قراءة في "إرث الدم" ‏ للكاتب حسين نشوان

د. دلال عنبتاوي

كاتبة وناقدة أردنية

 

تقوم فكرة كتاب "إرث الدم" على الصراع القائم في الحياة والوجود بين الضحيّة والجلّاد، ‏ويؤكد المؤلف أنَّ الوقائع والتاريخ والشواهد تمنحنا الدلائل على أنَّ العلاقة بين الجلاد ‏والضحيّة هي علاقة تشابك وتماثل واتِّصال، وليست قطع وانفصال، وهي علاقة ظليّة بين ‏التابع والمتبوع، وكما أنَّ السيد لا يستطيع التخلّي عن رفاهِه بطرد العبد، فإنَّ الأخير يقرُّ في ‏نفسه أنه لا يستطيع العيش دون سيِّد.‏

 

عتبة العنوان

إنَّ فكرةَ الإرث فكرةٌ جدليّةٌ محيِّرة بعض الشيء؛ فجذور التَّعامل معها يُحيل إلى دلالات ‏هذه اللفظة دينيًّا، إذْ عادةً ما يكون هناك وارث وموروث لشيء مادي. وقد وردت هذه ‏اللفظة في الكثير من اشتقاقاتها في اللغة، وظهرت في كثير من تمثُّلاتها في القرآن الكريم. ‏وكلمة إرث في أصلها اللغويّ مصدر ورث في لغة العرب ولسانهم، قال ابن فارس في ‏معجم "مقاييس اللغة": "الواو والراء والثاء: كلمة واحدة هي الورث، والميراث أصله الواو ‏‏(موراث) وهو أن يصير الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب". ‏

إذن، هناك مادة تنتقل بين طرفين، لكن اللافت هنا أنَّ الإرث كان "الدم" الذي ارتبط به ‏عنوان الكتاب. إنَّ توظيف كلمة "الدم" في النص وغيره غالبًا ما يتمّ لأهميَّتها ولحضورها ‏في الحياة المعيشة ولأبعادها اللغويّة والعلميّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلأنَّها ترتبط ‏بالمادة الأساسيّة المكوِّنة للحياة، فهي تشكِّل في وجودها الدّعامة الرَّئيسة لحياة الكائن الحيّ.‏

إرث االدم: العلاقة المُلتبسة بين الجلّاد والضحيّة

قامت فكرة هذا الكتاب على الصراع القائم في الحياة والوجود أصلًا بين الضحيّة والجلّاد، ‏وبين (المحتل/ المستعمِر/ المسيطِر) و(المستعمَرالمسيطَر عليه)، أو -كما جاء في مقدمة ‏الكتاب- بين "غالب ومغلوب تشكّلا انطلاقًا من الحياة والزمن، حتّى اتّخذا شكلًا في ‏الحضور واللغة من الصَّعب تجاوزه، يقفان على مربّع واحد وضمن بقعةٍ جغرافيّةٍ محدّدة، ‏ومساحة وزمن واحد، مُحاط بكثير من الخوف والرّهبة والمصير المجهول لكليهما". ‏واستطاع الكاتب أن يعبِّر عن المنتصر والمهزوم في أدقّ تمثُّلات وجودهما في هذه الحياة ‏عبر قناة قويّة لسائلٍ ذي لون أحمر مميَّز هو "الدم".‏

تتجلى الثيمة الرئيسة في كتاب نشوان "إرث الدم" عبر توضيح تلك العلاقة بين الضحيّة ‏والجلّاد وأشكال وجودها، وقد يبدو للوهلة الأولى وكأنَّ الكاتب لا ينتصر لطرف من ‏الطرفين، خاصة في بحثِه حول تمثُّلات العلاقة من زاوية الجلّاد، لكنه (الكاتب) وبوعي ‏منه انحاز إلى الوقوف مع المهزوم والمستعمَر (بفتح العين) وهو المغلوب، مقابل المستعمِر ‏‏(بكسر العين) وهو الغالب، وقد سعى نشوان إلى طرح أشكال وتمثُّلات كل من الغالب ‏والمغلوب عبر عناوين موحية معبِّرة:‏

‏"في البَدء كان المنفى"، "الاجتماع وفكرةُ السُّلطة"، "تبادُليّة الخطاب"، "ولادة الجلَّاد ‏والضحيّة في الأسطورة"، "الصديق العدوّ"، "مجتمعاتُ ما بعد الاستعمار"، "سرديّة الموت/ ‏الخلود"، "احتلال اللّغة/ العقل"، "الصدمةُ والخوف"، "الخروج من نمطيّة الصورة"، ‏‏"قهريّات الحداثة"، "الثنائيّات الزائفة"، "الضحيّة تحرّر الجلَّاد".‏

‏ سارت هذه العناوين بشكل متوازٍ وسلس، وسَعَتْ للوصول إلى خاتمة تفضي للوصول إلى ‏نتيجة والتي غالبًا ما تكون على صعيد الواقع محسومة لصالح مَن ينتصر ويصير غالبًا ‏فيها، وفي الوقت ذاته يتوارى المغلوب فيها منزويًا مكسورًا؛ ففي العتبة التي اقترنت بالرقم ‏‏(1) يبيِّن نشوان أنَّ فكرة العلاقة بين الجلاد والضحية في أساسها كانت تقوم على نوع من ‏العلاقة الضديّة/ الانتهاكيّة التي تُخضِع جسد الضحيّة وعقله لسيطرتها بتفكيك سيادته على ‏نفسه وسلب إرادته. ‏

وتأخذنا العتبة التي حملت رقم (‏‎2‎‏) إلى الحديث عن الظواهر التي بقيت غامضة في ‏العلاقات الإنسانية، والتي من أهمها تلك الرغبة في النفس البشرية بامتلاك القوة/ السلطة ‏للسيطرة على الآخر وتجريده من ذاتيّته وتحويله إلى تابع، وقد كشف الكاتب في هذه العتبة ‏أنَّ الفن والأدب رصدا ضمن حقولهما المختلفة في الرِّواية والشعر والمسرح والسينما ‏صورًا متنوِّعة لتلك العلاقة الغامضة، التي تمنح الأشياء والشخصيات والمواقف قيمًا ‏مختلفة ومتناقضة. ‏

ينتقل الكاتب إلى الحديث عن متلازمة الأضداد التي يعدّها أمرًا يثير التساؤلات والاهتمام، ‏ولعلَّ أهم تلك الأسئلة تتمركز حول: هل يمكن للأضداد أن تجتمع وتتآلف مع بعضها ‏بعضًا؟ وقد سعى للبحث عن الإجابة من خلال عرض توصيف الباحثين لتلك العلاقة بين ‏الضحية والجلاد، وجاءت بعدد من الأوصاف منها "متلازمة الأضداد" و"متلازمة ‏ستوكهولم"، وكلها تشير إلى تعاطف الضحيّة مع الجلّاد، وأنَّ الضحية والجلاد يطوِّران ‏سلوكهما لتكريس نمط لحماية الحياة التي أسّست للعلاقة بينهما وشروطها. ‏

في الباب المُعنوَن "في البدء كان المنفى" يشير الكاتب إلى قصة آدم وحواء، وأنَّ بدايتهما ‏كانت بالنَّفي الذي يتحوَّل فيما بعد إلى اختيار للحياة، ويؤكد أنه ليس من المصادفة أنْ تقومَ ‏أولى الحكايات الإنسانية؛ قصة آدم وحواء، على فكرة الإغواء/ الخطيئة، ثم الطرد/ المنفى/ ‏المعرفة/ الولادة/ الحياة/ الموت، وكذلك قصة الهبوط إلى الأرض، ومن ثم المرور بالكثير ‏من المحطات وصولًا الى الفناء الذي يطال الجلاد والضحية معًا في النهاية. ‏

وحول "الاجتماع وفكرة السلطة" وتجليات حضور الضحية والجلاد، فإنَّ الكاتب يبحث في ‏موضوع الثنائيات التي يتجلّى ويتمظهر فيها حضور الضحية والجلاد في الطبيعة ومملكة ‏الحيوان والنبات، ومفارقاتهما التي لا تخلو من الالتباس والتعقيد، فيبيِّن أنَّ فكرة السلطة ‏والقتل والاغتصاب بحضورها تعبِّر عن الخوف كشعور أوّلي للدفاع عن الذات، وأنَّ العنف ‏هو حالة فرديّة قبل أن يتحوَّل إلى منظومة ثقافيّة ورمزيّات كرنفاليّة، ويرى الكاتب أنَّ لا ‏شيء يُعلي من الشعور بالسلطة أكثر من خوف الخاضعين وشعورهم بالذُّعر. ‏

أمّا في حديثه عن "تبادليّة الخطاب"، فإنَّ الكاتب يرى أنَّ النص في الغالب يتكئ على فكرة ‏التبادليّة التي يقصد بها ظهور الخطاب بتعبيره الواضح والسافر والفاضح عن تلك العلاقة ‏التي ربطت بين الضحية والجلاد، وأوجدت لغة سريّة خفيّة تعبِّر عن تبادل وتواصل ما، ‏وتشابهات تعمِّق الغموض والالتباس للمُتابع، وتتجلّى في السلوك واللغة والرمزيات. وفي ‏باب "ولادة الجلاد والضحية في الأسطورة" يشير نشوان إلى الصلة القويّة بين الأسطورة ‏والتاريخ والأدب، وأنها كانت تحتِّم ضرورة الاستفادة من المادة الأسطورية كمصدر للمادة ‏التاريخية، وهو يؤكد أنَّ الأسطورة في الأساس جاءت تعبيرًا أدبيًّا عن أنشطة الإنسان القديم ‏الذي لم يكن قد طوَّر بعد أسلوبًا للكتابة التاريخية، ولأنَّ الأدب والفن موازيان للأسطورة، ‏فقد بقيا مخلصين لروحها لأنَّها مثَّلت بالنسبة لهما لحظة ذهنيّة إبداعيّة عبَّرت بشكل مكثَّف ‏ومختلط عن علاقة الإنسان مع محيطه الخارجي. ‏

تحت عنوان "الصديق العدو" يكشف الكاتب أنَّ العلاقة بين الأفراد في البنية المجتمعية غالبًا ‏ما تتأرجح بين إطارين هما القبول والرفض، والحب والكراهية. ويؤكد هنا أنَّ الوقائع ‏والتاريخ والشواهد تمنحنا الدلائل على أنَّ العلاقة بين الجلاد والضحيّة هي علاقة تشابك ‏وتماثل واتِّصال وليست قطع وانفصال حسب، وإنَّما هي علاقة ظليّة بين التابع والمتبوع، ‏وكما أنَّ السيد لا يستطيع التخلّي عن رفاهِه بطرد العبد، فإنَّ الأخير يقرّ في نفسه أنه لا ‏يستطيع العيش دون سيِّد، لذا نجد الكاتب يقول تحت عنوان "مجتمعات ما بعد الاستعمار":  ‏لم يكن الاستعمار مجرَّد احتلال لأرض خاوية، بل مؤسسة تقوم على السيطرة على المكان ‏والإنسان وتطوِّع الإنسان لخدمة مصالحها انطلاقًا من إعادة إنتاج الكائن ثقافيًّا بتهديم ‏مؤسساته المعرفيّة وتشويه منظوماته الاجتماعيّة، ليغدو المجتمع مرتبطًا ارتباطًا عضويًّا ‏مع المستعمر، وهو ارتباط تابعي استلابي. ‏

ويوضّح الكاتب أنَّ اللغة في المجتمع التابع لم تنجُ من التشويه والتعطيل، بل تحوَّلت إلى أداة ‏للقهر والإذعان، وكان من نتيجة احتلال اللغة/ العقل تحوُّلها من وسيلة للمعرفة والتواصل ‏إلى أداة قهريّة مليئة بالترميزات والعلاقات الإشاريّة والآليات التي تشوِّه معرفة الذات، ‏وتقوّي الذات المستعمِرة (بكسر الميم) وتؤدّي إلى تشويه الرُّؤية. ‏

في سردية الموت/ الخلود يتحدث الكاتب عن ثنائيّة الموت/ الحياة بوصفها ظاهرة وجوديّة ‏تختلف عن تناول ثنائيّة الجلاد/ الضحية بوصفها ظاهرة ثقافيّة؛ فالعنف كفعل قهري يحوِّل ‏الإنسان إلى كائن قدري مستلَب، ويحوِّله أيضًا إلى كائن متمرِّد يبحث عن الخلود انطلاقًا ‏من العنف الذي يجده ذريعة للدفاع عن النفس. يعدُّ الكاتب الفن والأدب والنصوص والكتابة ‏والنقش والنحت وغيرها وسيلة الإنسان للخلود، وكانت وسيلته للانتقال من المرحلة ‏الشفاهيّة إلى التدوين والكتابة بما تحمل تلك الانتقالات من تحوُّل في المنظومات والهياكل ‏الفكريّة والعقليّة. ‏

ويؤكد الكاتب أنَّ احتلال اللغة/ العقل يأخذ بُعدًا مهمًّا لأننا لا نستطيع التواصل دون لغة ‏محكيّة مكتوبة أو إشاريّة، ومن المستحيل السيطرة على الآخر دون معرفة لتلك اللغة، ومن ‏الأكيد أنَّ الهيمنة تبدأ باحتلال اللغة؛ ذلك لأنَّ اللغة تشكِّل في حضورها علامة مهمّة على ‏وجود الإنسان وتعاطيه مع الرموز، واللغة كائن حيّ تتعرَّض للنموّ والضّعف، وتكمن أهمية ‏الأدب والفن في كونهما مرآتين تعكسان صورة الإنسان في قوَّته وضعفه وانتصاره ‏وهزيمته، وأنهما تكشفان عن عدد من البلاغات التي تتَّصل بالطاقة التي تملكها للغزو/ ‏الاحتلال والسيطرة/ السلطة. وعلى الرغم من مخاتلة اللغة وتخفّياتها؛ فإنها لا تستطيع ‏إخفاء علامات ورموز وسمات الضحية وهيبة وجبروت الجلاد الذي تنطوي لغته غالبًا ‏على مفردات باردة حدّ الموت، وتختار زمانها المستقبلي الذي يوفره الحس بالسيطرة، إذ ‏تبدو اللغة في العلاقة بين الجلاد والضحية وفق شكلين يتعالى فيهما طرف على الآخر. ‏ويبيِّن الكاتب أنَّ الأسطورة والنصوص الأدبية والفنية التي تناولت العلاقة بين الضحية ‏والجلاد عبَّرت بصور كثيرة ومعنى واحد يختزل بلاغة اللغة وغموضها ومكائدها التي ‏حملتها من الأسطورة وأمراض لغتها عندما واجهت لحظة الموت. ‏

تحت عنوان "الخروج من نمطيّة الصورة" يشير الكاتب إلى أنَّ الصورة التي برزت في ‏العلاقة بين الجلاد والضحية، الغالب والمغلوب، تقع في غالبية النصوص الكتابية الأدبية ‏والثقافية والفنية البصرية بين حدَّي المشابهة والتقليد والانفصال والإقصاء. ويبيِّن أنَّ من ‏أكثر النصوص التباسًا في التراث العربي بين الجلاد والضحيّة هي حكايات "ألف ليلة ‏وليلة"، ويؤكد هنا أنَّ القراءة البعيدة عن شرط الكتابة التاريخي، والتحوُّلات الاجتماعية ‏والصراعات القائمة وقتداك، أو النظر إليها بوصفها حكايات للمتعة وتزجية الوقت، تضلِّل ‏القارئ والناقد في آن معًا، وتلغي وظيفة اللغة، ومسوغات البلاغات والتقنيات والأساليب ‏المخاتلة، والرمزيات التي وظفت، وتسهم في غياب الضحية الحقيقيّ الذي كتب النص في ‏أثناء صراعه مع السلطة.‏