‏"الحريّة 313" ‏ الرِّواية الأخيرة للأديب الراحل عدنان كنفاني

عمر محمد جمعة

كاتب وناقد سوري

 

 

في روايته "الحريّة 313" الصادرة ضمن منشورات اتحاد الكتّاب العرب في سورية، ‏يثير الأديب الراحل عدنان كنفاني قضيّة تُعدُّ حتى اليوم من أخطر القضايا التي تواجه ‏الشعب الفلسطيني ووجوده، وتهدف إلى وقف تكاثره وتوالده والحدّ من القنبلة ‏الديمغرافيّة التي تقلق الصهاينة، ولاسيّما سكان الأراضي المحتلة الذين عجز الكيان ‏الغاصب عن كسر تجمُّعاتهم، وتذويب ثقافتهم ولغتهم وعاداتهم وتراثهم بكل وسائل ‏التَّرغيب والتَّرهيب.‏

ليس هناك تعبير أصدق وأدقّ ممّا قاله الأديب والإعلامي الفلسطيني الراحل بشار ‏إبراهيم عن تجربة الكاتب عدنان كنفاني، وذلك في تقديم كتابه "وتطير العصافير" ‏الصادر عن دار الطارق عام 2005: "يتجدَّد عدنان كنفاني مع كل قصة يكتبها، ‏تمامًا كنهر عامر بالصفاء تمسّد يده الأولى غرّة النبع، وتدحرج الأخرى كرة المصبّ ‏أمامه، ساعيًا إلى أفق لا ينتهي.. لا يعرف التكرار ولا يطاله الملل، منطلقًا في كل ‏لحظة.. مرَّة أخرى ومن جديد إلى ما لا يُدرك في حلم لا ينطفئ. إنه يبني علاقة ‏عميقة مع كل شخصية يلتقطها، تفرح.. فيرقصُ الحرفُ على حافة القلم وفسحة ‏الورق، وتغضب.. فيثور الدم النابض في العروق، تحزن.. فينثني أبو ناصر على ‏وجع أيّامه الماضية وأحلامه القادمة يصدّقها ويصادقها عن جد. الكتابة لديه صلاة ‏وابتهال، طقس وعبادة، انشغال الوجدان بدعوة المظلوم ورجاء المحروم، اتصال ‏الواقعي بالمتخيّل.. الحياتي بالحُلُمي، والفيزيائي بالميتافيزيائي".‏

مع توسُّع العمل الفدائي بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 وصلت ‏معلومات سريّة إلى رجال المقاومة إثر اختراق مخابراتي، أسفر عن تقرير سريّ ‏جدًا، يقول إنَّ شحنات تحت مسمّى "شحنات زراعيّة" وهي خطيرة (سماد زراعي ‏آزوتي) بمواصفات عالية الجودة على شكل مسحوق وحبيبات صغيرة معبّأة في ‏أكياس ستنقلها سفينة "الحرية 313" من ميناء هامبورغ إلى ميناء حيفا، وستحمل ‏السفينة أيضًا آخر صرعات الكيميائيين "الألمان والصهاينة" بإنتاج ما يُسمّى سماد ‏زراعي آزوتي سائل عالي التركيز لتحسين المردودات الزراعية. فيما يقول تقرير ‏المقاومة السري إنَّ هذا السائل، هو سائل شديد التأثير كالمخدر، يُحقن بالعضل، ‏فيشعر المحقون بارتخاء وخمول يبدأ من الرأس ثم بالغثيان، حيث تستقر الفيروسات ‏الغريبة في أعلى العمود الفقري، فيضعف عمل الجهاز العصبي شيئًا فشيئًا، وقد ‏تصابُ الأطراف بالارتعاش أو الشلل أحيانًا، يفقد الشخص القدرة على التركيز وتفتح ‏مغاليق دماغه، ويصبح انتزاع المعلومات منه أمرًا سهلًا، وقد يمضي وقت طويل قبل ‏حدوث الموت، يكون الشخص المحقون بالمصل خلال تلك الفترة بحالة عجز عصبي ‏كامل. ويهدف العدو من استخدام هذا المصل إلى انتزاع معلومات وقتل إرادة الصُّمود ‏عند الأسير المعتقل، والإبقاء على حياته إلى حين هيكلًا دون مضمون، ومن ثم ‏إمكانية تدجينه لخدمة مخططاتهم. والأكثر خطورة أنَّ المسحوق والحبيبات يحملان ‏مواد كيميائية إذا خُلطت مع ماء الشرب يمكن أن تؤدي إلى عقم كامل لدى الذكور ‏والإناث على حدّ سواء وخاصة بين الفلسطينيين الثابتين على أرضهم في الداخل.‏

في روايته "الحرية 313" الصادرة ضمن منشورات اتحاد الكتّاب العرب في سورية، ‏يثير الأديب الراحل عدنان كنفاني قضية تعدّ حتى اليوم من أخطر القضايا التي تواجه ‏الشعب الفلسطيني ووجوده، وتهدف إلى وقف تكاثره وتوالده والحدّ من القنبلة ‏الديمغرافية التي تقلق الصهاينة، ولاسيما سكان الأراضي المحتلة الذين عجز الكيان ‏الغاصب عن كسر تجمعاتهم، وتذويب ثقافتهم ولغتهم وعاداتهم وتراثهم بكل وسائل ‏الترغيب والترهيب. ‏

تجري أحداث الرواية في أغلبها الأعمّ على ظهر السفينة المسمّاة "الحرية 313" وهو ‏عنوان الرواية برمتها، كما أسلفنا، ذلك الاسم الذي جاء تخليدًا لذكرى كتيبة عسكرية ‏باسلة (الكتيبة 313) التي يقال إنَّ أفرادها قضوا جميعًا وهم يقاومون ببسالة هجمات ‏النازيين إبان الحرب العالمية الثانية على اليونان، حيث يتصدّى كلّ من الفدائيين ‏‏"رشيد" و"خلدون" للكشف عن محتوى هذه الشحنة في عمليّة بطوليّة معقدة، بعد ‏العبور من تركيا إلى بلغاريا فيوغسلافيا والنمسا، وصولًا إلى ألمانيا، والتنكُّر ‏بشخصيّتي شابين فرنسيين هما "برنار" و"بيير". ‏

في فصول الرواية الأربعة، فضلًا عن الخاتمة التي عنونها الكاتب بــ"آخر الأسفار.. ‏وماذا بعد"، سنتعرَّف إلى شخصية "ساري" ابن قرية أكراد "البقارة" التي هاجمتها ‏العصابات الصهيونية عام 1956 وحكاية والده "منصور" الذي مات محترقًا وهو ‏يحاول إنقاذ طفلة أصابت منزلها قذيفةٌ غادرة قبل أن تحمله الغربة والتهجير القسري ‏إلى بيروت فمرافئ العالم عاملًا على ظهر السفينة المذكورة باسم الشاب اليوناني ‏المتوفى "مارسيل نيكولوس". يستذكر دائمًا أحداث النكبة وما قبلها وما مرَّت به قرى ‏أكراد "البقارة" وأكراد "الغنامة" و"الزنغرية".. وسواها، وما كان يقوله أبوه عن حياة ‏المخيَّم: "المخيَّم يا بنيّ ليس الوطن ولن يكون، ما دامت رغبة الانتظار قائمة، وما ‏دامت الذاكرة مشرعة على مصراعيها".‏

ومن ثم شخصية "رشيد" ابن مدينة يافا وذكرياته في مخيَّم اليرموك وقصة حبه لابنة ‏عمته "بارعة" ومشاركته في المظاهرات الرافضة لانفصال الوحدة بين مصر ‏وسورية، ولقائه مع القائد "أبو الرائد" الذي أوكل له مهمّة المشاركة بعمليّة سفينة ‏الحرية 313. ‏

على أنَّ ما يلفت الانتباه في شخصية "رشيد"، التي نزعمُ أنَّ الراحل عدنان كنفاني ‏حمّلها كثيرًا من ملامحه، هو وعيه المتقدّم وفهمه العميق لأساليب المقاومة ودفاعه ‏عنها، ولاسيما بمواجهة أسئلة أبيه والسجالات اليوميّة بينهما، يقول "أبو رشيد" ساخرًا ‏وهو الرافض لانتساب ابنه للتنظيم: "تنظيمات نظرية بعيدة عن الممارسة والتطبيق، ‏شعارات طنّانة فارغة من أيّ مضمون، كلها تسعى إلى السلطة والكراسي.. أفكارهم ‏مستوردة لا يمكن أن تتماشى مع ظروفنا ولا مع ديننا". ويستدرك الوالد بعد كل ‏مناقشة حادة: "كل هذه السنوات ونحن في الشتات، هل يمكنك أن تفهمني ما الخطوة ‏التي خطوناها إلى الأمام؟".‏

غير أنَّ هذا الاختلاف بين الجيلين ما كان ليضعفَ حلم "رشيد" بالتحرير والعودة، ‏وهو الذي حمل اسم فلسطين في حياته كلها، بجمالها وبهائها، تسرَّبت كلمة كلمة ‏وحرفًا حرفًا، واستقرَّت في قاع ضميره، ردّدتها أغنيات موشومة بدموع أمِّه وآهات ‏جدّته، وتلك التجاعيد التي حفرها معول الزمن في وجنات جدّه. يقول "رشيد": ‏‏"فلسطين أيتها الحقيقة المغروزة في خلاياي، حتى في لحظة الموت، لحظةَ يضمّ ‏الماضي إليه كلّ الخيوط التي تربطه بهلام الحياة، تتدفق فلسطين وصيّة خالدة صارت ‏نسجًا في طقوس الموت نفسه.. عندما تعودون احملوا عظامنا إلى هناك..".‏

كلمات تُعلّق على بوّابات المقابر في مخيّمات الشتات الفلسطيني، في كل قبر نسخة ‏من تلك الوصية، إنه الإيمان المطلق بذلك اليوم الآتي، وصيّة تناقلوها وهم في النّزع ‏الأخير.. "عندما تعودون انقلوا رفاتنا إلى فلسطين".‏

أمّا "خلدون" فهو ابن مدينة الكرمل التي خرج منها عام 1948 إلى القنيطرة ‏السورية، وبعد اختفاء والده الذي كان يعمل في بلدة "البطيحة" عام 1967 انتقل ‏للعيش مع أسرته إلى منطقة "الهامة" إحدى ضواحي دمشق التي ستتعرَّض لقصف ‏صهيوني جوّي عام 1970 وتموت الأسرة كلها إثر هذا القصف حين كان يدرس هو ‏في ألمانيا الغربية. "خلدون" الذي سيحمّله الراحل عدنان كنفاني أيضًا فلسفته في فهم ‏دور الفن والأدب، إذ يقول على لسان "معين" أستاذ اللغة العربية في مدارس ‏‏"الأونروا": "إنَّ على الفنون أن تصوِّر حجم الأحزان لتشدّ في ضمائر الناس الصمود ‏والإصرار والاستمرار، وعلى الأدب أن يقاتل بالكلمات، يرسم أطرًا للملاحم، ويُلهب ‏الضمائر يستشهد بقصائد تنزف وجعًا".‏

تلك الشخصيّات ستختصر في النهاية، وبعد أن ينجح الفدائيّان في الكشف عن ‏المحتوى الحقيقي للشحنة المنقولة من هامبورغ إلى حيفا على ظهر "الحرية 313"، ‏مآلات الإنسان الفلسطيني في التراجيديا المستمرة في جراحها المثخنة حتى اليوم، ‏فـ"رشيد" يستشهد في حرب 1982 بعد أن كان يستعد للزواج من "بارعة"، فيما ‏‏"خلدون" يخرج بعد فك الحصار عن بيروت في رحلة وجع أخرى مع المقاتلين ‏المغادرين إلى تونس، وبينهما "ساري" الذي عاد إلى مخيّم اليرموك ليتزوّج وينجب ‏أربعة أبناء هم على التوالي: "منصور"، و"خلدون"، و"رشيد"، وأختهم الصغرى ‏‏"حريّة". ومع اجتياح المخيّم من قبل الجماعات المسلحة في عام 2013 وعمليات ‏القتل والنهب والتدمير والتهجير التي مارستها، لا أحد يعرف ماذا حلّ بـ"ساري" ‏وأسرته، والذي لم يتبقَّ من آثاره سوى شهادة السرتفيكا القديمة، وصورة بدت بالية ‏لرجل قاسي الملامح، وخريطة كبيرة لفلسطين الجغرافية كاملة غير منقوصة، تحمل ‏أسماء مدنها وقراها وتضاريسها، وتحتها صورة أخرى صغيرة لسفينة عملاقة ‏‏(الحرية 313)، يبدو أنها ما زالت تمخر عباب المحيطات حتى الآن.‏

بقي أنْ نذكر أنَّ رواية "الحرية 313" هي آخر إصدار للأديب الراحل عدنان كنفاني، ‏بعد رواياته: "بِدّو"، "رابعة"، "الجثة ودائرة الرمل"، إضافة إلى عدد من المجموعات ‏القصصيّة.‏