تشظّي الاختراق: بين لغة التّصوُّف والبحث ‏ رشيد القريشي وأنسنة الأبجديّات

د. شريفة بنزايد

ناقدة وباحثة تشكيليّة- تونس

 

مثَّلت الرُّموز والأوشام والزَّخارف هويّة متساكني شمال أفريقيا، وهي شعار ثقافي متميِّز ‏يلخِّص طريقة عيش سكانها إلى جانب معمارها الفريد، وهنا يمكن أن نتحدَّث عن ثقافة ‏بصريّة سخيّة تقوم على أساس تنمية الحسّ الوجودي للذّات البشريّة بما فيه من صور بصريّة ‏تجسّد ذاكرة لأنماط متتالية، وهو الأمر اللافت في أعمال الفنان "رشيد القريشي" حيث يأتي ‏العمل الفنّي في شكلٍ متماسكٍ متراصّ بالكلمات والخطوط الإيحائيّة والرمزيّة المقروءة وغير ‏المقروءة، دون أن ننكر عليها قيمتها الجماليّة والتشكيليّة.‏

 

‏"كيف يُتنج النّص وقعًا جماليًّا خاصًا؟ وكيف يُنتج النّص مدلوله الجمالي والأيديولوجي في ‏الآن نفسه؟"(1). إنَّ تمفصل تجلّي الدلالات يفرزه تراكم المعارف والخبرات، وهو إدراك ‏الإنسان لظواهر متعدّدة تدفعه للتساؤل والتمعُّن عن حقيقتها وماهيّتها. وفكرة العلامة والرمز ‏هي فكرة يمكن إدراكها من خلال الآثار التي تتركها عوامل مختلفة على الأشياء، سواء كانت ‏حيّة أو جامدة، فهي مرتبطة بحواس معيّنة، بحيث إذا زالت هذه الحواس فإنّنا نعي مروره من ‏خلال التفكير. إنّه تجريد فكري يعي مكانة هذه الإفرزات الثقافية مع الزمن بشكل واضح، ‏خاصة فيما يلحظه من التغيّرات التي تشهدها طبيعة العيش عند الشعوب، فالمجال الجمالي ‏أطلّ في أساليب حياتيّة تبدو في ظاهرها بسيطة ولكنّها موغلة في التّرميز، سمحت للدّارس ‏بالتكهّن بمضامين دقيقة عبر منهج التحليل، فهو يتمثّل ويتصوَّر ويتخيّل ضمن هندسة المكان، ‏أو ما يمكن تسميته في المبحث البيولوجي "المحيط"، ليصل إلى التّشكل المؤثث تأليفيًّا وإنشائيًّا ‏للفضاء، والأثر الفنّي كان مجالًا خلاّقًا لمثل هذه الرموز. ‏

ويكون حضور الزَّمن في هذه الأعمال، حضورًا اصطلاحيًّا، وذلك في الإتيان ببعض الرُّموز ‏الملتحمة بعبارة الزمن، ومثال ذلك الأوشام والرُّموز البربريّة المجسّمة في نقوش متنوعة مع ‏ما أنتجته الثقافة العربيّة الإسلاميّة من زخارف وخطوط عربيّة.‏

إنّ هذه الرموز والأوشام والزخارف مثّلت هويّة متساكني شمال أفريقيا، وهي شعار ثقافي ‏متميِّز يلخِّص طريقة عيش سكانها إلى جانب معمارها الفريد، وهنا يمكن أن نتحدَّث عن ثقافة ‏بصريّة سخيّة تقوم على أساس تنمية الحسّ الوجودي للذّات البشريّة بما فيه من صور بصريّة ‏تجسّد ذاكرة لأنماط متتالية، وبالتالي تنفتح على المشهد الفنّي. إنّه انفتاح على الآخر في شكله ‏الحضاري والثقافي.‏

إنّ ما يجذب الفنّان لهذا التراث المتجدّد بأشكاله الثقافيّة والجماليّة بالأساس هو مواكبته للحياة ‏بالشكل؛ الأمر الذي يبعث في روح الفنان طاقة وقدرة خلّاقة وهو ما يحفز المصمّم في ‏مواكبة هذه البيئة الخصبة، إذْ هي بنية فكريّة تماهت مع الطبيعة فأعطت أُكُلها التّشكيلي، ولم ‏يفلتها "رشيد القريشي"؛ ذلك الفنان ذو العين والخلفيّة الثاقبة.‏

إنّها عوامل خصبة لأيّ عمل فكري أو تطبيقي يمكن أنْ تنتُجَ معها أعمال وأعمال... تخدم هذا ‏الصرح الثقافي ليبقى سجلًّا يقدِّم هذه الحالة الثقافية كأسلوب حياة كانت ولا زالت تنسج ثوبًا ‏فكريًّا له صلة بكثافة وتدفّق جمالي.‏

والعلامات التقليديّة الجماليّة تزخر بتشكيلات لا متناهية تعتمد على المستقيم والمنكس ‏والمنحني، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على بنية فكريّة ذات أبعاد عقلانية، في إشارة ‏صريحة إلى الرمز العقلاني للإنسان، وإن كان دليلًا قاطعًا على الإنتاج الفكري بالأساس، ‏ضمن جدلية البقاء والفناء... الذكرى والجسد... يولد صراع الحياة التي يزاحمها الموت ‏والمتمثل في القدر المحتوم مقابل الامتداد في الزمان، وكأنها تعيد صياغة حياة جديدة في ‏اتجاههما العامودي، في رمزية للبقاء والصمود والانتصاب المقتصرة على الذات الإلهية، ‏وكأنَّ الروح حين صعودها تستمد الخلود من الذات الإلهية باعتبار أنَّ النفس خالدة والجسد ‏فان، في تحدّ لذاكرة النسيان، وهنا يظهر التّحدي للتّاريخ وإلى الماضي والذي غالبًا ما يكون ‏سجّانًا، وما يعطي إلا الذكرى... فالرّمز والعلامة والخطّ هي وسائل تعبيريّة للغة تعبر عن ‏الانتماء والجذور؛ معها يحيلنا المسار الفكري على طبيعة التخاطب والتفاهم التي كان عليها ‏معاصروها، وهو بالضرورة ما يقتضي الرجوع إلى التاريخ، أي إلى ما مضى، وبعث ‏مؤهلات الحياة فيها لتكون تعبيرًا صادقًا عن الزمن التي تنسب إليه، فإن حافظت على شكلها ‏وجوهرها أصبحت أيقونة الفكر والوجود.‏

إنها مواقعة بالتراضي بين فكر خصب وتشبُّع بالإلهام ورموز غنيّة استُبيحت للفنان لتكون ‏قرابين تشكيليّة لما توفره من متعة بصريّة، فهو نقش حروف وأوشام تبدع في رسم تكشّفات ‏صوفيّة وفلسفيّة وكأنّ جمال الشكل يتجاوزها إلى عمق المعنى...‏

فالكتابة والرسم في أعمال "القريشي" تمارس دورها في تثبيت شواهد تاريخيّة امتزجت بين ‏قوم العرب والبربر؛ وهو ما يعطيها أهميّة تاريخيّة، أو بعبارة أوضح أهميّة لزمن إنجازها ‏باعتبارها تراثًا، لتتوالى وتتواصل مع الأزمنة الأخرى، حيث تتضمّن هذه الكتابات كل شيء ‏بما فيها الإنسان، أو سيرة موجزة عنه، ليأتي العمل الفنّي في شكل متماسك متراص بالكلمات ‏والخطوط الإيحائية والرمزية المقروءة وغير المقروءة، دون أن ننكر عليها قيمتها الجماليّة ‏والتشكيليّة.‏

ربَّما يكون ما تحييه فينا من جوّ نفسي وقراءة فنيّة لإمكانها أن تكون شكلًا معبّرًا للفن ‏المعاصر أو أثرًا مطبوعًا في بقايا ذاكرتنا لهذه الأشكال، في ملامسة للزمن عن طريق الكتابة ‏على محامل بطُرُق مُغايرة للمألوف تحمل معها هذه المادة الثقافيّة من ثقل تاريخي قديم، ‏وتتعامل مع فضائها بشكل متوازن. وإن كانت هذه النقوش غير مألوفة بما تحمله من غموض ‏في صعوبة فهمها، إلّا أنها تحمل معانٍ تخترق زماننا الحاضر في رمزيّة لكتابة قديمة ‏ترميزيّة بالأساس قد اندثرت باندثار أصحابها، وكأنّه سجلّ لتثبيت هوية عن مرحلة فاتت في ‏زمن قد مضى ليبقى حاضرًا بآثاره حضور الغياب، فلا نعيش اللحظة نفسها مرتين، ولكن ‏يمكن استحضار الزمن الماضي لينمو ويتجدّد في استدعاء لزمن كنّا نعدُّه مضى، إلا أنه ‏حاضر حضورين؛ حضور فعلي وحضور بأثر الغياب، في صياغةٍ خطيةٍ وكأنه نوع من ‏بعث الحياة في تناسخ روحي لهذا النوع من الخطّ والرّمز والعلامة لتعيش ممّا اكتسبته نقوشه ‏من جماليّة.‏

 

الفضاء الوهمي

في الفضاء اللّوحة، تتعدّد القراءات وتتشكل الرؤى الفنية ولكن من المؤكد أنَّ للبيئة المحليّة ‏والمعيشيّة المحيطة بالقريشي التأثير الكبير في أعماله الفنية وفي هذه اللوحة، لا تكاد تغيب ‏المرجعية الثقافية له في إطار استغلاله لتراثه المحلي، وأيضًا بتأثره بالحركات الفنية كونه ‏يعيش في الغرب، فامتزجت أشكاله البنائية والمضمونية كنتاج لثقافتين مختلفتين، فجاهَرَ في ‏إبراز المادة في الفضاء ومدى قدرة الكتابة في انطلاق هذا الهاجس الذي خبره أحيانًا في ‏فضاء ثنائي لأبعاد توهمنا بعمقه، ويتحوّل إلى فضاء ثلاثي الأبعاد، في صراع متكامل بين ‏خلفية مستقلة، في خطوط وكلمات مقلوبة من اليسار إلى اليمين، غامضة المعاني، دقيقة ‏الخطوط، لا تكاد تميّز هل هي مكتوبة أم محفورة، بحضورها النّحتي لها تأثير قوي على شكل ‏اللطخات السميكة والغليظة والتّي تأتي في المستوى الأوَّل من اللوحة، في جمعه للتضاد بين ‏الخطوط الرقيقة والصغيرة وبين الشكل المقرّر تقريبًا في جلّ أعماله توحي بالهيئة الإنسانية، ‏خطوط متشابكة سميكة، لها ثقلها ووزنها في العين من خلال صلابتها وحجمها لتكتسب سُمكًا ‏بالمقارنة مع خلفيّتها التي يتغيَّر نظامها، فشكل الكتابة يستدعيك إلى القراءة من كل الجوانب، ‏جانب يطغى عليه الكتابة الأفقية في أسطر تراتبية وأخرى دائرية أقل سمكًا وكثافة، وتبقى ‏الكتابة بالمقلوب هي المسيطرة على الخلفية بجميع أشكالها وسُمكها...‏

ربما ينمُّ هذا النمط من الكتابة على رؤية معيَّنة وفلسفة خاصة للقريشي "أنت حينما تنظر ‏لنفسك في المرآة ترى وجهك مقلوبًا، ولكن الآخر يراك بصدق كما أنت....الناس بجهل ‏يأمرون أطفالهم بفعل أشياء لا تتماشى مع المنطق، ولكن عمومًا الطفولة هي التي ‏أجبرتني على الكتابة، كتابة أيّ شيء بالمقلوب"(2).‏

وهنا، نتساءل: هل فعلًا الطفولة هي التي أجبرته على الكتابة بالمقلو،ب أم لأنه بطبيعته يكتب ‏باليد اليسرى؛ الأمر الذي يجعله أكثر مرونة في الكتابة من اليسار إلى اليمين؟ فهذه الكتابة ‏بدقتها وبمختلف اتجاهاتها تشعرنا وكأنَّ سُمكَ اللطخات الكبيرة ستلتهمها بسوادها المهيب، ‏لتستنجد بقوة تكرارها وكأنها حين تُكرَّر تثبت وجودها إلى جانب سواد هائل وسميك، أو ربما ‏يستند القريشي في عملية التكرار هذه إلى خلفيته الصوفية، استنادًا إلى مقولة "ما تكرَّر ‏استقرّ"، ليكون هذا الفعل التشكيلي فعلًا طقوسيًّا يمارسه القريشي، خاصة وأنَّ فيه الكثير من ‏التعبير الجسدي، وهنا هو أيضًا يستحضر جسده بتلقائيّته المفضوحة بتلك اللطخات العفويّة ‏وغير المدروسة وتلك الكتابة المتسرِّعة، ليضعنا في عالم القلم والريشة والفرشاة الصغيرة ‏والعريضة، وليجعلنا نتساءل: هل هو يكتب أم يرسم أم يعبِّر؟

يضعنا القريشي في عالمٍ بفضاءاته المختلفة، يوهمنا بعمقه الحقيقي، ويشعرنا بتلك المادة ‏القوية (اللطخات السمكية) وكأنها ستسقط من ثقلها على خلفية بعيدة مستقلّة تخلق حيوية ‏ونشاط حول هذه اللطخات، في تفتيح لبعض أجزائها مراوحًا بين الثقل والخفّة، في إحالة ‏صريحة على المادة الساكنة للفضاء، يسعى عبر تشكيله لتغيير ماهيتها، فالبنية الخطية لديه ‏نظام حواري لمدّ بصري تتوزع فيه الكتل والمساحات في قراءة مجزَّأة للفضاء، والكتابة هنا ‏استدعاء جسدي فيه تلقائية، وهو ما جعلنا نزعم بتأثُّره بالرسم الحركي والفن اللاشكلي المعبّر ‏عن ثورة فكرية واتجاه إلى النزعة التجريدية لأنَّ غايتها تتعدّى العالم المرئي، متبلورة في قوة ‏الانفعال والحركة التلقائية والتحرر من الضوابط العقلانية المقصودة، خاصة وأنه يعيش في ‏الغرب محتكًّا بمختلف التجارب الفنية المعاصرة له، فتجربته فيها استغلال لطاقات الرسم ‏الحركي والارتجال التعبيري، وما يمكن أن تمنحه طاقة الفرشاة العريضة من تطبيق لفكرة ‏المادة داخل فضاء ثنائي الأبعاد، وهذا النمط يذكرنا بفنانين مثل هارتونغ (‏Hartung‏) وبيار ‏سولاج (‏Soulage‏) والذي يبحث في السواد عن النور، يمكن أن نجده في لوحة القريشي، ‏فاختيار اللون الترابي المائل إلى الأصفر يبعث فينا الشعور بالنور، لتحضر كلماته لغة ممتلئة ‏لرسائل معقدة فيها تلاحم لفكرِه والمادة التي يرسم بها، وكأنه يريد استنطاقها ليخرج شعوره ‏الداخلي على فضاء اللوحة لتلعب الكتابة دور الفكرة المترجم عبر علامات خطية، فهذا النور ‏‏"نور إلهي وليس نور الشمس... فالمسافات والفراغات تنعدم لكي تبدو لحمة في هذا ‏الكون التصويري الجديد الذي تشابكت فيه مصادر الرؤية إلى أقصى حدّ ممكن"(3)، وحتى ‏الحركة الدائرية فيها بحث عن سرّ هذا الكون، وكأنَّها في دورانها توالدٌ للضوء الذي لا مركز ‏له وإنّما يتجه بك إلى مسار عميق تشعر به عند المدّ البصري على اللّوحة، وتشعرك أنك ‏تعيش داخلها ولست فقط تشاهد من الخارج.‏

 

 

 

 

أنسنة الأبجديّات

تتكثَّف المعاني وتتدفَّق في عمل "درب الورود" حين تغزو فضاء ثلاثي الأبعاد، وهذا العمل ‏هو عبارة عن مجسّمات من الفولاذ على هيأة أشخاص إنسانيّة وصفها ‏‎"‎بالتواشج البصري ‏والشعري"(4)؛ وكأنَّ فكرة الفضاء تطارد القريشي، وتنبثق روح النحت مرة أخرى بعد أن ‏جرّبها على سطح الجدار، هو الآن يحققها في الفضاء الحقيقي، وهنا لا يوهمنا بقدر ما يجعلنا ‏نعيش داخله، دون التخلي على ارتجاليّته، فحتى في تغير المادة، الروح ذاتها، خطوط لينة، في ‏نسق متسارع وإيقاع صوتي يحمل في ثناياه حالة من التصوف، وإدخال الجسد كله في كشف ‏مدلولات العمل وليس العين فقط، بل يغريك في التحرُّك لتمتلك العمل، أو ربما هو الذي ‏يمتلكك، وكلما اختلفت زاوية النظر اختلف الإحساس بالعمل، فهذه المجسمات تُنتج بناءً ‏متكاملًا، لا تكاد تميز بين مجسّم وآخر، فانسيابها أعطى تركيبة حركة ساهمت في تفعيل ‏تشكُّلها في الفضاء، لتخرج من الفضاء المغلق إلى الفضاء المفتوج: "لا يقف معنى المكان/ ‏اللوحة عند القريشي في حدود معناه الأول، كمساحة مسطحة يستعملها لعكس أفكاره ‏واستلهاماتها، بل يتعدى هذا المفهوم للأحوال إلى تبنّي المكان وإدماجه كعنصر من ‏عناصره الأخرى المتشابكة (الهواجس، الخط، الأداة...) ضمن إيقاع التوجهات والبحث ‏عن العلاقة بين الفراغ والامتلاء بين الأبيض والأسود، بين عرض السند والتفاف الشكل ‏الحرفي"(5).‏

هذا الاتجاه النحتي، لم يكن بمعزل عن التأثر ببعض الفنانين الغرب مثل "كالدار" (‏Calder‏) ‏و"جاكوماتي" (‏Giacometti‏) وآخرون، فهذه الأعمال فيها استثمار للحركة الفعلية لتأسيس ‏أسس جديدة للنحت تقوم على التجريد الهندسي وديناميكية في التكوين واستغلال عديد الوسائط ‏المولِّدة للحركة، ولكن في عمل القريشي، تولِّدها العين نتيجة للهيكلة البنيوية للمجسمات ‏الفولاذية المتكررة في انسياق لمادتها في الفضاء، ليكون الفراغ حضورًا غير مهمَّش، وإنَّما ‏قصديٌّ لتحقيق التوازن البصري، فكلما ازداد، ازداد الشعور بالفضاء، في ترديد حركي ‏منتظم، يشكل وحدة متكاملة، في تصميم لا نهائي يضفي صبغة تواصلية للفضاء "فالتناغم ‏الحركي المستمر للتوزيع المكاني لعناصر التصميم في سياق شكل تأليفي توالدي لا يكسر ‏حدّة الوحدة العضويّة وأنفاس الفنان القصديّة والأسلوبيّة التعبيريّة ليدخل فيه المكرّر ‏والمتدرّج والتنوُّع الشكلاني للمكوِّنات"(6)، لينسحب هذا العمل في الفضاء العام راسمًا ‏ظلالًا غير محدودة تكون حالة غريبة، وكأنَّ القريشي إلى جانب التّشكيل بالفولاذ يشكِّل أيضًا ‏بالظلّ "الظل يتابعك في أيّ مكان تسير فيه، إنه يخرج منك ويسير أمامك وخلفك على ‏الأرض، دائمًا يلاحقك كأثر٠ وفي حضارتنا أيضًا الكل يتساوى في مسألة الظل، الناس في ‏الكنيسة يجلسون على مقعد واحد عريض وفي المسجد كل واحد يضع قدمه في محاذاة قدم ‏الآخر، لا فرق يين غني وفقير أو طويل وعريض، فالكل لديهم ظلّ ينسحب معهم إلى ‏قبورهم"(7). ‏

إنَّ حيويّة المجسَّمات على شكل الهيئة الإنسانيّة مع انعكاسٍ لظلِّها خلقت ديناميكية أكبر فى ‏الفضاء العام، أصبحنا نشعر وكأنَّ المجسّمات أشخاص حقيقيون يتحركون، حروف أو أشباه ‏لحروف ممتدة وملتوية غير مقروءة، ولكنها تكتسب حيوية ومطواعية الحروف في انصهار ‏بين الضوء والظل، وكأنَّ الظل يماهي الفولاذ في قوّته وصلابته بتسجيل حضوره، ويتحوَّل ‏الظل إلى فعل تشكيلي مثله مثل بقية المقومات التشكيلية للعمل الفني، في تعبيرٍ فلسفيٍّ لقوة ‏الحضور الذي يعود إلى الفناء في النّهاية.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ بنكراد سعيد: النص السردي نحو سميائيات للأيديولوجيا، دار الأمان، الرباط، ص16.‏

‏(2)‏ ‏ البوابة الإلكترونية:‏‎ http://universes-in-‎universe.de/islam/ara/2003/01/koraichi/koraichi-bb.html

‏(3)‏ ‏ عفيفي بهنسي: الفن التشكيلي العربي، الأولى للنشر والتوزيع، ط1، 2003.‏

‏(4)‏ ‏ صحيفة المنار، تصدر عن مؤسسة الجنوب للصحافة والنشر.‏

‏(5)‏ ‏ محمد بوذينة: مشاهير فنّ الرسم، منشورات محمد بوذينة، الحمامات، تونس.‏

‏(6)‏ ‏ عبدالله أبوراشد: التذوق الفني، دمشق، منشورات وزارة الثقافة الجمهورية العربية ‏السورية. ‏

‏(7)‏ ‏ البوابة الإلكترونية:‏http//Universes –in – universe. de / islam ‎‎/ara/2003/01/Koraichi-bb.html