مصادر جديدة لدراسة تاريخ الأردن

د. أمجد ممدوح الفاعوري

محاضر غير متفرِّغ- الجامعة الأردنية

مدير الخدمات المكتبية والإيداع- دائرة المكتبة الوطنية

 

شهدت العقود الأخيرة الماضية اهتمامًا متزايدًا بالسجلّات التي تشكِّل دراستها مصدرًا مهمًّا لكتابة ‏تاريخ الأردن المحليّ، فبعد فتح باب السجلّات (سجلّات المحاكم الشرعيّة ودفاتر الطابو ‏وسجلّات التسوية وسجلّات الأديرة والكنائس والأوراق المحليّة ودفاتر مقرّرات المجالس البلديّة ‏والوقفيّات والمدارس) بدأ الباحثون يتعرَّفون إلى مصادر جديدة ساعدت على تقديم رؤية محليّة ‏مباشرة كانت تغيّبها دراسات التاريخ التي تعتمد الوثائق الغربيّة فقط. وتمثَّلت هذه التجربة بتحقيق ‏وطباعة ونشر السجلّات المتنوعة والتي تكتنز بتفاصيل الحياة اليوميّة، وتحمل الخصوصيّة التي ‏لا نجدها عادة في المصادر التقليديّة.‏

تُعتبر الوثائق الرَّكائز الأوليّة في الكتابة التاريخيّة، ومن هذا المنطلق نقول دومًا: "لا تاريخ من ‏دون وثائق"، والوثيقة بحدّ ذاتها لا يدرك قيمتها إلا مَن عرف التاريخ ومواضيعه، ومنهجه ‏وأدوات بحثه، فكم من وثيقة أُتلفت، أو لم يهتمّ بها أحد، وهي مفتاح لأمر ما، سواء كان ذلك من ‏الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الإدارية. وفي العُرف التاريخي تبقى الوثيقة أو ‏المادة التاريخيّة بشكل عام ميتة إلى أن يأتي المؤرِّخ والباحث فيبعثها من جديد، ويضع الحياة ‏فيها بالدراسة والتحليل والنقد إلى غير ذلك من الأمور. وقد جاءت دراسات "برنارد لويس" ‏B.Lewis‏ في مطلع الخمسينات من القرن الماضي عن الأرشيف العثماني، وأهميّته كمصدر ‏لتاريخ الولايات العربية في العهد العثماني، علامة فارقة في توجيه أنظار الباحثين نحو أهمية ‏هذه الوثائق منبهرين بما يتوافر فيها من معلومات تاريخية، فهذه الوثائق على تنوُّعها وحقبها ‏تحمل مصداقيّة كبيرة لدينا، فهي أقدر على تقديم النبض اليومي لحياة الناس، وعلاقتهم بالدولة، ‏وفهمهم لطبيعة الحكم المحلّي. فمن خلالها تمكَّن الباحثون من قراءة الواقع الاقتصادي ‏والاجتماعي والعمراني والإداري بدقة وعمق من خلال فحواها الذي يعكس الصورة الحقيقية ‏للحياة اليوميّة والتي تغفلها عادة المصادر الأخرى، فتفسّر لنا المعطيات على الأرض بدرجة ‏كبيرة من الاطمئنان عن تاريخنا.‏

لقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا بالغًا بدراسات التاريخ المحلّي في الأردن، وجاء هذا الاهتمام ‏متزامنًا مع البحث عن المصادر المحليّة ونشرها ودراستها، وكان للمؤسسات الأكاديمية الدور ‏الأكبر في توجيه الطلبة والدارسين نحو هذا التوجُّه المحمود. وبعد فتح باب السجلّات، وعلى ‏رأسها سجلّات المحاكم الشرعيّة ودفاتر الطابو وسجلّات التسوية وسجلّات الأديرة والكنائس ‏والأوراق المحلية ودفاتر مقررات المجالس البلدية والوقفيات والمدارس ظهرت مجموعة من ‏الدراسات الأكاديمية تمكَّن الباحثون والطلبة خلالها من المزاوجة بين المصادر المتعددة ودراستها ‏بعمق ومنهجية، وبذلك بدأنا نتعرَّف إلى مصادر جديدة ساعدتنا على تقديم الرُّؤية المحليّة ‏المباشرة التي كانت تغيّبها دراسات التاريخ التي تعتمد الوثائق الغربيّة فقط. وتمثَّلت هذه التجربة ‏بتحقيق وطباعة ونشر هذه السجلّات المتنوعة والتي تكتنز بتفاصيل الحياة اليوميّة، وتحمل ‏الخصوصيّة التي لا نجدها عادة في المصادر التقليديّة.‏

تمثِّل دراسة هذه السجلّات، بكافة أوعيتها المعرفيّة، توجُّهًا مدروسًا لإسناد الدراسات السابقة ‏وتعميقها بمعلومات مباشرة ودقيقة وغنيّة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والإداري والعمراني ‏للبلاد، كما تمثِّل هذه المصادر محاولة لكتابة تاريخ البلاد في بداية تكوين الدولة الحديثة.‏‎ ‎ولأهمية ‏ما سبق شهد عام 1990 بداية الخطوة الحاسمة والرّاسخة في توجه أقسام التاريخ في الجامعات ‏الأردنيّة طلبة الدراسات العليا لاختيار موضوعات تتناول تاريخ الأردن اعتمادًا على الأرشيف ‏العثماني. ويعود الفضل في تشكُّل هذه المدرسة إلى الدكتور محمد عدنان البخيت، الذي كان ‏الطلبة يعملون تحت إشرافه.‏

إنَّ خطَّ هذه المدرسة الجديدة بدأ بفتح الأرشيف العثماني، المُصوَّر جزء كبير منه في "مركز ‏الوثائق والمخطوطات" بالجامعة الأردنيّة، ودراسته، والمزاوجة بين هذه المصادر التي فُتحت ‏أمام الباحثين للمرَّة الأولى، ومنها سجلّات الطابو العثمانية، وسجلّات تسوية الأراضي، والمحاكم ‏الشرعيّة، والنّفوس. وجاءت النتيجة بتأسيس مدرسة راسخة تقوم على دراسة عميقة للمكان ‏وللأهالي والسلطة في فترة التنظيمات العثمانية، بحيث يمكن أنْ نقول: إنَّ تاريخ الأردن في العهد ‏العثماني بدأ خطًا جديدًا وراسخًا، على أصول أكاديمية، بفتح الأرشيف العثماني، واتِّباع منهجيّة ‏واعية، أصبحت هي المدرسة التي تابعتها الدراسات اللاحقة في العقود الثلاثة اللاحقة، وعُرفت ‏بأنها مدرسة الدكتور البخيت.‏

بدأت جهود هذه المدرسة باهتمام الأكاديميين بالبحث عن مصادر تاريخ الأردن في العهد ‏العثماني، فبدأت جهود لاحقة بنشر سجلّات المحاكم الشرعية، وسجلّات البلديات والنفوس ودفاتر ‏الطابو.‏

وبحسب الدكتورة هند أبو الشعر، فإنَّ دراسات لطلبة الماجستير والدكتوراه، ظهرت لاحقًا في كل ‏من الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وجامعة مؤتة وجامعة آل البيت، لدراسة تاريخ الأردن، ‏على خطى المدرسة السابقة، وصارت تسمية "القصبات وجوارها" نموذجًا للدراسات اللاحقة، ‏مثل "الفحيص وجوارها"، "مادبا وجوارها"، "المفرق وجوارها"، أو دراسة النّواحي؛ "ناحية ‏المعراض" مثلًا وجرش. وقالت أبوالشعر: إنَّ المدرسة التاريخية التي تشكّلت بجهود البخيت، ‏تمكّنت من ترسيخ قواعد جديدة، وذلك بفتح الأرشيف العثماني والبحث في المصادر المحلية، ‏والاعتماد على دراسة السجلّات التي تقدّم مادة أوليّة ومباشرة ورسميّة، ومنها دراسة ملكية ‏الأرض والضرائب والأهالي والحياة الاقتصادية والاجتماعية، بدراسة الحارات والمرافق ‏والأسواق وملكيات الأراضي الزراعية والعقارات والضرائب والرسوم والمدارس والأوقاف ‏والعلاقات الاجتماعية، مؤكدة أنّها مدرسة تجاوزت التركيز على الدراسات السياسية التي سادت ‏في الخمسينات والستينيت. كل هذا على الرغم من أنَّ تلك الدراسات اتَّبعت منهجيّة واحدة ‏ومصادر متقاربة، لكن سجلّات الطابو بقيت عصيّة على الدارسين نظرًا لصعوبة الحصول ‏عليها، ولأنَّها باللغة العثمانية ويصعب التعامل معها، ولم يستخدمها غير هند أبوالشعر وجورج ‏طريف والمرحوم نوفان الحمود السوارية. ‏

وهنا يتوجَّب التفريق والتمييز بين الدراسات الأكاديميّة المنهجيّة وبين ما يُنشر من كتب تحت ‏مسمّى "تاريخ الأردن"، فالمنهجية مطلوبة في كتابة التاريخ، وهي لا تتوافر إلا للأكاديميين ‏المدرّبين، خصوصًا أنَّ الكثير من الكتب المنشورة باعتبارها تاريخ الأردن، تحاول الترويج ‏لعائلات أو لشخصيّات. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الأكاديميون لإلقاء الضوء ‏على الواقع الاجتماعي والسياسي والجغرافيا السكانية للمنطقة في العهد العثماني، إلا أنَّ تاريخ ‏الأردن في العهد العثماني ما يزال في بداياته، ذلك أنَّ الأرشيف العثماني لم يُفتح تمامًا، وهو ‏أساس القراءة المنهجيّة، جنبًا إلى جنب مع الوثائق الغربيّة، وعلى رأسها الوثائق البريطانية.‏

تُعتبر السجلّات الشرعيّة من المصادر المهمّة في التاريخ الحديث والمعاصر نظرًا لما تحويه من ‏معلومات متعددة ما بين إدارية وعمرانية واقتصادية واجتماعية وتربوية.‏‎ ‎وقبل الحديث عن ‏أهمية السجلّات الشرعيّة لا بد من الإشارة إلى الأمور التالية:‏‎ ‎أن جزءًا من هذه السجلّات فُقد ولم ‏يصل إلينا؛ إمّا فُقد نهائيًّا أو فُقد عدد من صفحاته، كما إنَّ عدد عقود النكاح (الزواج) لا يتناسب ‏وحجم بعض المدن؛ وربّما يأتي هذا من أنَّ عددًا من الناس لا يوثِّقون عقود الزواج لدى المحاكم ‏الشرعيّة ويكتفون بالإجراءات التي يتطلّبها الشّرع من حيث الطلب والقبول وشهادة الشهود وبيان ‏الصداق (المهر). ‏

إنَّ دراسة هذه السجلّات تؤِّشر على تاريخ البلاد بالأوضاع كافّة. ففي الجانب الاجتماعي هنالك ‏إمكانية لدراسة فئات المجتمع وطوائفهم (مسلمون ويهود ونصارى)، وأصولهم والأماكن التي ‏جاءوا منها، والمحلات والحارات التي سكنوا فيها، والتقاليد والعادات التي كانوا يؤمنون بها.‏‎ ‎كما  ‏أنَّها تزوِّدنا بمعلومات عن العشائر والحمايل والزواج والطلاق والمهور والإرث والوصاية ‏والأوقاف والرعاية الاجتماعية للفقراء والمساجد والمرضى وأبناء السبيل والصلة بين ‏المتزوجين. كما أنَّ هذه السجلّات مصدر مهم لمن يريد البحث في التاريخ الاقتصادي لدى ‏الأفراد من خلال مبلغ المهر. وتقدّم لنا معلومات وفيرة عن أشكال الأراضي وطبيعتها الزراعية، ‏ونوع التربة، والأشجار المغروسة فيها، وأثمانها والعيون والبساتين. وفي المجال الصناعي تشير ‏هذه السجلّات إلى الطوائف والحرف والصناعات التي تشتهر بها البلد وذكر أثمانها. وفي المجال ‏التجاري تشير السجلّات إلى الأوزان والمكاييل وإلى أنواع العملة المستعملة وأسعارها، والتجار ‏الوافدون، والمواد المستوردة والمصدَّرة، كما تشير أيضًا إلى أنواع الحيوانات وأجرتها وأثمانها ‏والقاعدة المتَّبعة في بيعها. وفي المجال العمراني تتحدَّث السجلّات عن الحارات والمحلات ‏والإيجار والاستئجار وعدد الدكاكين وعن قنوات الصرف الصحي وشبكات المياه، والطراز ‏المعماري وعدد الأوض –الغرف- والساحات والحمامات والمساجد والأديرة والكنائس والمدارس ‏وغيرها. وفي المجال الإداري تزوّدنا السجلّات بأسماء الحكام الإداريين والقضاة ومدراء المال ‏والكُتّاب ومجالس الإدارة، وأسماء المعلمين والمعلمات، ومدراء الأراضي والمساحة، والمخاتير ‏والوجهاء. وفيما يتعلق بسجلّات تحرير النفوس فقد كان قيد النفوس في الدولة العثمانية يُسجَّل ‏في الدفاتر وفق أرقام متسلسلة للعائلات بشكل عام،‎ ‎ومعها أرقام متسلسلة بأسماء الذكور وأسماء ‏الإناث بالإضافة إلى خانات كثيرة موزَّعة على صفحة السجلّ تتضمَّن اسم رب العائلة واسم ‏والده وجدّه وعائلته،‎ ‎وتاريخ الميلاد لكل واحد،‎ ‎وهل هو حيّ أو ميت،‎ ‎واسم الزوجة واسم الوالدة ‏وتاريخ الميلاد،‎ ‎والأوصاف الجسمانية،‎ ‎وكيفية التسجيل إلى غير ذلك. وكانت الدولة العثمانية قد ‏قامت بتدوين سجلّات النفوس لكل ولايات الشام منذ عام 1905م، ممّا أدّى إلى قيام ثورات في ‏السلط وعجلون والكرك ومعان والطفيلة ممتدّة إلى العربان والتي كان أعنفها في منطقة الكرك. ‏ويبدو أنَّ سكان هذه المناطق قد أتلفوا هذه السجلّات أيام ثوراتهم لأنَّ ثمة ما يشير إلى حصول ‏التسجيل في المناطق التي قامت بها حركات احتجاج؛ فنرى أنَّ أهل الكرك رضوا بالتسجيل ‏شريطة إعفائهم من رسوم التسجيل. وعلى أيّ حال فإنَّ سجلّ الشوبك يُعتبر سجلّ النفوس الوحيد ‏الذي وصل إلينا في الأردن،‎ ‎ويتبعه السجلّات التي أطلق عليها اسم السجلّات الفيصلية في السلط، ‏والتي تم إجراؤها أيام المملكة العربية بزعامة فيصل بن الحسين، ملك العراق فيما بعد. تقع ‏السجلّات الفيصلية في ستة دفاتر، وفيها مسح شامل للعشائر المقيمة في السلط.‏

تنبع أهميّة هذه السجلّات من فحوى المعلومات المهمة التي تكتنزها من حيث الأنساب والجماعات ‏السكانية ومهنهم وأوضاعهم. ومع أنَّ هذه السجلّات لا تُظهر الأرقام الدقيقة لعدد السكان، إلا أنها ‏كانت مؤشرًا اجتماعيًا، بل واقتصاديًا يدلّ على معرفة السكان وأنسابهم، بالإضافة إلى دلالتها ‏بشكل واضح على وضع الزيادة السكانيّة أو نقصانها، ففي حالة الزيادة لا بدّ من معرفة أسبابها ‏هل هي زيادة طبيعية، أم أنها جاءت عبر الهجرات. أمّا في حالة النقصان فربّما يعود ذلك إلى ‏الهجرات منها أو بسبب الأمراض والأوبئة والكوارث، وهو الأمر الذي يصعب التحقُّق منه إلا ‏في حال وجود الوثائق المتعلقة بذلك.‏

وجاءت أهميّة دفاتر الطابو لما تتضمّنه من معلومات قيّمة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ‏والعمرانية. ففي الجانب الاجتماعي تقدِّم معلومات دقيقة لعدد السكان في القرى والنواحي، وعدد ‏المسلمين والنصارى، وعدد العزّاب والأئمة والمؤذنين، وفئاتهم: فلاحين وبدو، والمعلومات ‏الواردة فيه عن القبائل البدوية في شرقي الأردن على درجة من الأهمية، فهي تمثِّل الإطار العام ‏للوجود القبلي في المنطقة، من خلال تعداد الجماعات التي تنتسب لكل قبيلة، وعدد الخانات، ‏والمواشي، والرسوم المفروضة عليهم.‏

وفي الجانب الاقتصادي تساهم الدفاتر في رسم ملامح الحياة الاقتصادية للمناطق منذ مطلع القرن ‏السابع عشر، وتتيح لنا معرفة ملكية الأرض وأنواع الضرائب والرسوم المفروضة على السكان ‏ومقدارها، وأنواع المحاصيل الزراعية من الأشجار والحبوب والثروة الحيوانية،‎ ‎وتقدِّم لنا ‏معلومات، وإن كانت شحيحة، عن الأسواق التجارية.‏

وفي الجانب العمراني تتيح دفاتر الطابو معرفة بعض المرافق العامة التي أقيمت في المنطقة، من ‏خلال ما أوردته عن الجوامع وما أوقف عليها ليصرف في وجوه العمارة وفي دفع أثمان القناديل ‏والحصر، وما أوردته عن الزوايا والمقامات والأضرحة والإشارات العديدة للطواحين التي تُدار ‏بالماء وتتركّز في الأودية.‏

وتنفرد دفاتر الطابو من بين المصادر جميعها في المعلومات القيّمة التي قدَّمتها عن المعاصر ‏التي كانت تستخدم لعصر الزيتون، وربّما لعصر قصب السكَّر الذي اشتهرت به منطقة الغور. ‏ومن باب أهميّة المادة التي توفرها دفاتر الطابو نشير إلى ما له علاقة بالتقسيمات الإدارية، ‏وأسماء البلدان والقرى وأسماء السكان بما في ذلك أبناء العشائر والجماعات. كما يدوَّن بها ‏أسماء المزارع وقطع الأراضي، هذا بالإضافة إلى بيان أسماء أصحاب الإقطاعات. وترفدنا هذه ‏الدفاتر بأسماء المحاصيل الشتوية والصيفية وأنواع الأشجار المثمرة ومن أهمها الزيتون ‏الروماني والإسلامي، وتأتي على تعداد المواشي من الماعز والأغنام، ومقدار الرسوم التي كانت ‏تجبيها الدولة ومَن يمثِّلها.‏

أمّا سجلّات البلديات، فتُعد سجلّات مقّررات المجالس البلدية من أهم المصادر المباشرة لدراسة ‏قصبات المدن في الأردن في أواخر العهد العثماني ومطلع عهد إمارة شرق الأردن، وتلقي هذه ‏السجلّات الضوء على العمران وعلى تركيبة السكان وفعاليّاتهم، وتبيِّن العلاقة بين الإدارة -الحكم ‏المحلي- والأهالي؛ فهي من المصادر المباشرة التي تناولت تاريخنا المحلّي في العقدين الماضيين، ‏وقد غيَّرت من الرُّؤية التقليدية لكتابة تاريخ الأردن، فبعد أن كانت الوثائق الغربيّة وعلى رأسها ‏البريطانية، هي مصدر رؤيتنا لأنفسنا، وجدنا أمامنا الكمّ الهائل والمُعتبر من الوثائق المحلية التي ‏لم يكن لها الحضور الذي تلاقيه المصادر المحليّة لدى الشعوب الأخرى. ومن خلال هذه ‏السجلّات يمكن تقديم الحياة اليوميّة والإداريّة والتطوُّر الذي عايشته مؤسسات الحكم المحلي ‏الأردنية، ضمن الحياة السياسية، وهو ما يعطي الباحث مدى من الرؤية المحلية لمتابعة الفعاليات ‏المحلية عن قرب.‏

إنَّ دراسات هذه السجلّات تؤسِّس لحالة أكاديمية مستقبلية، فالبحث عن المصادر وتقديمها ‏للباحثين مدروسة ومحقَّقة -كما تقول الدكتورة هند أبوالشعر- يساعد بالتأكيد على تشكيل رؤية ‏شمولية ومباشرة ودقيقة نحتاجها في حياتنا الأكاديمية، خدمة للمنهجية وللوطن ولمتابعة ‏المؤسسية في تجربتنا في هذا الوطن الغالي.‏

وتنبع أهميّة هذه السجلّات كونها توفر فرصة ثمينة لقراءة آمنة ومتوازية ومتنوعة لدراسة المكان ‏والإنسان على حد سواء، نظرًا لثرائها بالمعلومات المباشرة والتي احتفظت بخصوصية للأوضاع ‏الاقتصادية والاجتماعية ومعرفة أحوال السكان وأعدادهم، ومساهمتها بتوفير دائرة معلومات ‏متكاملة لأنواع الملكيات والأراضي ومصادر المياه والمرافق العامة من دور عبادة (مساجد ‏وأديرة وكنائس) ومدارس وأسواق ودكاكين ومخابز وطوابين ومعاصر ومطاحن ومصانع ‏ومقابر. ‏

فسجلّات البلديات وقراراتها تحفظ لنا التاريخ المحلّي بخصوصيته وتنوعه وتميزه، وهي بذلك ‏تؤرِّخ لحياة الناس اليوميّة وللمرافق والمحلات والبيوت، وتقدِّم لنا بالتالي علاقة الناس بالسلطة، ‏وأسلوب إدارتهم للمكان والإمكانات، وتعاملهم مع الانتخابات، وظهور النُّخب الإدارية، وتحوُّلها ‏إلى نخب سياسية. إنَّ أقدم تجربة في تأسيس المجالس البلدية لدينا هي قصبة إربد، وهي مع ‏الأسف أتلفت. وتُعدُّ سجلّات بلديات السلط والكرك وعمّان ومعان ومادبا والزرقاء من أغنى ‏المصادر، وقد تمَّ تناول بعضها من قبل الدكتور هاني العمد والدكتور محمد خريسات والدكتوره ‏هند أبوالشعر والدكتور عبدالله العساف. ‏

هذا ولا تقل سجلّات الكنائس في الأهميّة في رفد مصادر تاريخ الأردن، فهي إحدى دفاتر ‏الديوان الهمايوني في الدولة العثمانية. إنَّ هذه الوثائق هي، في حقيقة الأمر، أحكام أو أوامر ‏كانت تصدر في العادة ردًّا على طلب يتقدَّم به بعض المواطنين المسيحيين، أو اليهود في قرية أو ‏مدينة ما من بلاد الشام أو العراق، أو يتقدَّم بهذا الطلب رئيسهم الروحي المباشر، أو غير ‏المباشر. وهي ذات أهمية قصوى، بوصفها مصدرًا أوليًا لدراسة أوضاع العرب المسيحيين في ‏الولايات العربية من الدولة العثمانية، وسياسة الدولة تجاههم. تشتمل‎ ‎هذه السجلّات على ‏التراخيص الممنوحة للطوائف المسيحية في كافة أرجاء الدولة للقيام بأعمال بناء كنائس جديدة، ‏أو إعادة تعمير، أو ترميم الكنائس القائمة، أو القيام ببعض التعديلات، أو الإضافات كبناء برج ‏للناقوس، أو غرفة للقس. كذلك تشتمل هذه السجلّات على التراخيص الممنوحة للطوائف، أو ‏الأفراد المسيحيين لإنشاء مدارس، أو مستشفيات، أو مياتم، أو دور للعجزة، أو مقابر، أو أيّ ‏مؤسسات خيريّة أخرى. وتشتمل أيضًا على التراخيص الممنوحة للهيئات التبشيرية الأجنبية ‏المختلفة،‎ ‎من كاثوليكية وبروتستانتية، للقيام ببناء الكنائس والمدارس والأديرة والمستشفيات، أو ‏أيّ مؤسسات خيريّة أخرى. ‏

كذلك، تُعتبر قرارات غرف التجارة من المصادر المهمة عند دراسة تاريخنا الاقتصادي، فهي ‏تؤشِّر لمدى التطوُّر الاقتصادي الذي وصلت إليه المدينة في منطقة الأردن أبان الحكم العثماني، ‏وذلك من خلال إيراد أسماء التجار، وأصحاب رؤوس الأموال، والأشخاص المتنفذين في ‏المدينة، ومقدار ثروتهم، فضلًا عن انتماءاتهم، والكفالات التجارية، التي تشكل القسم الأكبر من ‏القرارات. إضافة لما سبق تحتوي قرارات الغرف التجارية معلومات تفصيلية وفريدة عن ‏التجار، والمشاكل التي واجهوها، إضافة للأوزان والمكاييل التي استُخدمت في المدينة، خاصة ‏في الفترة التي سبقت التحوُّل إلى اعتماد النظام المتري، وبيان موقف التجّار من هذا التحوُّل. كما ‏تضمَّنت القرارات معلومات تفصيليّة عن المنتجات الزراعية مثل: الحبوب والخضار والثروة ‏الحيوانية، وبيان الكميات المصدَّرة منها للخارج، والمستهلكة داخل المدينة، وأسعار تلك المنتجات ‏في أوقات مختلفة. وضمن قرارات سجلّ غرف التجارة يلاحظ أنواع العملات المتداولة ‏وأسعارها في المدينة.‏