قراءة في رواية "راكين" للدكتورة نهال عقيل

هاشم غرايبة

كاتب وروائي أردني

 

‏"راكين" ليست رواية خطيّة يتنامى فيها السَّرد من الحدث إلى العقدة ثم الحلول ‏المقترحة والخاتمة، بل تعتمد على سرد ينداح دوائر يتَّسع تموُّجها حدّ التَّلاشي، أو ‏تضيق دوائرها، ثم تلتحم وتنفصل، وتتجدَّد، وفقًا لتدفُّق ذاكرة الرّاوي "محمد"، حيث ‏يتدفَّق السَّرد مثل آلة تستقبل الزَّمن طازجًا وتُخرجه ماضيًا، تتحسَّس الواقع بتفاصيله ‏وتُعيد إنتاجه تاريخًا. "راكين" نمط جديد في الكتابة وسرد ما بعد حداثي تختلط فيه ‏السيرة بالتاريخ بالواقع، وتمتزج الحكاية التراثيّة بالنص الحديث.‏

 

في البدء كانت "راكين".‏

‏(أنظُر إلى الله في عليائه وأهمس: يا ربّ ما سرّ المطر؟! ما سرّ العشق؟ ما سرّ امرأة ‏ينحني القلبُ أمامها وينكسر؟! تساؤلاتٌ كثيرة تكبر في أعماقنا كلّما تقدّم بنا العمر. ‏عبرت الشارع تحت المطر، مدرسة قديمة هنا ربَّما من مائة عام وأكثر. آثارنا هنا منذ ‏آلاف السنين، أضرحة وكنائس وآبار وبيوت عتيقة وكهوف. للصخر حكمته العظيمة ‏في نقش الوجود).‏

‏(السماءُ الغائمة تجلب المطرَ والحزنَ. أين يستريح المتعبون من أنفسهم؟!).‏

المطرُ هنا طقسٌ للكتابة ومفتاح أحداثها.. ‏

‏(إنَّها تمطر الآن في حارة المسيحيّة، شارع الخضر، حارة الحباشنة، شارع ‏القلعة، دار دليوان المجالي، دوّار صلاح الدين، مواقف باصات قرى ‏البرارشة، والشهابية، القلعة والكنائس والمساجد. مطر في كل مكان يلامس ‏وجوهَ المارّة القليلين، أيقظ في ذاكرتي مشخص المجالي، والشيخ إبراهيم ‏وزوجته عليا الضمور وهي تصرخ: "النار ولا العار"، " المنيّة ولا الدنيّة". ‏حرقوا أبناءها والدَّخيل يختبئ في حماهم داخل الخيمة. قلبُ أمّ صامد وشفتان ‏تكوّرتا بزغرودة لا تنطفئ للأبد. كوميض البرق تنطفئ أمام عينيّ أشياء ‏وتضيء أخرى).‏

تتمتَّع هذه الرواية بفوضى الحياة واحتمالاتها.. كالمطر الذي يحضر ويغيب بحسب ‏اخضرار السَّرد أو جفاف الحلق وقسوة الأحداث ووجع النّوائب.‏

تبدأ الرِّواية بحادثة واقعيّة. حادثة دهس "أبو ساهر المعايطة" وريث مكتبة "خزانة ‏الجاحظ"، وتنتهي مع جائحة كورونا:‏

‏(جدّو تراك ع اللايف يا جدّو، كل الناس تشوفك وتسمع حسّك. حانت منّي التفاتة ‏نحوهم جميعًا وهم يتجمهرون متلهِّفين للنَّجاة من وباء اسمه الكورونا. همستُ لنفسي: ‏ترى هل يمكننا تخيُّل ما ستكون عليه الحياة لو التقينا بعد هذه المحنة؟!).‏

‏"راكين" ليست رواية خطيّة يتنامى فيها السَّرد من الحدث إلى العقدة ثم الحلول ‏المقترحة والخاتمة، بل تعتمد على سرد ينداح دوائر يتَّسع تموُّجها حدّ التَّلاشي أو ‏تضيق دوائرها، ثم تلتحم وتنفصل، وتتجدَّد؛ وفقًا لتدفُّق ذاكرة الرّاوي محمد "أو ‏الروائيّة نهال" حيث يتدفَّق السَّرد مثل آلة تستقبل الزَّمن طازجًا وتخرجه ماضيًا، ‏تتحسَّس الواقع بتفاصيله وتعيد إنتاجه تاريخًا.‏

‏"لاحظ (جورج لوكاتش) أنَّ الرِّوائي يشكِّل عالمه السَّردي من تفكيك الواقع وإعادة ‏بنائه المخيالي متَّكئًا على ما اختزنته الذاكرة من الماضي في محاولة لإضاءة ‏المستقبل..".‏

إنَّها رواية "الآن هنا"؛ الآن في زمن الكورونا والإرهاب والفساد.. وهنا في الأردن؛ ‏عمّان، راكين، المكتبة، المقهى، المنزل، الحقل، والـ"فيسبوك" أيضًا..‏

‏(امتلأ الشارع بالشَّتائم أغلقوه بالغضب. شاع الخبر كأنهُ نارٌ في الهشيم. رأيتُ وجهَ ‏خديجة جامدًا كأنه منحوت من صخر، تولول وتصيح: يا ميمتي يا معاذ، أحرقوه، ‏مجرمين مجرمين هذول مش بشر..).‏

‏(لكلِّ شيء مفتاح، تساءلتُ: ترى بماذا فكّر معاذ وهو في العاصفة عالقًا في ماء النهر ‏البارد ساعات طويلة؟! ما الذي خطر بباله؟! الحياة أم الموت؟!).‏

الرّغبة هي الحياة. أكتب لأرتاح. وأحسُّ بنفسي.. أحسُّ لا أكثر.. يقول الرّاوي ‏‏"محمد"- (الراوية نهال الكامنة في ظلِّ عائشة بثقافتها الشاملة): "لتفوح رائحة ‏الموسيقى"، ولتعرِّفنا على غويا وسلمان رشدي ويوسف زيدان ودستويفسكي ‏وشكسبير والسيدة جوديفا ومروان البطوش وابن الوردي وغوغان.. والهجيني (محمد ‏يرد الحمل لا مال)..‏

هكذا تحاول الذاكرة أنْ تذيبَ في مصهرها الخاص كل ما دبَّ على وجه التجربة في ‏الماضي وما في التجربة من فواعل، وتسجيل أبرزها أثرًا وأكثرها إثارة للعقل، ‏ووخزًا للذائقة. فتشكِّله فنًّا يجعل الزمن أخفّ وزنًا والمكان أكثر شفافيّة والإنسان ‏أجمل. في عالم يفتقر للمنطق واللُّطف.‏

‏(وحلفت بحياة كوفي عنان وعمر البشير وهيومن رايتس ورأس ترامب الذي يمتلئ ‏جنونا وخططًا جهنميّة، طمأنتها بأنني لم أنشر على الفيسبوك منذ مدة..).‏

ثمّة ترابط زمكاني يذكِّر بانحناء الزَّمن عند "أينشتاين"؛ كلّما تقدَّمتْ الرواية تتَّضح ‏صورة شخوصها وتترسَّخ الشخصيتان المركزيتان (محمد وعائشة) كمرجعيّة للمكان ‏والزمان، الأمر الذي جعل الرواية تنهج نهجًا سرديًّا يربط المكان بالإنسان، فيتشكَّل ‏الزمن وفقًا للمكان والحضور الإنساني فيه، ويتلوّنان بما تمنحه لهما العلاقات ‏الإنسانية من وهج.‏

في "راكين" تكتشف نهال انبعاج الزَّمن، فيختلط في الذهن الحاضر والماضي ‏والمستقبل كمفاهيم نسبيّة.. مثلًا: الوقت ينساب بطيئًا في قرية راكين. بينما الزَّمن يمرُّ ‏سريعًا في عمّان وبتسارع كبير في وسائل االتواصل الاجتماعي "الفيسبوك هنا". أليس ‏كذلك؟ ‏

الزمن -زمن الرواية- لا يسير بخط مستقيم. بل يسير وفق تدفُّقه عبر مصهر المخيال ‏الروائي. ها هي نهال تفتح ذاكرة عائشة "قطب الرِّواية المُشع". فتروي لبطل الرواية ‏وراويها الافتراضي "محمد" سيرتها:‏

‏(حياتي تنبع من أعماقي وحدي، وكأنني جئتُ الحياة وحملتُ عدّة الوحدة منذ الصغر، ‏كبرتُ بصحبة الأشياء الصامتة، الدمى والكتب والأوراق والأقلام والغناء والموسيٍقى ‏ونافذة تطّلُّ على الأشجار العالية والسَّحاب والكراسي وبوّابة واسعة وغروب الشمس ‏ومطر الشتاء، صنعتُ عرائسي الصغيرة من خرق بالية، خيَّطتُ لها أعين بلاستيكيّة ‏من أزرار ملوّنة. صحبتُ قطتي كثيرًا وكلبي والبطّة والخروف والأرنب وطائر ‏الحبش، طرتُ كالفراشة بين صديقاتي، أقيمُ معهنّ الدنيا وأقعدها، نمسك أيدي بعضنا ‏بعضًا ونردّد فتّحت الوردة، غمّضت الوردة. وأعود عند غياب الشمس أنتظر عودة ‏أمي وقلبي ممتلئ بالوحدة. كانت تغلق الدكان الكبير وحين تعود تنام من شدّة التعب. ‏حدَّثتني أحيانًا عن عمّان بيوتها القديمة سناسل الحجارة. عمّان مدينة المياه قديمًا، ‏امتلأ صحن المدينة بالبيوت، وبدأ رؤساء القبائل ينزحون ناحية الجبل، جبل عمّان. ‏مدينة الجبال السبعة والقصور والبنايات العالية والفنادق والشركات الكبيرة. حدّثتني ‏عائشة عن عربة بائع الكعك التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر).‏

ثم تتحدَّث عائشة "شعلة الحكاية وقطبها المتوهِّج" تتحدَّث عن "الندبة"/ "الصفعة" التي ‏تلقَّتها من أبيها ومعايير الذكورة المزدوجة.‏

نمط جديد في الكتابة وسرد ما بعد حداثي تختلط فيه السيرة بالتاريخ بالواقع، وتمتزج ‏الحكاية التراثيّة بالنص الحديث. أيضًا ثمة تقنيات تتعلق بتقنية الكولاج، الشذرات ‏النصيّة المنتقاة، تهجين النص، الكولاج الذي يعبر التجارب التوافقية، تزامن سرد ‏حدثين أو أكثر في أماكن مختلفة، التجاور بين الثقافات، الاختزال الزمني، الانتقال ‏السريع من حدث لآخر من حكاية لأخرى إلى حدّ التداخُل.‏

‏(زارني جدي ليلة أمس، جدّي الذي التقى الثوّار على محطة سكة القطرانة حاملًا ‏خزانة كتبه، تنقّل بين دمشق وبغداد، واستقرَّ في القدس، وقرب حائط البراق عام ‏‏1921 أسّس خزانة الجاحظ،... بالأمس رأيتُ جدّي في الحلم، كعادته يحمل بيده ‏اليمنى عصاه ويلفّ على ساعده عباءته. كان غاضبًا، وبّخني بشدّة وقال: ألستم رجالًا ‏كيف تُسرقون في وضح النهار؟ رأيتُ نفسي من فرط خوفي أركض في العتمة، ‏أركض.. قلبي في يدي، والبيوت الكثيرة التي سكنتها ترتجف في جيوبي، والشوارع ‏التي قطعتها مكتظّة بالغرباء، ما أكثر الغرباء هنا في عمّان!! كانوا يدفعونني بقوّة ‏بأيديهم وهم يقولون: اهرب اهرب بغنائمك الرّخيصة أيها المجنون).‏

أبواب متداخلة تقود إلى حكايات لا نهائيّة، مجازات تنساب بسلاسة، اشتباك بين ‏الواقع والمخيّلة لا نشعر به. اختلاف النسج بين صفحة وأخرى يزيد (المنسوجة- ‏النص) تماسكًا وجمالًا! والمثير في هذا النص أنَّنا كقرّاء، يمكننا إضافة حكايات أخرى ‏من تلك التي نخنزنها في أذهاننا لنضيفها إلى هذه المتاهة العاطفيّة التي لا مدخل إليها ‏ولا مخرج منها، بل هي رحلة دائريّة في صوت الحكّاء الذي لا يتوقف عن السرد.‏

ترمي نهال عقيل بحجارتها في المياه الرّاكدة، فتثير دوائر موج لا متناهية، تنساب ‏بسلاسة واشتباك مع الشِّعر والسينما والرَّسم وصفحات متباعدة من التاريخ والجغرافيا ‏والطبيعة الأردنية والثقافة الشعبية. ويتنقَّل بنا "محمد" السارد لابنه قاسم وزوجته ‏خديجة والصاحب "القرين" "المكتبجي" الغائب الحاضر.. كل هؤلاء يحضرون ‏متلفّعين بالشِّعر والموسيقى والرَّسم، فتتوالد النصوص داخل الحكاية المركزيّة (عائشة ‏ومحمد- كما قيس وليلى)، وتتعدَّد الأصوات والاستطرادات من الخاص إلى العام..‏

‏(القلعة، القلعة، هذا أنت وهذا السلاح. ثم صاح: عزّة شواربنا أسوار الكرك، مش ‏حجارها بس، سنطفئ عين الشيطان، الكلاب في القلعة يطلقون النار).‏

لغة شفافة ترفع العاميّة الكركيّة إلى فضاء البلاغة، وترق ناعمة وهي تتفاعل مع ‏لوحة جوديفا، ومقولات شكسبير وأشعار مروان بطوش.. ‏

وتتنوَّع خيوط النسيج الروائي؛ تنوُّع في الألوان، في الروائح، في المواصفات.. ‏وتتجلّى مهارة السارد/ الساردة في خلق التآلف في المختلف. وصهر التجربة الفردية ‏في بوتقة النسيج الاجتماعي الأردني. والوصف الخارجي يفتح مغاليق الداخل: النفس ‏البشرية وأسرارها. البيوت وخصوصياتها، الوطن وأوجاعه!!‏

نتجوَّل في الرِّواية مع تنهُّدات أبطالها وصخبهم الذي يعبِّر عن اضطراب الواقع من ‏حولنا، ونجد صدى زفراتنا وتنهُّداتنا في مواجهة الهزائم وقسوتها. ‏

مع نهال عقيل ومن خلال "راكين" الرِّواية والقرية والطفلة الواعدة؛ نعبُر إلى الوطن ‏والتاريخ والجغرافيا.. والمستقبل، لنتعلّم شيئًا عن الحب، والوطنيّة، ومعنى اللهاث في ‏عالم يعجّ بالمتناقضات. ‏

تعدَّدت مصطلحات الأسلوبيّة، ومفاهيمها، وآليات اشتغالها، ويعتبر الانزياحُ مِن أشهر ‏المفاهيم الحداثية التي تجلّت في هذه الرواية عبر الكلمات المفتاحيّة، ومن خلال ‏الانزياح في التغيُّر الدلالي للمواقف والتشبيهات، التقديم والتأخير لغويًّا وزمنيًّا، اختيار ‏اللفظ الملائم للمتكلم، المعنى الخفي غالبًا والظاهر أحيانًا، الانزياح الاستدلالي، إنَّها ‏رواية الانزياحات بامتياز؛ انزياح القيم والمفاهيم، انزياح الرمز والإشارة، انزياح ‏الدال والمدلول.. انزياح مفاهيم قارّة عن الزواج والنجاح والفشل والموت والحياة، ‏والعبور بنا نحن القرّاء إلى حقل الشغف بالمعرفة والتفاصيل التي تصنع الفرق، ‏وشغف التناصات مع إبداعات البشر قديمها وحديثها، بالفصحى البليغة وبالعاميّة ‏الكركيّة وإيقاعاتها. ‏

‏(أنت حبلى منذ أشهر طويلة، منظركِ مُغرٍ، وكأنَّ طفلكِ رجل انطوائي يدفن نفسه في ‏مكان ما حين تمشين، وخصوصًا حين تتصفَّحين كتابا أو تدّخنين. بحبّكي... ولم أنجب ‏ولدًا أنجبت راكين، بنت لا تعرف الانطواء أبدًا. الرسام يرسمني الآن، بورتريه بقلم ‏رصاص. شعور مدهش حقًّا، لم أجرِّبه من قبل).‏

‏"راكين" هي الماضي والمستقبل.‏

‏"راكين" رواية منسوجة بخيوط ملوَّنة، كل خيط جاءت به الرِّوائيّة نهال عقيل من ‏زمان ما ومن مكان ما، تمتح من عالم صغير بحجم الكرة الأرضيّة، وتنطلق من عالم ‏كبير بحجم راكين. فكانت رواية راكين التي نقحت فيها نهال عقيل من روحها ‏فصارت وطنًا، وصارت حكاية إنسانيّة، وصارت نصًّا مؤنسًا وممتعًا ومحرِّضًا في ‏آن معًا.‏