، أمّا ما دُرِّس قبله فكانت كتبًا مدرسيّة مستوردة من سوريا ولبنان؛ الكتاب ‏الأوَّل من تأليف تيسير شيخ الأرض، والثاني من تأليف أنيس مقدسي، وكانا كتابين ‏ضخمين، وعلى جانب كبير من الصرامة والصعوبة والثقل المعرفي، لكنَّها كتب ‏عكست أهميّة الفلسفة وضرورة وجودها وتدريسها في المدرسة. ‏

استمرَّ هذا الوضع حتى أواخر الثمانينات عندما عُقد مؤتمر التطوير التربوي 1987، ‏وأقرَّ مادة فرعيّة جديدة سمّيت "التربية الوطنية" في منهج الاجتماعيات إلى جانب ‏التاريخ والجغرافيا، وتضمَّن المنهج الجديد مواد ذات طابع وطني غايته أوَّلًا خلق ‏المواطن الصالح، الذي يتحلّى بالولاء والانتماء لبلده وعروبته ونظامه السياسي، ‏واحتوى المنهج على موضوعات فكرية متباينة المستوى والأهمية، منها التفكير الناقد ‏والإبداعي والمغالطات، والتسامح والديمقراطية وما شابه. ‏

ومع إلغاء منهج الفلسفة في المدرسة تمَّ التعرُّض لقسم الفلسفة بالإلغاء أو التجميد إبان ‏رئاسة إسحق الفرحان للجامعة الأردنية، فلم تفلح محاولة الإلغاء، وتمَّ تجميد القسم ‏وتحوَّل إلى قسم خدمات لتدريس متطلّب كلية الآداب بمادة "مبادئ الفلسفة والمنطق"، ‏واعتُمد كتاب "هنتر ميد" (الفلسفة أنواعها ومشكلاتها) ترجمة فؤاد زكريا 1969، ‏وبقيت الحال على ما هي عليه حتى تمَّت استعادة نشاط القسم على مستوى الدبلوم ‏العالي والماجستير، وأُتيح التسجيل فيهما لأيّ طالب يحمل شهادة البكالوريس، بغضّ ‏النظر عن التخصُّص، ثم فتح القسم المجال لمرحلة الدكتوراه وخرّج أوَّل طالب سنة ‏‏2010، وبعدها أعاد فتح أبوابه لمرحلة البكالوريس. ‏

وعلى الرغم من ذلك، لم تجد هذه التطوُّرات صدى عند صاحب القرار التربوي ‏لإعادة تدريس الفلسفة في المدرسة، وتمَّ الالتفاف على الموضوع بطرح مادة جديدة ‏للمرحلة الثانوية أواخر التسعينات باسم "ثقافة عامة" احتوت على مواد ومواضيع ‏فلسفية مهمّة وجادة؛ إلّا أنَّ غياب المعلمين المؤهَّلين والمختصين بالفلسفة فرّغ المادة ‏من مضمونها الاجتماعي، وأهميّتها التربوية، وخضعت المادة للتعديل المتواصل؛ أي ‏لتفريغها من محتواها الفلسفي والمنطقي ووظيفتها التحرُريّة والتقدميّة في المجتمع. ‏

واستجابةً للتغذية الراجعة من ميدان المدرّسين -الذين يدرِّسون المادة، والذين ليس لهم ‏علاقة بالفلسفة والمنطق- تمَّ حذف المواد الفخمة والأساسية من المنهج واستبدالها ‏بمواد اجتماعية سلوكية وتربوية في غاية البساطة والابتذال، وتمّت إعادة صياغتها ‏بروح سلفية صوفية بعيدًا عن العقلانية والعقل والتحرُّر من الماضي والانخراط ‏بالمستقبل، وظلَّ المنهج حقل تجارب للمشتغلين بالمناهج واتجاهاتهم السلفية والعدمية، ‏والتدخلات السياسية الليبرالية لتكييف المنهج والكتاب مع الواقع القائم، وقيم الامتثاليّة ‏والسوق. ‏

ثمّة أمثلة وشواهد على تدهور المادة المعرفيّة والفلسفيّة في الكتب التي حملت عنوان ‏‏"ثقافة عامة" وسارت من سيئ إلى أسوأ، وإليكم الدليل من خلال النماذج التالية على ‏مدى السنوات العشرين الماضية: ‏

الكتاب الأوَّل، وعنوانه "التربية الاجتماعية والوطنية"، الذي اعتُمد في وزارة ‏التربية بناء على قرار مجلس التربية والتعليم 39/98 تاريخ 15-7-1998 بدءًا من ‏العام الدراسي 1998/1999 للصف الأول ثانوي (أدبي، شرعي، تجاري). وللصف ‏الثاني ثانوي التوجيهي (علمي، صناعي، زراعي، تمريضي، اقتصاد منزلي، وفندقي) ‏وقُسِّم الكتاب (197صفحة) إلى قسمين متساويين؛ القسم الأوّل (100صفحة) وفيه ‏الوحدات الفلسفية التالية:‏

‏1-‏ نظرية المعرفة.‏

‏2-‏ علم المنطق.‏

‏3-‏ علم الأخلاق. ‏

أمّا القسم الثاني (90صفحة) فيتناول الوحدات التالية: ‏

‏4-‏ الهاشميون.‏

‏5-‏ الميثاق الوطني الأردني.‏

‏6-‏ الدولة.‏

‏7-‏ في السيرة الحضارية للأردن.‏

وعكست مواد الكتاب التغيُّرات السياسية والفكرية والتربوية التي مرَّ بها الأردن قبل ‏ذلك بعقد، مع الهبّة الشعبيّة في نيسان 1989، وارتفاع مستوى الحراك الشعبي، ‏ورفع الأحكام العرفية، وبداية الانفراج الديمقراطي وإنجاز الميثاق الوطني الأردني، ‏لكن للأسف، وكما قلتُ سابقًا، لم يكُن مستوى المعلِّمين الفكري المتواضع، وعدم ‏اختصاصهم في الفلسفة، والتغذية الراجعة من الميدان (من المعلمين والطلبة) إلى ‏المركز، كلها لم تكن مشجِّعة على الاستمرار، فتمَّ تعديل المنهج، وبدلًا من تأهيل ‏المعلمين تأهيلًا حقيقيًّا يتجاوز الدورات السريعة العقيمة، والتي لا تُجدي نفعًا ويقوم ‏بها أو يقدِّمها مشرفون لا يقلّون ضعفًا عن المعلمين أنفسهم. فتمَّ تعديل المنهج وطُرح ‏كتاب جديد بعنوان "الثقافة العلمية" للصف الأوَّل ثانوي للفروع العلمي والصناعي ‏والزراعي والتمريضي والفندقي والاقتصاد المنزلي، وكانت الوحدات والفصول ‏المطلوبة جميع فصول الكتاب ما عدا الفصل الرابع "الطاقة وتكنولوجيا الطاقة"، كما ‏تمَّ تدريس مادة "الثقافة العلمية" للصف الثاني ثانوي (التوجيهي) للفرع الأدبي ‏والشرعي والتجاري، باستثناء فصل الطاقة من الوحدة الثالثة. ‏

أمّا مواد الكتاب الفكريّة والفلسفيّة (60 صفحة) فهي:‏

الوحدة الأولى- التفكير المنطقي وغير المنطقي. ‏

الوحدة الثانية- طبيعة العلم. ‏

الوحدة الثالثة- (90 صفحة) تطبيقات تكنولوجية. ‏

وظلَّت المشكلة قائمة: تغذية راجعة تفيد بصعوبة المنهج! وشكوى متزايدة من المعلمين ‏والطلاب، ومع حدوث تراجُعات سياسيّة عن الديمقراطية، وصعود الليبرالية الجديدة ‏التي لا تُقيم وزنًا للفكر والثقافة ولا لكل ما يمتّ لهما بصلة -كالفلسفة والتاريخ والعلوم ‏الإنسانية بشكل عام التي بروحها النقدية والإنسانية تقف حجر عثرة في وجه تسليع ‏القيم والإنسان- تمَّ إلغاء الكتاب من أصله، وطُرح منهج وكتاب جديد بعنوان "الثقافة ‏العامة" (2001)، وظلَّ مدار تغيير وتجريب إلى أن استقرَّ الوضع عام 2004 ‏وقلِّصت المادة الفلسفية في الكتاب إلى وحدة واحدة فقط، ومثَّل الكتاب قمّة التراجع ‏والإرباك، وظلَّ مدار شكوى من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور، إلى أن تمَّ التخلّي ‏عنه عام 2018، واحتوى الكتاب على الوحدات التالية:‏

‏1-‏ الحقيقة والمعرفة.‏

‏2-‏ الأخلاق الإسلامية.‏

‏3-‏ الهاشميون.‏

‏4-‏ رسالة عمّان. ‏

‏5-‏ مخطوطات البحر الميت. ‏

‏6-‏ في السيرة الحضارية للأردن.‏

‏7-‏ أبرز مظاهر تاريخ العالم الحديث والمعاصر.‏

‏8-‏ الدولة الحديثة (الأردن نموذجًا). ‏

وعولجت موضوعات المعرفة والحقيقة في الوحدة الأولى بطريقة مربكة ومتناقضة ‏وبعيدة عن الموضوعيّة والتحليل العقلي، وهو الأمر الذي شوَّه المعرفة الفلسفية، ‏وخلَقَ اتجاهات وقيم وتوجُّهات سلوكيّة ومعرفيّة سلبيّة جدًا، ومُعادية وساخرة من ‏الفلسفة وتاريخها؛ فالعقل معرفة روحيّة (صفحة 20)، ومصادر المعرفة "الجسمية"! ‏ويقصد التجريبية والنفسية والروحية، ووضَعَ الوحي والإلهام والقلب والرؤيا والعقل ‏في مرتبة واحدة، ووضع ديكارت والشكّاك في سلّة واحدة، ناهيك عن الخلط بين ‏العلمانيّة والاتجاه العلمي، وتبخيس قيمة العلم والتكنولوجيا؛ "وعلى الرغم من النجاح ‏الهائل لهذه المنتجات (التقنيات ومنتجات العلم) لا يمكن القول إنَّ العلم الغربي الحديث ‏علم يقيني لأنه كما قلنا لم يكن مبنيًّا على مبادئ عليا للمعرفة وتقودها ليس حب الخير ‏للناس وحب المعرفة بسنن الله سبحانه وتعالى في الكون ولكن شركات ودول كبيرة ‏تهدف فقط إلى زيادة من المال والسلطة، ونظريّاتها قائمة على نتائج تجارب مبنيّة ‏على التجربة والخطأ"(ص37). وتسمية العلوم في الحضارة العربية الإسلامية "العلوم ‏الإسلامية" وكأنَّ الكتاب يتحدَّث عن العلوم الدينيّة التي انبثقت عن النص الخالد ‏‏"القرآن الكريم"، وبدلًا من اقتباس نص من مصدر علمي يتحدَّث في الغرب عن العلم ‏العربي ودوره في نهضة الغرب لم يجد المؤلفون إلا خطبة لوليّ عهد بريطانيا الأمير ‏تشارلز 1993!(ص34). وفي تحديد الخصائص جَعَل الكتاب الشيخ الرئيس ‏الفيلسوف "الدنيوي" -بلغة إدوارد سعيد- مجرَّد درويش ومسلم قدري. كما عالجت ‏المادة المعرفة والحقيقة بمنهج ديني صوفي متحيّز ومناهض للعقل، واستأثرت ‏الاقتباسات من آيات القرآن الكريم بمساحة واسعة جدًا من النص لا لسبب إلا لإضفاء ‏طابع صوفي سلفي على المادة.‏

لقد مثَّل التطرُّف والإرهاب، وصعود الإسلام السياسي، وعمليّات القاعدة، وتفجيرات ‏عمّان سنة 2005، وصعود "داعش" الخطير في سوريا والعراق، وهيمنتها على ‏أجزاء واسعة من أرض البلدين؛ مثلت تحدّيًا خطيرًا للأردن القائم "في عين ‏الإعصار"، وفرض هذا الوضع ضرورة التصدّي فكريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وفي ‏الجانب الفكري والثقافي والتربوي تمَّت التوصية -وبإجماع الآراء- على العودة إلى ‏تدريس الفلسفة، التي توفر للطالب مبادئ الحوار والتسامح، والاعتراف بالآخر، ‏والتعدديّة والتفكير النقدي، والعقل، والعقلانيّة كمرجعيّة وحيدة لتفسير الأشياء وتحقيق ‏التقدُّم، واكتشف الجميع الفوات الحضاري وكارثة غياب الفلسفة عن المؤسسة التعليمية ‏والتربوية. وفعلًا، لقد كان لغياب الفلسفة والمنطق أن غاب الحوار، وانتشرت مظاهر ‏العنف وعلاقات القوّة وتدنّي مستوى الذوق العام ومناهضة الفنون، والاغتراب، ‏واحتقار المرأة واللغة العربية، والازدواجيّة وتدنّي مستوى الأخلاق العمليّة، وتحوُّل ‏التنافس إلى صراع وهبوط مستوى النواب ومناقشاتهم إلى مستوى المهاترات والخطب ‏الرنانة. ‏

لم يكن في ذهن السلطة السياسية التي صادقت على إلغاء منهج الفلسفة قبل عقود، أنها ‏ستعود الآن إلى تدريسها لوقف تقدُّم التيّار السلفي وتفشّيه في المجتمع، خاصة وأنه قد ‏فقد وظيفته السياسية التي مارسها ووُظِّف من أجلها في محاربة اليسار والاشتراكية ‏إبان الحرب الباردة، فقد آن الأوان للتخلّي عنه، وفكّ التحالف معه! وهذا ما تمَّ فعلًا، ‏فلم يعُد هناك ما يهدّد النظام، لا الآن ولا مستقبلًا، ولم يعُد التيار السلفي قاعدة النظام ‏الأساسية، ولم يعُد اليسار خطرًا أو مشكلة بعد تهافته وتلاشيه، وبالتالي عكست التربية ‏والتعليم صعود واهتمامات الليبرالية الجديدة التي تعرف أهميّة حضور الفلسفة ‏والمهارات الفكرية العليا، التي تصاحبها –في الوقت نفسه-خطورة التنوير والعقل ‏النقدي عليها، ولهذا السبب، تقف على مسافة بعيدة من الفلسفة، وتنظر لها بعين الريبة ‏والتوجُّس، والتردُّد في استعادتها وتدريسها في المدارس. هذا من جهة، ومن جهة ‏أخرى، وعلى افتراض أنَّ الوزارة قرَّرت تدريس الفلسفة، فمَن سيدرِّس المادة، ‏ووزارة التربية أصلًا لا توظِّف خريجي بكالوريس فلسفة!! وهل سنعود بالتغدية ‏الراجعة من الميدان إلى المركز وإدارة المناهج إلى نقطة الصفر؟! ‏