ملامح

نص: فداء الحديدي

كاتبة أردنية

fedaalhadidi@gmail.com

 

أطلقتُ ذراعي في الفضاء حولي، الجميع بقربي يضحكون، يهمسون بِلَقَبي الذي ‏أصبحتُ معروفًا ومشهورًا به "ثائر القلم".‏

عندما أنجزتُ كتابي الأوَّل، لم يكُن أحدٌ يعرفني، كنتُ أجلسُ في المنتديات والمحافل ‏الأدبيّة، دون أيّ ذِكر لي أو لِما خطّه قلمي... قيل لي إنَّني أكتبُ للنُّخبة فقط، جميع مَن ‏يعرفني كان من النقّاد والكتّاب المرموقين، كان كتابي مرجعًا في الأطروحات ‏والدراسات الأكاديمية العُليا، لكن الجماهير والعامة، فلا أذكُر يومًا أنّهم عرفوا اسمي ‏أو حتى اسم كتابي إلّا عندما أحدِّثهم عنه.‏

كان أبطالي مثقفين؛ رجل في حياته فكر، ثقافة وأدب، امرأة مربِّية فاضلة، سردٌ أدبيٌّ ‏أنيق، تفاصيل مكتنزة، أهداف سامية سعى لتحقيقها كلّ أبطال الكتاب.‏

لكن.. مَن أسميتُه بطلًا، قرَّر التخلّي عن هدوئه، قرَّر الانغماس في ملذّات الحياة، ‏تخلّى عن المبادئ، ضرب بها عرض الحائط، سكن على الأرصفة وفي طرقات ‏الشّهوة والرّغبة، فقدَ عذريّة الاناقة والفخامة، كسرَ برواز المرآة التي وضع نفسه بها، ‏السّكارى على الأرصفة، الكؤوس متناثرة حول طاولة كبيرة، الرجال تتهاوى والنساء ‏تترامى في أحضانهم، خلعوا رداء الحياء والأدب، خروجوا عن المألوف بتنهيداتهم ‏وشهقاتهم الجديدة.‏

كنتُ أجلسُ معهم ثملًا في الحفل الكبير، الذي أقيم ترحيبًا واحتفاءً بالجزء الثاني من ‏كتابي، بعد أن تسلّمتُ جائزة دوليّة ولاقى رواجًا كبيرًا جدًا.‏

الحفل.. كان خاليًا من نخبة الأدباء والمثقفين، بدأَتْ النَّقمة تلاحقني في مقالات ‏الصُّحف، تتحدَّث عنّي، تصفُني بالهشاشة، وبأنّني خالي الأدب، بعد أن كنتُ في ‏نظرهم، راعيَ الأدب، لم أكُن أعلم أنَّ حجم الثورة ضدّي يزداد مع حُب الجماهير ‏لكتابي الثاني. مقالات توازي نقدي والثورة ضدّي. اسمي أصبح يتلألأ في حانات ‏الأدباء وبارات الثقافة.‏

ضرب أحد أصحابي المقرَّبين بكفِّه على الطاولة في الحفل بغضبٍ شديد، كان من ‏أكثر المقرَّبين لي، بل كان أوَّل صديق لي، تناثَرَتْ الأقداح من حوله، صرخ بغضب، ‏ندَّد، أعلن احتجاجه... نظرتُ إليه وهو يمسك بأيدي المحتفلين... الرفاق يجلسون على ‏الطاولة، أصوات الثورة تصدح، خرجوا إلى الشوارع، أعلنوا التمرُّد والعصيان. ‏ضجيجٌ أيقظ الشارع الصامت، أبواب الحريّة تدقّ، أصوات النِّضال تعلو في كلّ ‏الشوارع.‏

أصبحت صوري معلّقة على الجدران، الشوارع، المنابر، على بوّابات الفكر والأدب. ‏العبارات المجللة في حقي تكبر وتعلو. أصبحتُ رمزًا للنضال، للثورة، للعصيان، ‏لثورة الشارع، لغليان القلوب الثائرة. المقالات والصحف، ظهرت بلون جديد، كان ‏الجزء الثالث من كتابي، صارخًا، حرَّك الأفئدة المكبوتة، أَخرج الصمت من أفواه ‏مكبَّلة.‏

أمّا أنا، فقد نهضتُ من فرشتي الصغيرة، من غفوتي، حملتني قدماي إلى نافذة ‏صغيرة، أنظرُ إلى حرّاس زنزانتي، وبين أيديهم ملامح أوراقي.. يضحكون...‏