عيد الأم

قصة: د. هشام عباس

كاتب مصري

hishamabbas2008@gmail.com

 

استيقظَت "نسمة" ذات الثلاثة عشر ربيعًا لتجد أخاها الصغير ما زال غارقًا في نومه، ‏بينما أنبأتها غرفة أبيها المفتوحة عن ذهابِه المبكر المعتاد للعمل، فنهضت لتيقظَ أخاها ‏الصغير للذِّهاب للمدرسة، وانبثق في داخلها مزيج من المشاعر المتداخلة وهي تنظر ‏للصغير النائم في براءة؛ مزيج من الحنان الدافق والأسى والخوف من المستقبل، ثم ‏نظرت إلى صورة أمّها وتصاعدت الدُّموع إلى عينيها وهي تشعر بشوق شديد للأم ‏التي رحلت فجأة عنها، فتصير هي في سنِّها الصغيرة الأم التي عليها الاعتناء بطفل ‏في السادسة، وربّة المنزل التي عليها أن تعتني بكل صغيرة وكبيرة، وأن تسدّ الفراغ ‏الهائل الذي خلّفه الرّحيل، وهي أيضًا الطالبة التي لا بدّ أن تنجح وتشقّ طريقها في ‏الحياة لتساعد والدها الذي يعمل بوظيفة متواضعة في شركة صغيرة لساعات طوال.‏

وتنهَّدت بقوّة وكأنَّها تزيح بعضًا من تلال المسؤوليّة المُلقاة على قلبها الصغير، ‏واتَّجهت نحو أخيها وأيقظته برفق وغمرته بقبلاتها وحنانها، وساعدته في ارتداء ‏ملابسه، وألحَّت عليه ليتناول إفطاره، وتأكَّدت من اكتمال حقيبته المدرسيّة بكتبه ‏وأدواته وطعامه، ثم ارتدت ملابسها وذهبت معه إلى مدرستِه وأدخلته فصله، ثم ‏ذهبت إلى مدرستها مسرعة. كان هذا هو برنامجها الصباحيّ اليوميّ، ولكن اليوم كان ‏مختلفًا، كانت ذكرياتها مع أمّها الرّاحلة تتدافع بقوّة في مخيّلتها دافعة الدُّموع من قلبها ‏المكلوم نحو عينيها، فتبذل جهدًا هائلًا لمْنع تدفُّقها أمام الناس، كان اليوم هو أوَّل عيد ‏للأم دون أمِّها.‏

عندما وصلَت للمدرسة كان الحزنُ باديًا على وجهها بجلاء، وهو ما دفع صديقتها إلى ‏الاندفاع نحوها واحتضانها بقوّة وهي تدرك سبب حزنها، وهمسَت لها أن تبكي في ‏أحضانها لتستريح، ولكنَّها بكبرياء تماسكَت، على الرغم من رغبتها الشديدة في البكاء ‏تاركةً للدُّموع مجرى هائل بداخلها.‏

انتهى اليوم الدراسي أخيرًا، وهرعت إلى مدرسة أخيها لتعود به للمنزل، وما كادت ‏تراه في الفناء منزويًا حزينًا، وأقرانه ترتفع ضحكاتهم في الفضاء وهم يلهون غير ‏مدركين لآلام زميلهم الصغير، حتى شعرت بخنجر من الألم والأسى ينغرس في قلبها، ‏فجَرَت نحوه، وما كاد يراها حتى أشرق وجهه الكابي واندفع نحوها يحتضنها بشوق ‏مَن وجد شاطئ الأمان بعد أن كاد يغرق، ومرَّة أخرى تحبس دموعها حتى لا تثير ‏انزعاجه وخوفه، وابتاعت له حلواه المفضَّلة من مصروفها الذي صارت تدَّخره من ‏أجل أن تُدخل على قلبه السَّعادة، وعادا للمنزل وهو يثرثر عمّا حدث في يومه وما ‏تعلَّمه في المدرسة.‏

وفي المنزل ساعدته على تغيير ملابسه، وأعدَّت له الطعام، ثم أخذت تنظِّف المنزل ‏وتُذاكر دروسها وهي تحاذر أنْ تشاهد التلفاز أو تفتح المذياع القديم الذي كانت تحتفظ ‏به في المطبخ كما كانت تفعل أمّها، كانت تحبُّ سماع أغنية عيد الأم الشهيرة، ولكنها ‏اليوم كانت تخشى سماعها وتشعر أنها ستنهار حزنًا لو سمعتها، وتمنَّت ألّا يطلب ‏أخوها منها فتح التلفاز حتى لا تشاهدها مصادفةً وهي تتصفَّح القنوات، وحسنًا فعل ‏الصغير وتركها لينام قليلًا وهي تواصل استذكار دروسها، فما زال أمامها ساعات ‏حتى يعود والدها من العمل. ‏

كان والدها يقدِّر ما تقوم به، وكانت عيناه تنطقان دائمًا بالشفقة عليها إزاء المسئولية ‏الضخمة التي أُلقيت على عاتقها وهي في سنِّها الغضّ ذاك، وكانت عيناه تحملان ‏دائمًا اعتذارًا صامتًا لها عن المجهود المُضني الذي تقوم به، وكانت هي أيضًا تحاول ‏التخفيف عنه وهي ترى نظرات الانكسار المُقيمة في عينيه منذ رحلت أمّها، فقد كان ‏يحبُّها بشدّة، وكثيرًا ما لمحته يجفِّف دموعه حين تدخل عليه فجأةً وهو ينظر لصورة ‏أمِّها كأنَّه يناجيها، كانت أمها حنونة وجميلة وحصيفة، وتُحيل المنزل إلى عشٍّ هادئ ‏دافئٍ محبوب على الرّغم من ضيق الحال.‏

‏"آه يا أمي، كم أفتقدكِ وأفتقد أحضانك وحنانك ونصائحك المحبة، ذهبتِ وتركتِ لي ‏مسؤوليّة جسيمة، ولكن اطمئنّي يا أمي فسأنهض بها، سأستحضر كل ما زرعتِه في ‏قلبي من حبّ وحنان وتفهُّم وشجاعة لأمنع عنكبوت الحزن من نسج شباكه المقيتة ‏بداخل منزلنا".‏

واستمرَّت في مذاكرتها في جدّ أكثر حتى استيقظ أخوها، فذهبت إليه وأخذت تلاعبه ‏ثم ساعدته في عمل واجبه المدرسيّ، وأدهشها أنه لم يتذمَّر كعادته، ولم يحاول ‏التهرُّب أو طلب مشاهدة أفلام الرسوم المتحرّكة أوَّلًا، كان مطيعًا بشكل غريب وكان ‏ينظر لها في ودٍّ طفوليٍّ آسر، فكانت تحتضنه المرَّة تلو الأخرى، فيستسلم لأحضانها ‏كمن يندفع نحو الماء بعد طول ظمأ ممّا جعلها تنظر له وتسأله عمّا به؟! أيشكو من ‏شيء؟! فيبتسم ويهزّ رأسه نفيًّا، حتى حان المساء وعاد الأب وتناول طعامه وجلس ‏يرتشف شايه على مهل، فجاء الطفل في مرح وقال لأخته وأبيه أن يغمضا عيونهما، ‏فاندهشا لطلبه، ولكن لم يسعهما إلّا الاستجابة في سعادة، وانتظرا حتى أتاهما صوته ‏البريء السعيد أنْ افتحا عيونكما، فنظرت الفتاة فإذا به يقف أمامها يحمل بين يديه ‏الصغيرتين هديّة بسيطة مغلَّفة بشكل جميل ويقول لها وعيناه تلمعان بسعادة: " كلّ ‏سنة وأنتِ طيّبة، أتمنى أن تعجبكِ هديَّتي" فانفجر شلّال الدُّموع الذي كبتته طوال اليوم ‏وهي تحتضنه بقوَّة، وانسال خيط من الدُّموع من عيني الأب وهو ينظر إلى صورة ‏الأم الرّاحلة ويحتضن فلذتي كبده، بينما تعالت أغنية عيد الأم الشهيرة من تلفاز ‏الجيران.‏