فضاءات المكان في العين السينمائيّة ‏ بهجة وحزن وملاذ للمهمَّشين

 

‏ ناجح حسن

كاتب وناقد سينمائي أردني

 

ظَلَّ المكان ركنًا أساسيًّا في دنيا صناعة الأفلام، بوصفها تجمَع ألوانًا من الأحاسيس ‏الإنسانيّة العذبة، والقادرة على رسم تحوُّلات ووقائع عصيبة في حياة الأفراد ‏والمجاميع، فضلًا عن كونها تعابيرَ ضمن مفردات اللغة السينمائيّة، التي يجري ‏تصويرها على الشاشة البيضاء، في جملة من مفردات وعناصر جماليّة، مليئة ‏بالشَّغف والبهجة والمتعة والألق، وبالعديد من المزايا الفريدة، نثرتها طاقات سينمائيّة ‏متنوِّعة الأساليب والرُّؤى والأفكار. ‏

منذ بدايات السينما، اهتمَّ صُنّاع الأفلام بتصوير قصص وحكايات متعدِّدة ‏الموضوعات؛ منها الملحمي والتاريخي والتشويقي والعاطفي، سَرَت أحداثها داخل ‏فضاءات كبيرة وصغيرة، حيث جذبت خصوصيّة مواقعها الشاهدة على أحداث من ‏الواقع أو الخيال، مبدعي السينما، وهو ما أسهم في تميُّزها، ناهيك عن مناخاتها ‏الآسرة وتنوُّعها الثقافي ومناظرها المميَّزة ومفردات طبيعة المكان: بيوتات، قصور، ‏ساحات، مصانع، شوارع، وأسواق، برعت عين الكاميرا السينمائيّة في تحويلها إلى ‏علامات ظلّت عالقة في ذاكرة ووجدان الملايين من روّاد وعشاق الفن السابع.‏

والسينما، هي التي وثَّقت بصورها وأصواتها المعالم العمرانيّة للمدن وفضاءاتها ‏المختلفة، وكانت شاهدة على أحداثها السياسية والاجتماعية والثقافية الكبرى، بل أكثر ‏من ذلك ساهمَتْ في التعريف بالعديد من المدن والمناطق التي احتضنت تصوير ‏أحداثها أو جزءًا منها، نظرًا لفرادتها على الصعيد الجماليّ، أو ما خلّفته من آثار لدى ‏ساكنيها وانعكس على عاداتهم وتقاليدهم، وبالتالي كرَّست السينما بإنجازاتها المتنوِّعة ‏والوفيرة تلك المعالم الطبيعيّة والإنسانيّة ومنَحَتْها المرتبة اللائقة في الفن السابع.‏

ويؤشِّر تاريخ السينما على مبدعين سينمائيين كبار، كان لهم ولأفلامهم ارتباط جدّي ‏ووثيق بمدنهم، من مصر تحضر أفلام يوسف شاهين وصلاح أبوسيف ومحمد خان ‏وحسن الإمام، وهي تعاين معالم مدينة القاهرة وطقوسها اليومية، وما صوَّرته ثلاثية ‏يوسف شاهين عن مدينة الإسكندرية في كشفه وبوحه الجريء عن جوانب من نشأته ‏وسيرته الذاتية داخل الإسكندرية.‏

وتفيض ذاكرة عشاق السينما، بالعديد من المدن والعواصم العربية والعالمية، التي ‏استطاعت بمكانتها الفريدة أن تكون وِجهة لصُنّاع الأفلام، وعرفت تلك الأماكن ‏تطوُّرًا جعلها ذات شأن وقيمة تكرّست في دنيا الأطياف والأحلام، ففي محطات من ‏السينما العربية الجديدة حال أفلام: "كابتن أبو رائد" لأمين مطالقه، "ولمّا ضحكت ‏موناليزا" لفادي حداد، و"فرق سبع ساعات" لديما عمر، و"مدن ترانزيت" لمحمد ‏الحشكي، خاضت جميعها غمار تحدّيات وتغييرات شاملة تتعدّى حدود أمكنة العاصمة ‏عمّان الضيّقة؛ وأشارت إلى دلالات كثيرة بعيدًا عن تناول الأنماط القديمة في التعبير ‏بانَت فيها مسارات التجديد والابتكار في العمل السينمائي، ومنها ما عبَّر أكثر من ‏خلال الوقائع الملموسة في تفاصيل الحياة اليومية داخل قطاعات شتّى من الحياة ‏السياسية والاجتماعية والثقافية.‏

وفي أفلام "بتوقيت القاهرة" لأمير الرمسيسي، و"شمس الضباع" للتونسي رضا ‏الباهي، و"الملائكة لا تحلّق فوق الدار البيضاء" للمغربي محمد العسلي، و"بيروت.. يا ‏بيروت" للبناني مارون بغدادي، و"دمشق يا حبّي" للسوري محمد عبدالعزيز، فإنَّها ‏جميعًا صوَّرت حالات من الشغف الشفيف، والرُّؤى الفكرية العميقة، في سبر أغوار ‏تلك العواصم وذاكرة قاطنيها عبر مراحل زمنيّة، داخل أساليب متباينة من الاشتغال ‏السمعي البصري، غزيرة بتَلَقِّياتها المُمتعة والمُفيدة لعيْن المُشاهد، وبما مثَّلته في مخيّلة ‏صانعيها الآتية من صخب أحداث جسام وتحوُّلات في نواحٍ متعددة، في أتون لجّة من ‏المعالجات المثقلة بمواقف من الدراما الاجتماعية والسياسية والكوميدية والرومانسية ‏التاريخية والمعاصرة.‏

درج صُنّاع الأفلام على أن تكون أمكنة المدن والعواصم "ديكورًا" للأفلام، لكنَّ شيئًا ‏ما تغيَّر فيها ودعاها لتلعب دور الأبطال والأبطال الضد؛ ذاك هو الدور الذي تجسَّد ‏في تجربة اللبناني مارون بغدادي في الفيلم الذي قدَّمه في نهاية تخرُّجه في المعهد ‏العالي للدراسات السينمائية في باريس عندما صوَّر فيلم "بيروت يا بيروت"عام ‏‏1974 دون ميزانية كبيرة بالاشتراك مع الممثل المصري عزت العلايلي، وموضوع ‏الفيلم يتمثل في نقدٍ يوجِّهه شاب يناهز الخامسة والعشرين من العمر إلى مدينته ‏العاجزة عن تفهُّم هواجس أبناء جيلِه السياسية والفكرية والثقافية والفنية والوجودية... ‏والمشرعة على جميع الاحتمالات، في شهادةٍ استثنائيّة عن اللحظة التي سبقت ‏السُّقوط.‏

يصوِّر "بيروت يا بيروت" مدينة أخرى مختلفة عن تلك التي صوَّرتها العديد من ‏الأفلام المصرية الرومانسية أو الأفلام البوليسية التشويقية الطويلة الأوروبية ‏والأميركية والتي تمزج بين التشنُّج والخفّة، مثلما كشف عنها لاحقًا في زمن الحرب ‏المخرج الألماني "فولكنر شلوندروف" في فيلمه "المزور"، والمخرج الجزائري ‏فاروق دلوفه في فيلمه "نهلة"، وكان هذا قبل أن يرسم مارون بغدادي لوحة عن ‏بيروت تتميّز بقدر أكبر من العبثية في فيلمه الروائي الثاني "حروب صغيرة" عام ‏‏1982، لكنَّ العنف يوم صوَّر "بيروت يا بيروت" لم يكن قد كشف عن نفسه بعد، ‏صحيح أنَّ مارون بغدادي استشعر نهاية قريبة للمدينة ولكنَّ همَّه الأساسي في الفيلم ‏كان التعبير عن طموحات جيل يسعى إلى التغيير ويتبنّى –كالمخرج- طروحات نقدية ‏في الحياة العامة. ‏

لم يكن بغدادي يغالي في تقديم صورة مختلفة لبيروت بوصفها وجهة سياسية ‏واقتصادية، ونقطة ارتكاز للثقافة العربية الجديدة وما تنطوي عليه من تظاهرات ‏ومسرحيات وإضرابات وصراع طبقي ومعارض فنون تشكيلية تعطي الانطباع بأنَّ ‏هذه المدينة هي تحت فوّهة بركان.‏

وفي جانب آخر من كلاسيكيات السينما، التي أثْرت المكان ببهجة ومتعة للناظر، أتت ‏أكثر من تحفة سينمائية، وهي تستعرض همومًا وآمالَ مزنَّرة بمشهديات الأمكنة التي ‏دارت فيها فصول من سيرة حياة الناس، كاشفة عن مواطن من القوة والخلل ‏والضعف الإنساني داخل الحياة اليومية، في أكثر من حقبة زمنية مليئة بالتحوُّلات ‏العصيبة، وظلّت شاهدة على الأحداث والتي قدَّمتها كاميرا الفيلم على أرض الواقع، ‏وهي محمَّلة بالمشاهد الملحمية الفائضة الجماليّات لمجاميع في مغامرات تسري في ‏مناخات وأجواء وتكوينات المكان الكبيرة المفتوحة على ملامح من الصّدمات ‏الحضارية، لدى صعود كثير من المهمشين وصولًا إلى انكساراتهم المدوّية، على ‏اختلاف ثقافاتهم.‏

إنَّ أركان الموجة الفرنسية الجديدة، التي قوامها "جان لوك غودار" و"فرنسوا تروفو" ‏و"ألان رينيه" وغيرهم كثير من مخرجي السينما العالمية، تناول كل منهم بأسلوبيّته ‏الخاصة مدينة باريس بوصفها الأغزر بشخصيّاتها الأثيرة والمهمَّشة، والمشرعة على ‏طاقات وامكانيات معرفيّة شكّلت وجه المكان، في سياقات متباينة من داخل تفاصيل ‏الحياة اليوميّة، ومصائر وهواجس ورؤى وأحلام قاطنيها.‏

قبل أن يلتفت المخرج الأميركي "وودي ألان" إلى باريس في فيلمه المعنون "منتصف ‏الليل في باريس"، فإنَّها ظلّت بالنسبة إليه هاجس يصعب سبر غورها، على الرغم ممّا ‏تفيض به من وقائع وقصص عديدة في الماضي والحاضر، وإنه عقب قراره بكتابة ‏نص عمله الجديد عن ليل باريس المثير، آثر اختيار شخصيتين محوريّتين هما شاب ‏وخطيبته يقومان بزيارة لباريس مع والدي الخطيبة المحافظين والثريين.‏

في أغلبية الاشتغالات السينمائية، التي صوَّرت أمكنة وعواصم في الشرق والغرب، ‏أبهر تناول المكان عشاق السينما الذين ما زالوا يختزنون بذاكرة نشطة لقطات ومشاهد ‏من أفلام متفاوتة المستوى، حيث جسّد مخرجو السينما ببراعة وإتقان، الكثير من ‏مناظر الأمكنة؛ مثل مشاهد أسواق المدن وأزقتها وحاناتها والملابس التقليدية لدى ‏أهالي وسكان الأماكن الأصليين، وهو ما أضفى جماليّات من سحر وبيئة الشرق على ‏العمل من زوايا فنيّة وجماليّة وفكريّة جعلت ثيمة المكان‎ ‎تسكن الوجدان.‏