علي محافظة * هند أبوالشعر * نوفان السوارية صُوَرٌ عن قُرب

د. عبدالله مطلق العساف

باحث وأكاديمي أردني

 

أولئك أساتذتي؛ التاريخ حقلهم التخصُّصي الأكاديمي، لكنَّ مسيرتهم الأكاديميّة والفكريّة الحافلة، ‏وجهودهم المعرفيّة والبحثيّة والتأليفيّة، جعلت كلًّا منهم قامة علميّة فريدة، فالدكتور محافظة ‏مؤرِّخ ومفكِّر شموليٌّ، يرى في التاريخ بطاقة الدُّخول الإجباريّة إلى حقول الفكر والمعرفة ‏وشؤون الثقافة الأخرى. أمّا الدكتورة هند فقد أرسَتْ لونًا من التقاليد البحثيّة التاريخيّة الأصيلة، ‏قد ترقى إلى مستوى المدرسة التاريخيّة، لا سيّما في الدراسات المتعلقة بالأردن. وكان المرحوم ‏الدكتور نوفان أكاديميًّا ملتزمًا، وباحثًا أصيلًا وجادًّا، عمل بدأب لا مثيل له على دراسة السجلّات ‏والوثائق ونشرها، فكان له في هذا المضمار إنتاج علمي وفير، قد لا يدانيه فيه أحد. وأضاء فيه ‏جزءًا مهمًّا من التاريخ الأردني، وأخرجه من عتمة المخازن والسجلّات المركونة، وأتاحه ‏للباحثين والمؤرّخين والمثقفين عامة.‏

 

 

 

الأستاذ الدكتور علي محافظة ‏

الكتابة عن الأستاذ الدكتور علي محافظة والحديث عن سيرته الشخصية، ومسيرته الأكاديمية ‏والفكرية وغيرها، أمرٌ ذو شجون. يجرّك بين مسافتي إغواء الإسهاب، والاسترسال في ‏الإطناب، لا لغرض مقصود في المدح والثناء، وهو من قبل ومن بعد جدير بهما، ويليق شخصه ‏الكبير بهما، لكن لأنَّ الأستاذ المعلّم إنسان ذو تاريخ حافل بالعطاء أوّلًا، ثم هو من بعد مؤرخ ‏ومفكر وأكاديمي وإداري، وجميعها مزايا حصد فيها من الخبرات الكبيرة اللافتة من المعرفة ‏وجليل العلم وثاقب الرُّؤية وحنكة المؤسسة والإدارة، فضلًا عن سجايا الإنسان الحق. وأسبغت ‏على شخصيّته مناقبيّة مُبرّأة من العيب، وترقى إلى الفضائل العليا. فكان بهذا وذاك قامة علميّة ‏فريدة. ‏

وهو وإن تسمَّى مؤرِّخًا امتهن التاريخ وانتسب إليه، فصار حقله التخصُّصي الأكاديمي، إلّا أنه ‏تجاوز هذا إلى معنى المفكر العروبي، بكل ما للكلمة من معنى. فنحن نجده قد استنهض طاقته ‏المعرفية والبحثية والتأليفية في ميادين شتى وحقولٍ متنوّعة المشارب، إلى أن صيّرته مفكرًا ‏أصيلًا، نقديًّا وشموليًّا. وإنَّ الناظر نظرة دقيقة وفاحصة في بطون كتاباته وأوراقه البحثية وغير ‏البحثية، وفي صميم آرائهِ واجتهاداته، تؤكد ما ذهبنا إليه من وصفه بالمفكر الشمولي، فهو ‏استثنائي بمعنىً من المعاني.‏

ما من شك أنَّ زخم الأحداث وتعاقبها على الأمة العربية منذ أكثر من سبعة عقود، وهي من بعد ‏أحداث عاصفة مُزلزلة، وبعضها مصيري بالنسبة للإنسان والكيان، لها أثر جليّ في إنزال ‏الأستاذ محافظة منزلة ثقيلة بوصفه مؤرِّخًا أوّلًا، ومهمومًا بوطنيّته وعروبته ثانيًا أمام مسؤولية ‏كبرى استشعرها وسكنت فؤاده كمثقف ملتزم، فأحسَّ بأنَّ التاريخ، مع أنه يُعتبر الوعاء الحاوي ‏لكل هذه الأحداث، والمعبِّر الرئيس عن أفكار مَن صاغوها وشاركوا فيها، منارةٌ أو بطاقة ‏الدُّخول الإجباريّة إلى حقول الفكر والمعرفة وشؤون الثقافة الأخرى، لأنَّ المفكر بهذا المعنى هو ‏مَن يضطلع بمهمّة تحليل الواقع واستقراء المستقبل، والمتطلِّع دائمًا إلى وضع العلاج الناجع ‏لأوجاع الأمة وأمراضها، وزارع مادّة البعث الجديد لحياتها، فكان أستاذنا على هذا المستوى ‏مفكرًا تنويريًا نقديًا، ملتزمًا برسالته التي آمن بها. كيف لا وقد سبق وأن تشكّل وعيه في مرحلة ‏مفصليّة من تاريخ الحركة العربيّة وهي عقد الأربعينات والخمسينات، أي مرحلة الثورة ‏والمطالبة بالاستقلال والتحرير، ثم هو من بعد عاصر في نضجه الفكري أزمات الأوطان ‏والإنسان في دنيا العرب والعروبة ولا يزال.‏

عند استنطاق حروف كلماته وندواته وكتاباته ومحاضراته الممتدة زمنًا ومدى ثقافيًا طويلًا، ‏نكتشف عمق الإيمان لديه بالمستقبل الأفضل للأمة، فلم يكن من هذه الناحية يائسًا أو سوداويًّا، ‏بل إنّنا نلمس ونكتشف في أفكاره وتحليلاته طمأنينة بالمستقبل، لأنه يثق بتاريخ هذه الأمة، ونحن ‏من جهتنا نثق بتحليلاته.‏

قد يبدو د.محافظة -بنظر بعضهم- في تعبيره عن آرائه وقناعاته، غير مُهادن ولا مُوارب، وربّما ‏كان صادمًا في صراحته ونقده، ومن أنه يثير الشكوك ويزرع الألغام الفكريّة، لكنها جميعًا ‏صفات ضروريّة للمفكر النقدي، ما دام أنه اصطنع لنفسه طريقَ أو موقف الأمين على الأفكار ‏والتاريخ والواقع والمستقبل، فاحتسب ذلك من قبيل الموضوعية والمنهج العلمي الصواب. ذلك ‏لأنَّ دور المؤرِّخ والمفكر أنْ ينفضَ الغبار عن الأشياء، ويفتح الأضابير المختومة لتهويتها، ‏وإعادة النظر في أحداثها وأشخاصها وأفكارها، ولا يكتفي بالوصف والسرد القصصي، بل هو ‏يستقرئ فيها الماضي والحاضر والمستقبل، ويجترح منها الحلول ويستنبط الأفكار الجديدة، نحو ‏النُّهوض والتقدُّم.‏

لعلّ الناظر في كتابات الدكتور محافظة، والمتابع لنشاطاته البحثية والفكرية وإسهاماته الثقافية ‏يلمس عمق شعوره بأنَّ الشعوب العربية تعيش اليوم أزمة حضارية عامة، ما يستدعي الحاجة ‏إلى طلب نهضة شاملة، تعزّزها إرادة مُخلصة للإصلاح والتغيير، بهدي من استنارة العقل. ومن ‏هنا يكون دور المفكر في تجاوز هذه الأزمة.‏

ساهم الدكتور محافظة في إغناء الكتابات التاريخية وتلك الخاصة بالفكر القومي، وإنزاله على ‏أرضية ثقافية وتاريخية مُستقاة من وجع الواقع العربي. وهو اليوم لا يزال يركب الصّعب من ‏الأفكار. يواصل طرح أفكاره بتأنٍّ ودقة وتمحيص وموضوعية، وفوق هذا وذاك بصراحة ‏معهودة فيه، غير ملتبسة بلباس الإثارة والشعبوية، خاض في بطون الماضي لكنه لم يسجن نفسه ‏فيه وفي أفكاره، بل نراه دائمًا يتطلَّع إلى المستقبل نُشدانًا لبعث مجدّد نحو بناء مجتمع عربي ‏ناهض متكامل.‏

تمثَّلت السيرة الشخصية للدكتور محافظة بمحطات عديدة واسعة، تضيق بها الصفحات القليلة، ‏فقد سبق له وأن وضع رحاله في مواقع عديدة، مُؤسّسًا منابر علم ومعرفة، ما يجعله رجل ‏تأسيس بامتياز، جمع أثناءها بين الكفاءة العلمية العالية والنشاط البحثي والتأليفي داخل أسوار ‏الجامعة وخارجها، فضلًا عن عضويّته ونشاطه في هيئات فكرية في الأردن والعالم العربي، ‏فأصاب نجاحًا لافتًا في هذه الميادين، وكان مبرزًا ورياديًّا في أكثرها، وترفّع فيها فوق كل ‏الاستقطابات الضيّقة، فرسم شخصية مستقلة. وهو وإن كان لا يرسم خطوطًا حمراء تحجّم ‏تفكيره، إلّا أنه ليس بصاحب نزعة راديكالية، كونه يؤمن بالتغيير التراكمي والإصلاح الرّشيد. ‏يقول: "لن تنصلح أحوالنا إلّا إذا قرأنا تاريخنا المعاصر وإخفاقاتنا بمنهج علمي صارم ‏ونستخلص العِبَر بأمانة وجرأة".‏

يُسجَّل للدكتور محافظة اقتداره على خيارات التنوُّع في الكتابة بين الوطني والعربي والقضايا ‏الفكرية النهضوية، فهو لم يضِق بالجغرافيا الطبيعية، مثلما لم تضِق به جغرافيا الفكر والثقافة. ‏فقد جاس في هذه الديار وارتاد مسالكها وقضاياها.‏

قال فيه مسعود ضاهر في حفل تكريمه: "علي محافظة قومي محموم لا يُساوم... رافع الرّاية ‏عاليًا بعد أن تخلّى عنها كثير من دُعاة الفكر القومي... تبنّى على غرار قسطنطين زريق ‏والدوري العروبة الحضاريّة، أو العروبة الثقافيّة... برع في رسم مسيرة الفكر القومي العربي في ‏مرحلتي صعوده وانحداره، وحلّل في كثير من دارساته بصورة نقديّة لتاريخهم الثقافي... إنسانيّ ‏النزعة وعميق الانتماء للعروبة، وقد طرح بتفاؤل تاريخي حول قدرة العرب على التوحُّد كمسار ‏حتمي لا غنى عنه".‏

وُلد أستاذنا محافظة في بلدة كفر جايز التابعة لمحافظة إربد في شمال الأردن في 15 آذار ‏‏1938م. وعاش فترة من حياته فيها، بين أسرته الفلّاحية، التي تتَّسم مثلها مثل بقية الأسر ‏القروية آنذاك بالكدح والفلاحة وشظف العيش. التحق بكُتّاب القرية في سن السادسة وأمضى فيه ‏سنة كاملة، حيث تعلّم القراءة والكتابة والحساب، وحفظ عدّة أجزاء من القرآن الكريم بالإضافة ‏إلى الأناشيد والأشعار. ثم ما لبث أن التحق بالمدرسة الابتدائية في قرية "سما" المجاورة لبلدة ‏كفر جايز، حيث أمضى خمس سنوات، وبعد اجتيازه امتحان الدراسة الابتدائية بتفوُّق التحق ‏بمدرسة إربد الثانوية، وحصل فيها على شهادة الثانوية العامة عام 1955م، وكان ترتيبه الثاني ‏في لواء إربد الذي ضمَّ آنذاك أربع محافظات هي إربد وعجلون وجرش والمفرق.‏

أُرسل في بعثة أكاديمية على نفقة وزارة المعارف إلى جامعة دمشق (الجامعة السورية آنذاك)، ‏وفيها حصل على الإجازة في الآداب- قسم التاريخ سنة 1959م، كما حصل على الدبلوم العام ‏في التربية من الجامعة نفسها عام 1960م. عمل بعدها معلمًا في وزارة التربية والتعليم. وفي ‏عام 1962م قرَّرت الحكومة إصلاح وزارة الخارجيّة باستغلال طاقات الشباب الجامعية، فعُيّن ‏في وزارة الخارجية متنقلًا بين سفاراتها (بون، وتونس، والجزائر، وباريس). التحق بجامعة ‏‏"السوربون" الثالثة وحصل فيها على دكتوراه الحلقة الثالثة في الدارسات الإسلامية عام ‏‏1971م، ثم دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة "السوربون" الأولى بباريس ‏عام 1980م.‏

دخل الدكتور محافظة سلك التعليم الجامعي بعد تعيينه في الجامعة الأردنية، وظلَّ حتى عام ‏‏1982 لينتقل بعدها لتأسيس جامعة مؤتة، التي شغل فيها موقع نائب الرئيس بين عامي 81-‏‏1984م، فرئيسها منذ عام 1989م، ثم انتقل بعدها رئيسًا لجامعة اليرموك، ليعود مرّة أخرى ‏إلى عرينه أستاذًا للتاريخ في الجامعة الأردنية، حتى بلوغه سن التقاعد. وهو اليوم يحمل لقب ‏‏"أستاذ شرف" في الجامعة الأردنية، ولا يزال -كعهد الجميع به- ينشط في شتى الحقول وفي ‏مختلف المستويات؛ تدريسًا وإشرافًا على طلبة الدراسات العليا، فضلًا عن نشاطاته الأخرى في ‏التأليف والمحاضرات والندوات.‏

 

‏ ‏

 

 

 

 

هند أبو الشعر الإنسانة والباحثة المتميِّزة

مسيرة تجربة بحثيّة مُشتركة(*)‏

 

 

إنَّ عهدي ومعرفتي بالأستاذة الدكتورة هند أبوالشعر تعود إلى سنوات، كنتُ أحرص قبلها على ‏متابعة أنشطتها البحثيّة وإصداراتها من الدراسات المتخصصة بتاريخ الأردن من جميع مناحيه ‏ومجالاته، كما وأغبطها على هذا الجهد الدؤوب الذي يعزّ نظيره اليوم، وَخِلْتُ كما لو أنَّها بحقّ ‏قد نذرَت نفسها لتاريخ وطنها، إنسانًا وجغرافيا على امتداد مساحة تواجدهما معًا في المدن ‏والبوادي والأرياف، وفي كل مكان سطّر فيه الأردنيون حضورهم وانتماءهم، وكان من نتائج ‏هذا الجهد كثرة كاثرة من الدراسات والأبحاث والكتب والندوات والمؤتمرات التي قامت بها ‏أستاذتنا الفاضلة، وهي لا تزال بالنشاط والجهد والإيمان ذاته تتطلع إلى المزيد والمزيد، لا تَثْبُط ‏لها همّة أو تفتر، فهي الإنسانة المؤمنة على رسوخ من الوعي التاريخي أنَّ الوطن الأردني يُعتبر ‏كنزًا تاريخيًّا في الماضي والحاضر، وأنَّ هذا التاريخ لا يزال بحاجة إلى أن نبحث عن مصادره ‏ووثائقِه ونفتِّش عن رُواته وراياته، وأن نُشبِعَه نقدًا وتوثيقًا ونشرًا لأنه يُجسِّد حضور الإنسان ‏الأردني في الماضي والحاضر، في عيشه اليومي، ونشاطه الحضوري على هذه الأرض.‏

منذ حوالي عقدين من الزمن بدأ اهتمامي بتاريخ الأردن والدراسات التي تخصّ هذا التاريخ، لا ‏سيما التاريخ المتعلق بالراوية الشفوية أو ما يُعرف بالتاريخ الشفوي، وهو حقل ثري جدًا ‏بالمعلومات اللازمة للدراسات التاريخية. ‏

وانطلاقًا من مدى ثقتي باحترافيّة وأكاديميّة أستاذتنا وخبرتها الطويلة، تشرَّفتُ في التعاون معها ‏والتشارك في أعمال ودراسات تاريخية مشتركة، وقد أثمر هذا التعاون عن عدد من الإصدارات ‏والكتب، ولا يزال عهدنا في هذا التعاون قائمًا، ونأمل أن يثمر الكثير من الدراسات.‏

لقد تشرَّفتُ، فوق ما سعدتُ، بالعمل مع الباحثة الأكاديمية المؤرخة الجادّة والملتزمة بحدود ‏الصرامة المنهجية الأستاذة الدكتورة هند أبوالشعر في بعض الأعمال البحثيّة التي كان لها أثرٌ ‏كبيرٌ على خبرتي في الكتابة التاريخية. وأشعر أنني مَدِينٌ لها بحق قبل وأثناء فترة عملي معها ‏بجُلِّ ما استفدتُه واكتسبتُه من جوانب معرفيّة ومنهجيّة أنارت أمامي الكثير من الدروب الصعبة ‏والشائكة في نطاق البحث التاريخي.‏

كان يقيني الهادي يذكِّرني دائمًا بنموذجها المبدع، فأستلهم مثابرتها البحثيّة وجهودها الأكاديميّة ‏المستمرّة، إلى أن صنَعَتْ عندي دافعًا قويًّا ورغبة أكيدة لأن أحذو حذوها، وأختطّ طريقها ‏ونموذجها بخصوص دراساتي في تاريخ الأردن. ولا عجب، فإنَّ الدكتورة هند لم تقتصر ‏جهودها في هذا الكمّ الوافر من الدراسات والكتب والأنشطة المتعددة، بل إنَّ ما قامت به طوال ‏مسيرتها أجزم أنه أرسى لونًا من التقاليد البحثية التاريخية الأصيلة، قد ترقى إلى مستوى المدرسة ‏التاريخية، لا سيما في الدراسات المتعلقة بالأردن، وهذا شيء غير منكور وغير مُستغرب ‏خصوصًا لشخص مثلي عرف الدكتورة هند من قرب وعن كثب، واطَّلع على مقدار الشَّغف ‏عندها في تأصيل الدراسات التاريخية، ونقدها وتمحيصها، وتسجيلها بكل أمانة وموضوعيّة، ‏وبحسِّ تاريخي ومنهجي راكز وثابت، لأنها تستشعر دائمًا أنَّ مسؤولية المؤرخ، مسؤولية لا ‏تدانيها مسؤولية، فهو المؤتمن على وعي الأمة والمجتمع، وذاكرة الشعب ووجدانه، وعن حضور ‏الأوطان في هذا التاريخ. ما يستوجب الأمانة والموضوعية والحرص على تسجيل الحقيقة التي ‏سوف تنتقل للأجيال القادمة.‏

كانت الدكتور هند وأثناء عملنا المشترك تحرص دائمًا على تشجيعي، فضلًا عن تفضُّلها بقراءة ‏دراساتي البحثيّة، ولا أنسى فضلها وقيمة ملحوظاتها الذكيّة الدقيقة التي طالما أفدتُ منها، ‏وجنَّبتني الكثير من العيوب المنهجيّة وغير المنهجيّة. ولذا فإنَّني إذْ أسجِّل شكري للدكتورة ‏واعتزازي بهذه التجربة البحثية معها، أعترف بأنَّها تجربة أكثر من غنيّة وأزْيَد من الفائدة ‏والخبرة التي حصلت عليهما، وأنا أحرص كثيرًا على مواصلة التعاون معها في الأعمال البحثية ‏التاريخية، نحو مزيد من الدراسات التي تؤرِّخ للأردن مكانًا وإنسانًا، وفي كل جغرافيا حضور ‏الإنسان الأردني ماضيًا وحاضرًا على أرض هذا الوطن.‏

‏***‏

أستطيع الجزم أنَّ تجربتنا مع السجلّات البلديّة كانت أكثر من غنيّة وممتعة ومثمرة في الوقت ‏ذاته، وكان حرصنا دائمًا -ونحن نؤرِّخ للمناطق والمدن التي درسنا وثائقها- أن نستعينَ بأقدم ‏السجلّات الخاصة بالمجالس البلديّة، التي تحتوي على معلومات غنيّة ومتنوِّعة تفيد الدراسات ‏التاريخيّة فائدة عظيمة.‏

فقد اشتملت هذه السجلّات على تدوينٍ وافٍ وتفصيليّ لنشوء المرافق والمؤسسات، وأنشطة ‏الخدمات المختلفة، ومعلومات تخصُ أهاليها وقاطنيها، فضلًا عن مراحل نشوء الحكم المحلّي ‏فيها وتطوُّره، ولذا فقد حرصنا على تضمين الدراسات والكتب قراءة تفصيلية وافية تخص ‏البدايات الأولى لنشأة القرى والبلديات والمراكز الحضرية الأُخرى، كوحدات إدارية للحكم ‏الإداري والأهلي. ‏

كما كنّا نُضمِّن هذه الدراسات بكثير من الصور التاريخية النادرة والجميلة التي تخص هذه المدن ‏والقرى، وتعكس بطبيعة الحال مظاهر الحياة المختلفة فيها، فضلًا عن أنماط العيش والعمران.‏

‏***‏

لقد أثمرت شراكتي البحثيّة مع الأستاذة الدكتورة هند عن حصادٍ جيد كان حصيلة جهود كبيرة ‏لكلينا، وتمثّل في عدد من الإصدارات المنشورة في كتب، وقد كان الإصدار الأوَّل لنا من ‏سجلّات البلديات بعنوان "مادبا الملامح الاجتماعية والاقتصادية من خلال سجل ومقررات بلديّة ‏مادبا"، ويُعدُّ السجلّ البلدي المعتمد للتحقيق والدراسة في هذا الكتاب أقدم سجلّ لمقررات بلديّة ‏مادبا والذي يعود تاريخه إلى عام 1923م حتى عام 1927م، وقامت وزارة الثقافة مشكورة ‏بنشر الكتاب ضمن إصداراتها لمدينة مادبا مدينة للثقافة الأردنية لعام 2012م، ومن خلال ‏مقرّرات ومحاضر المجلس البلدي يمكن للقارئ في هذا الكتاب أن يتعرَّف إلى ممارسات الحكم ‏المحلي في بدايات عهد إمارة شرقي الأردن، والملامح الاجتماعية والاقتصادية لبلدة مادبا في ‏تلك الفترة.‏

وأمّا الإصدار الثاني المشترك بيننا، فجاء في كتاب "الزرقاء النشأة والتطوُّر 1903-1935"، ‏وتمَّ رصد نشأة قرية الزرقاء وتطوُّرها، وتحوُّلها إلى بلديّة بتأسيس أوَّل مجلس بلدي فيها. ‏وتناولنا فيه الملامح الاقتصادية والاجتماعية من خلال سجلّات مقرّرات أوَّل مجلس بلدي ‏للمدينة، وألحق بالكتاب ملف مُصوّر. وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة كتاب الشهر، التي ‏تصدر عن وزارة الثقافة، كتاب رقم "174"، للعام 2014.‏

وجاء الإصدار المشترك الثالث بيننا، بعنوان "معان المظاهر الاجتماعية والاقتصادية من خلال ‏سجلّ مقرّرات مجلس البلدية 1929-1931م، وتضمَّن دارسة وتحقيق لأقدم سجلّات بلديّة ‏معان، فضلًا عن تضمينه ملف صور لبلدة معان ورجالاتها. وتكمن أهميّة هذا الكتاب والذي ‏صدر ضمن منشورات البنك الأهلي لعام 2016م من جهة رصده لمرحلة انتقال معان من حدود ‏مملكة الحجاز إلى أراضي إمارة شرقي الأردن عام 1925.‏

إنَّ ما يجدر ذكره هنا أنَّ عملنا البحثي المشترك مُستمر إلى اليوم بِخُطَىً حثيثة، ونأمل بحول الله ‏وتوفيقه أن يُتوّج هذا الجهد بإصدارين قريبين، أولهما عن مدينة عجلون الملامح الاجتماعية ‏والاقتصادية من خلال سجلّات عقود الزواج، وثانيهما، دراسة عن الثورة العربية من خلال ‏الصحافة العربية في الداخل والمهجر، مُؤملًا أن تزدهر المسيرة البحثية المشتركة وتستمر في ‏قادم الأيام.‏

‏***‏

وختامًا، لا بُدّ لي من إزجاء الشكر والعرفان للدكتورة هند، على كل ما أبدته وتبديه من لطف ‏وتعاون وسخاء معرفي ومنهجي، والشكر الموفور لها على تحمُّلها للجهد العظيم أثناء إعداد ‏الدراسات وتدقيقها للسجلّات والوثائق لمرّات عديدة، بعين فاحصة وحسٍّ بحثيّ عالي المسؤولية، ‏ولا يفوتني أن أذكر أستاذتنا في جانبها الإنساني وشخصها النادر، وما تتمتَّع به من مناقبيّة ‏أكاديميّة وأخلاقيّة ووطنيّة وإنسانيّة وخلق علمي قلّما نجد نظيره اليوم. فكل التقدير والاحترام ‏والودّ للأستاذة الدكتورة هند أبوالشعر على ما قدَّمته وتقدِّمه في مجال الدراسات التاريخيّة. ‏

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تجربتي البحثيّة ‏

مع أستاذي الدكتور نوفان السوارية

 

تعرَّفتُ إلى أستاذي المرحوم الأستاذ الدكتور نوفان السوارية في وقت كان يعمل فيه في قسم ‏الوثائق والمخطوطات التابع لمكتبة الجامعة الأردنية وذلك عام 1994، وكنتُ حينها أحد طلبة ‏قسم التاريخ في الجامعة، فقد اصطحبَنا الدكتور فالح حسين، الذي كان يدرِّسنا مادة البحث ‏التاريخي، إلى مركز الوثائق للتعرُّف على محتوياته، وهناك حدَّثنا الدكتور نوفان السوارية عن ‏محتويات المركز، كما أطْلَعَنا على عدّة مخطوطات وسجلّات نفيسة وحدَّثنا عن محتوياتها، وكان ‏يُظهر حرصًا شديدًا في التَّعامل معها.‏

قمتُ بعد ذلك بتسجيل مادّة "تاريخ الأردن" مع الدكتور نوفان السوارية، وأحسستُ عندما كان ‏يحاضر فينا أنَّ حديثه في المحاضرات كان معبِّرًا عن مدى عمق الانتماء والحب عنده لهذا ‏الوطن الأردني. وقد أبدى خلال محاضراته مناقبيّة شخصيّة غاية في اللُّطف والطيبة والدّماثة ‏في الأخلاق، برز ذلك من خلال تعامله الدافئ والودود مع طلبته.‏

كنتُ في السنة الأولى من دراستي في الجامعة الأردنية شابًا متقدًا حماسةً ونشاطًا، وصادف ‏حينها أنْ كان المرحوم الدكتور نوفان والدكتورة غيداء خزنة كاتبي يعملان على تنشيط وتحفيز ‏طلبة قسم التاريخ، ويسعيان إلى إشراكهم في نشاطات مختلفة، فكان أنْ قاما بتشكيل لجنة ثقافيّة ‏لطلبة قسم التاريخ من قِبَل الطلبة تكون معنيّة بالنشاطات المختلفة لطلبة القسم، وأن تكون في ‏الوقت نفسه حلقة اتِّصال بين الطلبة والأساتذة أعضاء الهيئة التدريسيّة، وتعمل على تفعيل ‏الندوات وإصدار مجلة حائط، والنشرات لا سيما نشرة "اقرأ"، هذا فضلًا عن نشاطات تعنى ‏بالرحلات والاحتفالات بالمناسبات المختلفة.‏

وكانت اللجنة تُشكَّل بطريق الانتخاب، ويعنى بها إشرافيًّا الدكتور نوفان والدكتورة غيداء. ولمّا ‏كنتُ أحد الطلبة الذين فازوا بعضويّة هذه اللجنة "رئيسًا"، فقد أتيحت لي الفرصة للتقرُّب أكثر ‏من أستاذي المرحوم الدكتور نوفان الذي حفَّزني إلى دراسة تاريخ الأردن في مرحلة الماجستير، ‏فقد كان يقول: إنَّ التخصُّص في تاريخ الأردن يُعدُّ حقلًا بكرًا في البحث، فالتاريخ الأردني لم ‏يُبحث بعد، فثمّة موضوعات كثيرة فيه يستلزم بحثها ودراستها.‏

عند انتهائي من دراسة مرحلة البكالويوس في التاريخ، التحقتُ ببرنامج الماجستير في الجامعة ‏الأردنية، وكنتُ حينها عازمًا على الكتابة عن تاريخ الحركة الوطنيّة الأردنيّة من خلال ‏الشخصيّات الوطنيّة التي كانت لها بصمات واضحة في تاريخ الأردن المعاصر. وشعرتُ حينها ‏أنَّ التوجُّه العام في القسم هو تحاشي الكتابة في بعض الموضوعات الوطنيّة التي تُعدُّ حسّاسة، ‏خاصّة ما يتعلق منها بالسلطة والنظام، علمًا بأنَّ الشخصية الوطنيّة التي كنتُ أرغب في الكتابة ‏عنها كانت شخصيّة معارضة لسياسة نظام الحكم. وبالفعل قمتُ -على الرغم من عدم رغبة ‏القسم آنذاك- بتسجيل الموضوع وإقرار الخطّة، وذلك أمام إصراري على البحث والكتابة في هذا ‏الموضوع الذي يُعدّ (تابو) محرَّمات آنذاك في الدراسة الأكاديميّة. ووافق القسم على تسمية ‏مشرف لي، والذي وافق بدوره على الموضوع، لكنَّني لمستُ منه الحذر الشديد، وبالفعل وبعد ‏مضيّ سنة تقريبًا على البدء في البحث، بدأت المشكلة عند إصرار المشرف على تغيير عنوان ‏الرِّسالة، لكنَّني بقيتُ على موقفي الرافض لذلك، لقناعتي أنَّ مثل هذا الموضوع في التاريخ ‏المعاصر للأردن جدير بأن يُطرق ويُبحث بموضوعيّة وأمانة علميّة وأكاديميّة، وأنَّ الإنسان ‏الأردني من حقّه أن يعرف تاريخ وطنه من جميع الجوانب.‏

أخيرًا، تمَّ استبدال المشرف لرفضِه المُواصلة، وكان البديل هو أستاذي المرحوم الدكتور نوفان، ‏وكنتُ أوَّل طالب يشرف عليه في القسم. وقد كان رحمه الله يتوخّى الحيطة والحذر من ناحية ‏المعلومات والمنهجيّة في كل ما أكتبه، كون الموضوع بالنسبة له في غاية الحساسيّة من نواحٍ ‏عدّة. وكان يعمل على إعادة توجيهي، كما وإعادة الصّياغة، والتّلطيف من حدّة اللغة ومنسوب ‏الأفكار الواردة، كما حثَّني على حذف بعض الفقرات التي كان يعتقد أنَّها لا تناسب الطَّرح. وكان ‏في كل إرشاداته وتوجيهاته لطيفًا وطيّبًا وودودًا. يقرأ ما أكتبة بجديّة وعمق وتمحيص شديد ‏بالنَّظر إلى إدراكه لحساسيّة الموضوع، ومحاذير الخوض فيه.‏

وكان رحمه الله يقول: "هذه تُعدُّ من المحظورات قولًا وبحثًا وكتابةً، وأنت تكتب في حقل ألغام. ‏ولذلك يتوجَّب عليكَ أن تأخذ بملحوظاتي كلها، إلى أنْ أصلَ بك بّر الأمان، ومن ثم تتعدّى ‏المرحلة، وعندها تكتب ما تشاء وبالقناعات التي تشاء".‏

لقد أحسستُ دائمًا أنَّ الدكتور نوفان كان مثلي مُستشعرًا خطورة هذه الموضوعات، وأنه كان ‏يعيش الحذر في الكتابة في هذا الموضوع، إلّا أنه من جانب آخر كان يبدو راضيًا بل ومسرورًا ‏بما أكتب. وبعد مخاضٍ عسير انتهيتُ من الدراسة، وكان عليّ أن أتقدَّم للمناقشة. وأحسب أنه ‏كان متخوّفًا من نتيجة المناقشة، وهذا تخوُّف مشروع. وكانت النتيجة "التعديل الجذري"، متضمّنًا ‏العنوان والمحتوى والمصادر وغيرها. كنتُ حزينًا جدًا، لكنه بفضيلته المعهودة شاطرني الحزن ‏نفسه، لكن وللحق أقول كان صلبًا في موقفه، ووقف إلى جانبي في شأن التعديلات، وبذل جهدًا ‏كبيرًا في إقناع أعضاء لجنة المناقشة بمدى الجهد البحثي الذي قدَّمته في الدارسة.‏

وبعد إجراء التعديلات المطلوبة، وحذف بعض الموضوعات التي ارتأت اللجنة أنها حسّاسة، تمّ ‏منحي الدرجة والموافقة على الرِّسالة.‏

استمرَّت العلاقة الوثيقة بيني وبين أستاذي الدكتور نوفان، وكانت أقرب إلى الصداقة منها إلى ‏العلاقة بين الأستاذ وطالبه، ومن وجهتي فقد داومتُ على التردُّد عليه وزيارته حيث مركز عمله ‏في مركز الوثائق والمخطوطات، أطمئنّ على أحواله، وأتزوَّد من كثير من إرشاداته البحثيّة. ‏وكذلك بعد تسجيلي في برنامج الدكتوراه وانتهائي من المواد واصلتُ التردُّد عليه وكان لا يبخل ‏عليّ في المساعدة والإجابة، مع مشرفي، وكان حينها الدكتور محمد خريسات.‏

كان موضوع أطروحتي في الدكتوراه عن "ثورة البلقاء"، الذي هو جزء متمِّم لرسالة الماجستير ‏التي أشرف عليها الدكتور نوفان، وكان عنوانها "ماجد العدوان". وكان أستاذي المرحوم أحد ‏أعضاء لجنة المناقشة. وأذكر أنه أبدى إعجابه فيما كتبت، وقدَّم ملحوظات قيِّمة، ساهمت في ‏إثراء الدراسة. ‏

عندما تخرَّجت من مرحلة الدكتوراه، قمتُ بكتابة بحث لي لغايات النشر، وارتأيتُ أن أعرضه ‏على الدكتور نوفان لكي يقرأه ويبدي ملحوظاته، وعندما انتهى منه قال لي: "أنت باحث جيد ‏استمرّ في هذا النهج"، فعندما اختيرت مادبا في عام 2012 مدينة للثقافة الأردنية، وكان الدكتور ‏نوفان هو المشرف على إعداد الحقل التاريخي في موسوعة مادبا التي كان يجري إعدادها في ‏هذه المناسبة، هاتفني هو رئيس اللجنة وأخبرني أنه وقع عليّ الاختيار لأكون ضمن فريق ‏الباحثين، وتكليفي بكاتبة الحقل التاريخي لمدينة مادبا. وافقتُ حينها بلا تردُّد وبدأتُ الكتابة في ‏الموضوع، وكنتُ على تواصل مستمرّ مع الدكتور نوفان الذي عرفتُ فيما بعد أنه هو الذي ‏رشَّحني للكتابة عن مدينته مادبا التي أحبّها، وعندما كنتُ أنهي فصلًا أزوِّده به ليطّلع عليه. ‏وأذكر أنه في إحدى المرّات اتَّصل بي الدكتور نوفان هاتفيًّا وكان مسرورًا حيث قال لي: "هذا ‏هو التاريخ الحقيقي لرجالات مادبا، أبدعتَ في إظهار ذلك، واصِل الكتابة على هذا النَّهج". ‏وكنتُ قد تناولتُ فيه التاريخ السياسي للمكان والإنسان الذي تعرّض لدور أهالي مادبا وجوارها ‏في التاريخ الأردني، وقد ابتعدتُ بذلك عن المنهج السابق المُتَّبع من قِبَل المؤرخين الذين كتبوا ‏عن المدن الأردنية؛ ممّا أعجب أستاذي الراحل الدكتور نوفان.‏

كنتُ أتحيَّن الظروف أو المناسبات لكي أقوم بعمل بحثي مشترك مع أستاذي الدكتور نوفان. ‏وكرَّرتُ طلبي عليه عدّة مرّات، ولكنه كان يتعذّر لانشغاله الدائم في البحث، وحدث أنْ قرأتُ له ‏بحثًا كان قد أعدّه عن عمّان من خلال سجلّات المحاكم الشرعيّة وذلك عندما كان طالبًا، ‏فخطرت لي فكرة على تطوير البحث وتحقيق الوثائق التي اعتمد عليها ونشرها في صورة ‏كتاب، ذهبتُ إليه واقترحت عليه ذلك، فوافق. والحق أقول إنَّني كنتُ سعيدًا في موافقته كوني ‏كنتُ راغبًا أن أشاركه في تأليف كتاب عن الأردن. وعملتُ إثر موافقته على الإعداد البحثي ‏للموضوع، بيد أنَّ المرض الذي ألمَّ به عاجله، وتوقَّفت الفكرة عند هذا الحدّ. حرصتُ من باب ‏الوفاء لأستاذي المرحوم على الاتِّصال به باستمرار للاطمئنان على صحّته وأحواله والتَّواصل ‏معه في المناسبات والأعياد.‏

لقد كان أستاذي العزيز الدكتور نوفان أكاديميًّا ملتزمًا بمتطلّبات هذا المسمّى الجدير بالاحترام، ‏وباحثًا أصيلًا وجادًّا، عمل فترة طويلة بدأب لا مثيل له على دراسة السجلّات والوثائق ونشرها. ‏فكان له في هذا المضمار إنتاج علمي وفير، قد لا يدانيه فيه أحد. وأضاء فيه جزءًا مهمًّا من ‏التاريخ الأردني، وأخرجه من عتمة الغرف والمخازن والسجلّات المركونة، لكي يطّلع عليه أبناء ‏هذا الوطن، من باحثين ومؤرّخين ومثقفين وعامة الأفراد المهتمين بالشأن الوطني.‏

المرحوم الدكتور نوفان يُعدّ من هذه الناحية شهيد الوطن، لأنه عمل بدأب وجهد لا يلين في سبيل ‏إنارة جزء مهم من التاريخ، وهذا بالإضافة إلى تعليم أبناء الأردن عن تاريخهم المجيد، فألمَّ به ‏المرض نتيجة ذلك، فقد قال لي الدكتور نوفان رحمه الله عند آخر زيارة لي في منزله للاطمئنان ‏عليه: "أنا استنفدتُ حياتي وأنا أبحث وأكتب عن تاريخ الأردن. ولم أكن أجلس مع أبنائي بالقدر ‏نفسه الذي كنتُ أجلسه بين الوثائق والسجلّات".‏

لقد اعتدنا على لقاء أستاذنا العزيز بمركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية إذْ أصبح ‏مرجعًا مهمًّا لنا لا يمكن تجاهله، كما أصبحَت كتبه كذلك. لذا نهيب برئاسة الجامعة الأردنية ‏بإطلاق اسم الدكتور نوفان السوارية على إحدى القاعات في المركز.‏

 

‏- - - - - - - - -  ‏

‏(*) شهادة مقدّمة من د.عبدالله العساف، ألقيت في الاحتفالية التي أقامتها جامعة آل البيت يوم ‏الاثنين 30/ 4/ 2018م تكريمًا للدكتورة هند أبوالشعر.‏