سيميولوجيا "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ ‏ من "الاستشراق" إلى "ما بعد الحداثة"‏ ‏(دراسة خِطابيَّة نقديَّة مقارنة)‏

 

د. إياد كنعان

باحث وفنّان تشكيليّ أردني

iyadkanan@gmail.com

تتناول هذه الدِّراسة تحوُّلات "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، من تمثُّلات حالة ‏‏"الاستشراق" إلى تمثُّلات حالة "ما بعد الحداثة"، مرورًا بدراسة "المقدَّس" في حقبة ‏‏"الحداثة" التشكيليّة الأردنيّة، من وجهة سيميولوجيّة خِطابيّة نقديّة مقارنة. وتخلص إلى ‏وجود ارتباط وثيق بين التحوُّلات التي طرأت على تمثُّلات "المقدّس" في الفنّ التشكيليّ ‏الأردنيّ، وبين الانتقال من حقبة "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قِيَم "ما بعد ‏الحداثة".‏

مقدّمة

‏ إنَّ الحديث عن "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ بحلُّته النصيّة أو التمثيليَّة أو ‏المفهوميَّة، يتَّخذ أهميّة بالغة من وجهة نظر خِطابيَّة، لجهة محاولة فك التشفير الخِطابيّ ‏المرتبط بسياقات تطور الفنّ التشكيليّ في الأردنّ، في علاقته مع هذا المعطى العابر ‏للحياة العامّة والخاصَّة، فضلًا عن كونه عابرًا للأجناس الإبداعيَّة المختلفة. وهو مبحث ‏يتخذ أهمية نقديَّة بالغة في "المملكة الأردنيّة الهاشميَّة" بشكل خاصّ، التي استمدَّت ‏ملامحها كدولة ونظام سياسيّ، من حالة فريدة في التاريخ العربيّ الحديث، قامت على ‏اتِّحاد "المقدّس" السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، في بوتقة مشروع وطنيّ وحدويّ (بأبعاد ‏عربيَّة وإسلاميَّة متباينة)، أثبت مقدرة على تجاوز متغيّرات شديدة الحساسيَّة، أحاطت به ‏منذ تأسيسه، وصولًا إلى صموده في وجه رياح "الفوضى" العاتية التي هبّت على ‏المنطقة، منذ نهاية عام (2010). فضلًا عن كونه يشكِّل نموذجًا ناجحًا لاندماج ‏‏"المقدّس" الدينيّ والدنيويّ في مستويات عدَّة، كما تجسّد في "الثورة العربيَّة الكبرى" ‏‏(1916- 1918). بالإضافة إلى ارتبطه بنيويًّا ومنذ نشأته وتبلور خِطابه السياسيّ ‏والاجتماعيّ والثقافيّ بـ"المقدَّس" الدينيّ الإسلاميّ والمسيحيّ على حد سواء، الأمر الذي ‏يعتبر أساسيًّا على مستوى "الخِطاب" الوطنيّ والعربيّ والإسلاميّ الأردنيّ، يظهر جليًّا ‏من مسمّى "الدولة" الأردنيَّة، المرتبط من جهة بنهر الأردنّ، كواحد من أهم المواقع ‏المسيحيّة المقدّسة، ومن جهة أخرى يرتبط برمزيّة إسلاميّة، على قدر كبير من الأهميّة ‏في حضورها التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وتاليًا الموقع الذي اتخذته في ‏المشروع النهضويّ العربيّ والإسلاميّ الحديث والمعاصر، المتمثّل بـ"العائلة الهاشميَّة"، ‏بما تشكّله من ارتباط عضوي برسالة الإسلام، وبمشروعه الحضاريّ.‏

أمّا الجغرافيا الثقافيَّة الأردنيَّة فقد ارتبطت بـ"السرديّات" الدينيّة المؤسسة للديانات ‏السماويّة بتنوُّعها وثرائها. وهي حالة بكل غناها الثقافيّ والدلاليّ، فرضت تداخلًا بين ‏الحيّز الدينيّ والدنيويّ في كل مفاصل الدولة والمجتمع، بل في مختلف مظاهر الحياة ‏العامّة والخاصَّة الأردنيّة. أمَّا على المستوى التاريخيّ؛ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، ‏فقد ارتبطت "الدولة الوطنيَّة" الأردنيّة بنيويًّا بحالة جيو- ثقافيّة وسياسيّة نادرة، متمثلة ‏بحالة "احتلال المقدّس" الدينيّ (المسجد الأقصى والأماكن المقدّسة في فلسطين المحتلة)، ‏برمزيّته الدينيّة والدنيويَّة على حد سواء، ووجودها في بؤرة المواجهة التاريخيّة؛ بأبعادها ‏السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيَّة، ضدّ المحاولات الصهيونيّة لوضع اليد على أولى القبلتين ‏وثالث الحرمين الشريفين، وضدّ محاولات قوى الاحتلال المستمرة للتعرُّض للأماكن ‏المقدسة المسيحيّة في القدس بشكل خاصّ. علمًا أنّ تلك الأماكن المقدَّسة شكّلت جزءًا من ‏الدولة الأردنيَّة، إبان "الوحدة" بالضفة الغربيّة، في الفترة الممتدة ما بين عامي (1950- ‏‏1988).‏

في هذا السياق تطرح هذه الدراسة إشكاليّتين أساسيَّتين، أمّا الأولى فتتمحور حول مدى ‏ارتباط حضور "المقدّس" (نصًّا أو تمثيلًا أو مفهومًا) في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، سواء ‏كان حضور "إثبات" أو حضور "نفي"، بالانتقال من تمثّل قيم "الحداثة" التشكيليّة، ‏وصولًا إلى تبنّي قيم "ما بعد الحداثة". أمّا الثانية فتتمحور حول مدى نجاح الفنّ التشكيليّ ‏في الأردنّ (خِطابيًّا) في التملص من التحوّلات في القيم التاريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة ‏والثقافيّة، التي ترافقت مع تبنّي تيّارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة، لجهة الإخلاص لقيم ‏‏"المقدّس" الدينيّ والدنيويّ، ومدى نجاح الفنّان الأردنيّ في المواءمة بين تبني القيم ‏المؤثرة في بناء وثبات الحياة العامَّة الأردنيَّة (تاريخيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا)، وبين ‏موجة ترويج "اهتزاز" مكانة "المقدّس" في "الخِطاب" الثقافيّ العربيّ والعالميّ، التي ‏ترافقت مع تبنّي القيم الغربيّة المعاصرة، الداعية إلى تجاوز وتقويض "المقدّسات" بكافة ‏أشكالها الدينيَّة والدنيويّة.‏

خِطاب "المقدَّس" في حقبة الاستشراق التشكيليّ الغربيّ

إنَّ المتابع لسياقات تطوُّر الفنّ التشكيليّ في الأردنّ يلحظ هذا التمحور حول فكرة ‏‏"المقدّس"، نفيًا أو إثباتًا، سواء في حقبة "الحداثة" التشكيليّة (1950- 1988)، أو في ‏حقبة "ما بعد الحداثة" التشكيليَّة (1988- حتى اليوم). هذا التمحور يكاد يكون ملفتًا، ‏خاصَّة إذا ما تمَّ ربطه بسياقات تطور الدولة والمجتمع الأردنيّ. فأغلب الرحَّالة الذي أتوا ‏إلى الأردنّ، ارتبطت زياراتهم وإقاماتهم، أو عبورهم لهذه الأرض بفكرة "المقدّس". في ‏حين تمَّ النَّظر إلى الأردن كامتداد للأرض المقدَّسة، وهي حالة تُلحظ بوضوح في أعمال ‏هؤلاء الرحَّالة، كما عبَّرت عنه المطبوعات الحجريَّة للأسكتلنديّ "دايفيد روبرتس" ‏‏(‏David Roberts‏) (1796- 1865)، حيث احتل "الأثر" كموروث مقدّس من ‏حقب موغلة في القدم، العنصر الأساس في العمل الفنيّ، بوصفه "أثرًا" عابرًا للأزمنة. ‏في المقابل جرى تصويره في إطار من المؤشرات البصريّة والمرجعيات الثقافيَّة ‏المتداخلة و"المختلطة" زمنيًّا، دون أن يظهر أي انسجام بينها، لتُظهر مؤثّرات زمنيّة ‏مختلفة في النسيج التشكيليّ الواحد، بشكل متقطّع ومتباعد، مع تغييب لحلقات التواصل ‏الثقافيَّة أو الاجتماعيّة التي تربطها بالمكان، وبشكل انتقائيّ مقصود. في المقابل تمَّت ‏المبالغة في إبراز مظاهر الحضور السياسيّ المرتبط بالمؤثرات الثقافيَّة التي تبنّتها ‏‏"السلطة العثمانيَّة"، التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم الإسلاميّ آنذك، بما فيها ‏منطقة شرق الأردنّ. في حين تمَّ تصوير تدفُّق الحياة حول ذلك "الأثر" بالحالة الطارئة أو ‏الهامشيّة المؤقتة، المنقطعة تاريخيًّا وزمنيًّا عنه، التي تشكل عبئًا على المكان، وليس في ‏إطار الامتداد الزمنيّ والثقافيّ التلقائيّ له، في تفاعله البديهيّ مع محيطه الاجتماعيّ، الذي ‏يحمل تراكمات ثقافيَّة متداخلة وظيفيًّا، ضمن أشكال من التفاعل الاجتماعيّ والثقافيّ ‏والسياسيّ والتاريخيّ الطبيعيّ والإنسانيّ المنسجم. فجاءت أعماله تعزيزًا للأسطورة ‏الاستعماريّة التي تبنّت أكذوبة (أرض بلا شعب)، خاصّة تلك التي روّجت لها أغلب ‏الحملات الاستكشافيَّة الغربيّة لفلسطين المحتلة.‏

على نقيض من أغلب الأعمال التصويريَّة الاستشراقيّة التي نُفّذت في الحقبة نفسها، جاء ‏ظهور "المقدّس" في أعمال روبرتس تعبيرًا عن حالة من الماضي، في لحظة تصادم ‏ثقافيَّة مع الحاضر (زمن إنجاز العمل)، وليس جزءًا من التفاعل الحيويّ المتدفّق مع ‏المكان، أو من الواقع اليوميّ المعاش للمجتمع الذي يحتضنه، في إطار الحالة التي شكّلت ‏جزءًا من ثقافة المجتمع وبداهته وغذائه البصريّ اليوميّ المُعاش. كما أنّه لم يكن في ‏إطار استكشاف الممكن الجماليّ الجديد للمكان، الذي يستلزم بالأساس وجود مشروع ‏سياسيّ بالمعنى الوطنيّ، تلك الحالة التي تشكّلت مطلع القرن العشرين، مع انطلاق ‏‏"الثورة العربيّة الكبرى" المؤسّسة للدولة الأردنيّة، كما تمَّ التعبير عنها في أعمال فناني ‏جيل "ما قبل الروّاد" في الأردنّ، الذين حضروا إلى منطقة شرق الأردنّ، في حقبة ‏الانبعاث السياسيّ الأول للدولة الاردنيَّة، المتمثلة في "إمارة شرق الأردنّ" (1921- ‏‏1946). ‏

 

لوحة رقم (1)‏

ديفيد روبرتس، القدس، ليثوغراف، (1839)، نقلًا عن: ‏https://pixels.com‏. ‏

 

خِطاب "المقدَّس" ومقدّمات "الحداثة" ‏

في المشهد التشكيليّ الأردنيّ

في هذا السياق المتداخل سياسيَّا واجتماعيّا وثقافيَّا، أعطى حضور وإقامة مجموعة من ‏الفنانين في الأردنّ، في ما عُرف باسم "جيل ما قبل الروّاد"، في حقبة الإمارة، إشارات ‏لانبعاث سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ جديد، بُنيَ على إمكانٍ جماليّ وطنيّ جديد، بأبعاد ‏سياسيّة وثقاقيّة واجتماعيّة واضحة التوجّهات، وضعت "المقدّس" الإسلاميّ في بؤرة ‏اهتماماتها، بحيث شكّل "محورًا" لاستكشاف الحالة الوطنيّة الأردنيَّة الجديدة جماليًّا، في ‏إطار الكيان السياسيّ الناشئ آنذك، فجاءت أعمالهم متضمّنة لمظاهر "المقدّس" الإسلاميّ ‏بشكل أساسيّ، حيث احتلَّ المسجد والجامع، برمزيّته الدينيَّة والاجتماعيّة الجامعة، التي ‏تصهر المتناقضات، وتطوي المتباعدات، موقع الصدارة في العمل الفنيّ، في إطار من ‏التفاعل العمرانيّ والتاريخيّ الحيويّ مع المكان، الذي ربط الماضي بالحاضر، خاصّة ‏لجهة التأكيد على طابع البناء الصخريّ والحجريّ للمدينة الأردنيّة، والعاصمة الجبليَّة ‏الحديثة عمَّان، وإبراز الخصوصيَّة الثقافيّة للمكوّن الاجتماعيّ الأردنيّ المتمدّن (بمقاييس ‏تلك الحقبة)، المتجذر في التاريخ، الذي عرف العمارة الحجريّة متعددة الطبقات، كما ‏ظهر في مجموعة من الأعمال الحقليَّة لجيل "ما قبل الرواد"، خاصّة التركيّ ضياء الدين ‏سليمان (1880- 1954).‏

 

لوحة رقم (2)‏

ضياءالدين سليمان، مدينة عمَّان، زيت على قماش، 55×73 سم، 1932، نقلًا عن ‏وجدان العلي: الفنّ المعاصر في الأردنّ، الجمعيَّة الملكيَّة للفنون الجميلة، الأردنّ، ط1، 1996.‏

 

‏ هكذا بدأ "المقدّس" باتخاذ طابع تاريخيّ تصويريّ (مكانيّ وزمنيّ)، في إطار المنظر ‏الطبيعيّ والحقليّ، أكثر منه طابعًا دينيًّا أو لاهوتيًّا، متواريًا خلف الرؤية الاستعماريّة ‏للمكان. لكنه لم يتخذ طابعًا مؤسلبًا أو نصيًّا أو مفهوميًّا في تلك الحقبة، أي أنَّه لم يتحوّل ‏لـ"رمز" تشكيليّ بالمعنى الوطنيّ، ولم يتم تكريسه كـ"رمزيّة" وطنيّة جامعة، ولم يكتسب ‏شموليّة الهويّة الوطنيّة الأردنيَّة في تمايزها الجمالي والخِطابيّ، ولم يصل للمعنى الخاصّ ‏لـ"المقدّس"، كممكن وطنيّ وجماليّ مؤسس لـ"الدولة الوطنيَّة" المستقلة، ولخِطابها الجامع.‏

‏ في هذا السياق المتتابع كان على الفنّ التشكيليّ في الأردنّ أن ينتظر ولادة جيل "الروّاد"، ‏خاصَّة أعمال كل من رفيق اللّحام (1931- 2021) ومحمود طه (1942- 2017)، ‏لنشهد ولادة "المقدّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، بالمعنى "الوطنيّ" المؤسلَب المؤسّس ‏لـ"الدولة الوطنيّة" المستقلة، ولقيمها الجماليّة الجديدة، التي ارتبطت بولادة المملكة الأردنيّة ‏الهاشميّة (1946)، وتاليًا "الوحدة" بالضفة الغربيَّة من نهر الأردن، وبداية تبلور الطابع ‏الملكيّ بشكل تدريجيّ في المشهد التشكيليّ الأردنيّ جماليًّا، وبروز "المقدّس" السياسيّ ‏والاجتماعيّ والثقافيّ في المشهد التشكيليّ الأردنيّ، عبر إبراز مركزيّة العائلة الهاشميَّة ‏في قيام واستمرار المشروع الوطنيّ الأردنيّ، كما ظهر في أعمال فاطمة المحب ‏‏(1920- 2006)، التي أبرزت أهميَّة الوعي بمركزيَّة العائلة الملكيَّة تشكيليَّا، كأساس ‏للمشروع الوطنيّ الأردنيّ، فرسمت رمز العائلة المالكة بواقعيَّة تصويريَّة (لوحة الملك ‏عبدالله الأوَّل). فضلًا عن رسمها وإبرازها لمظاهر من "الاندماج" الاجتماعيّ والثقافيّ ‏والسياسيّ بين كافة فئات المجتمع الأردنيّ، الذي كرّسته حالة "الوحدة" بين ضفتي نهر ‏الأردنّ، والمشروع الوطنيّ الأردنيّ الوليد في تلك الحقبة.‏

 

لوحة رقم (3)‏

فاطمة المحب، زيت على قماش، 75× 50سم، 1963، نقلًا عن:‏

وجدان العلي: مرجع سابق.‏

 

 

في حين لم تشهد الساحة التشكيليَّة الأردنيَّة ولادة أعمال مؤسلبة للعائلة الملكيَّة، إلّا مع ‏قدوم الفنانة التركيَّة الأردنيّة العالميّة فخر النساء زيد (1901- 1991) للأردنّ في ‏سبعينات القرن العشرين، التي دشَّنت في لوحاتها نماذج من "أسلبة" العائلة الملكيَّة تشكيليَّا ‏‏(لوحة الملك حسين).‏

 

لوحة رقم (4)‏

فخر النساء زيد، الملك حسين، زيت على قماش، 1973،‎ Andre Parinaud & Others: ‎Fahe El Nissa Zaid, The Royal National Jordanian Institute ‎Fahrelnissa Zeid of Fine Arts, Jordan, 1984.‎

 

 

أمّا "المقدّس" الثقافيّ فتمحور في تلك الحقبة حول إبراز مركزيّة الثقافة الإسلاميَّة، في ‏خصوصيَّتها النصيَّة واللغويَّة والثقافيَّة العربيَّة، كطابع لـ"الدولة الوطنيَّة" الأردنيَّة، كما ‏ظهر في أعمال جمال بدران (1909- 1999)، التي أسهمت بشكل أساسيّ في بلورة ‏الطابع الملكيّ الإسلاميّ لنظام الحكم والدولة على حد سواء. ‏

 

 

لوحة رقم (5)‏

جمال بدران، عمل زخرفي، نقلًا عن: وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيَّة "وفا".‏

 

خِطاب "المقدَّس" ‏

في حقبة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيَّة

في هذا السياق السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والقيميّ والعقائديّ الراسخ، والمتماسك ‏سرديًّا وجماليًّا، أثّرت "الوحدة" بالضفة الغربيَّة، على مجريات تطوُّر "الخِطاب" الثقافيّ ‏الأردنيّ، لجهة بداية ظهور مدينة "القدس" كـ"مركزيّة" قيميّة خالدة لـ"الدولة الوطنيَّة" ‏الأردنيَّة، التي ضمّت حدودها جزءًا من أرض فلسطين التاريخيَّة في تلك الحقبة. كما ‏بدأت المقّدسات الإسلاميَّة في "القدس" تحتلّ موقعًا أساسيًّا في اللوحة الأردنيَّة، وفي ‏‏"الخِطاب" الوطنيّ التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ للدولة، الجامع لكل مكونات ‏الشعب الأردنيّ، على اختلاف منابتهم وأعراقهم وطوائفهم الدينيّة، هذا شمل أيضًا المكوّن ‏المسيحيّ في الأردن، الذي أخلص بدوره تشكيليًّا لقيم المجتمع المسلم.‏

 

 

لوحة رقم (6)‏

رفيق اللحام، زيت على قماش، 50×40، 1973، نقلًا عن وجدان العلي: مرجع سابق.‏

لقد استمرَّ هذا التأثير لـ"المقدّس" الدينيّ في جيل السبعينات، أي جيل المخضرمين، لكن ‏بوتيرة أقل، حيث بدأت تظهر مواضيع أكثر آنيّة ودنيويَّة. في المقابل جرى التأكيد على ‏الطابع المؤسلب لـ"المقدّس"، حيث عادة ما تمَّ رسم "القدس" على سبيل المثال في إطار ‏مؤسلب، وغالبًا ما ظهرت بعيني ناظر من جهة الشرق، أي من جهة الأردنّ، خاصّة بعد ‏احتلال الضفة الغربيّة عام (1967)، تأكيدًا على أهميّة الأردنّ الدينيّة كممرّ ومنطلق ‏لتحرير فلسطين والأقصى، بحسب السرديَّات الدينيَّة الإسلاميَّة. كذلك ظهر في أعمال ‏المخضرمين مواضيع تعتبر من المقدَّسات الدنيويَّة، مثل التركيز على قيم "الأسرة" ‏كمقدّس اجتماعيّ، والارتباط بـ"الأرض"، والتضحية بالنفس من أجلها كمقدس سياسيّ. ‏فضلًا عن التأكيد على الهويّتين العربيّة والإسلاميّة الجامعة كمقدّس ثقافيّ، وبداية تبلور ‏المعطى الجماليّ الوطنيّ المرتبط بالحالة الفلسطينيّة الثقافيَّة والنضاليّة في إطار مؤسلب، ‏تأكيدًا على اندماجها في القيم الوطنيَّة المؤسّسة للدولة الأردنيَّة كحالة خالدة، كما ظهر في ‏أعمال أحمد نعواش (1934- 2017)، على سبيل المثال.‏

 

لوحة رقم (7)‏

أحمد نعواش، إنسان عربي وهمومه، زيت على قماش، 55×65سم، 1984. نقلًا عن وجدان ‏العلي: مرجع سابق.‏

 

 

خِطاب "المقدَّس" ‏

في حقبة "ما بعد الحداثة" التشكيليّة الأردنيَّة

هذا في ما يخصّ جيل "الحداثة" التشكيليَّة الأردنيّة، أمّا جيل "ما بعد الحداثة"، فقد بدا ‏واضحًا انحياز بعض رموزه لليوميّ والآنيّ، وخضوعهم الحذِر لتناقضات "الخِطاب" ‏الثقافيّ الغربيّ تجاه العالم العربيّ والإسلاميّ، خاصّة لجهة الترويج لقيم "نفي" الثوابت، ‏و"اهتزاز" المقدّسات الدينيَّة والدنيويَّة بشكل موارب، على حساب القيم المؤسّسة لحالة ‏‏"الثبات" في المجتمعات العربيّة، على المستويات كافة؛ التاريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة ‏والثقافيَّة والاقتصاديَّة. فبدأت ميول طائفة من الفنانيّين الأردنيّين لتبنّي رؤى تصبّ في ‏الدعوة إلى "إعادة النظر" في دور "المقدّسات" الدينيّة والدنيويّة في صياغة "المجال ‏العام" (‏Public Sphere, fr.: Sphère publique‏)، بتعبير الألمانيّ ‏‏"هابرماس"، في أبعاده التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديَّة والقيميّة ‏العامَّة، موجهين نقدهم الحذر لبعض المفاهيم الدينيّة والدنيويّة التي يُساء استخدامها، ‏وغدت مع الوقت أشبه بـ"مقدَّسات"، خاصّة في الإطارين العربيّ والإسلاميّ، في حين ‏تحاشوا في الغالب الاصطدام بـِ"المقدّس" الوطنيّ الأردنيّ، أو التعرُّض للمقدّسات الدينيَّة ‏بشكل مباشر. في المقابل طوَّع عدد من الفنانين الأردنيّين تيارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة ‏لرؤية ثقافيّة تستلهم الموروث، ولا تتخلى عن الثوابت والجذور.‏

في هذا السياق شكَّلت ولادة "التعبيريَّة التجريديَّة" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ نفيًا ‏لـ"المقدّس" بصوره كافة، خاصّة لجهة تكريس "اللا تشخيصيَّة" في الفنّ الأردنيّ، ‏والابتعاد عن "الواقعيّة" بمحمولها الدلاليّ والتاريخيّ من المقدّسات الدينيّة والدنيويّة على ‏حد سواء. فتيّار "التعبيريّة التجريديّة" الحاضر بقوة في المشهد التشكيليّ الأردنيّ، هو ‏نمط من التشكيل الآنيّ الانفعاليّ متعدِّد البؤر، الذي يعتمد على التوليد البصريّ والحركيّ ‏لحالات من "التناغم البصريّ"، دون الاعتماد على أيّ مَرجع من الذاكرة. وبالتالي، هو ‏فنّ منقطع عن الواقع والتاريخ والجغرافيا والموروث والجذور بصوره كافة، يسعى إلى ‏خلق تاريخه الخاصّ، ويجعل من الفنّان الذي يمارسه بطلًا أوحدًا، وصانعًا للتاريخ، ‏ومنافسًا للنزوع التاريخيّ في مجتمعه. وهو بذلك يناقض فكرة تمثيل "المقدّسات" ‏السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في العمل الفنيّ نصًّا أو شكلًا أو مفهومًا، المرتبط بصور ‏من الماضي أو الحاضر أو المُتَخيَّل أو الواقع المُعاش. في المقابل سنجد محاولات تشكيليّة ‏أردنيَّة سعت لتطويع هذا الاتجاه للشَّرط التاريخيّ، وتطعيمه بمؤثرات ثقافيَّة من البيئة ‏الثقافيَّة الأردنيّة، كما هي الحال في مجموعة من أعمال سهى شومان على سبيل المثال.‏

 

لوحة رقم (8)‏

سهى شومان، أسطورة البتراء 2، مجموعة من 21 عمل، رمل ومواد مختلفة على ورق، ‏‏77‏x‏58 سم، 1992- 1993. نقلًا عن:‏

‏ (‏Suha Shoman: Suha Shoman- Of Time And Sand- Petra 1986- ‎‎1996, Darat Al- Fonoon, 1st edition 1996, p. 45‎‏)‏

 

 

أمّا حضور "الفن الأقليّ" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ فقد شكَّل بدوره انقطاعًا آخر عن ‏فكرة "المقدّس"، بكافة مرجعيّاته الدينيّة والدنيويّة، خاصّة لجهة تجاوز كافة المرجعيّات ‏البصريَّة الممكنة في العمل الفنيّ، فهو فن منقطع عن الجذور في الغالب. في المقابل نجد ‏بعض الحالات التشكيليَّة الأردنيَّة، التي حاولت استدراج مؤثرات تاريخيّة وسياسيّة ‏واجتماعيّة وثقافيَّة إلى هذا التيار، فضلًا عن استدعاء الموروث الثقافيّ الأردنيّ، بأبعاده ‏الوطنيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة بدرجات مختلفة، إلى نسيج العمل الفني الأقليّ، كما ظهر في ‏بعض أعمال نزيه عويس على سبيل المثال. ‏

 

لوحة رقم (9)‏

نزيه عويس، من معرض هنوفر، الجناح الأردني، ألمانيا، 2000، صورة تفصيلية، تصوير إياد ‏كنعان.‏

 

وهي الحالة نفسها التي كرّسها "الفن البيئيّ" عالميًّا، الذي انحاز للبيئيّ خارج أي تمثيل ‏تاريخيّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ، ومع ذلك نجد استثناءات في الفن التشكيليّ ‏الأردنيّ، حاولت إخضاع هذا التيار الفنيّ للمؤثرات الثقافيَّة الوطنيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة، ‏منها بعض أعمال محمد أبوعزيز، على سبيل المثال.‏

 

لوحة رقم (10)‏

محمد أبوعزيز أثناء عمله على معرض "مقولات الملح"، في منطقة البحر الميت. تصوير جان لو ‏دو سوفرزاك (‏J-L De Sauver Zac‏)، صورة من أرشيف الفنان محمد أبوعزيز.‏

 

 

أمّا "الفنّ الشعبويّ" فقد قام في الغالب على استحضار "المقدّسات" كافّة؛ التاريخيّة ‏والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيّة والاقتصاديَّة، وعلى نفيها خِطابيًّا ومفهوميًّا بكافة ‏الصور. وفي الأردن كان هناك انسياق حذر خلف هذا التيار التشكيليّ، حيث توجَّهت ‏مجموعة من الفنانين الذين اشتغلوا ضمن مبادئه إلى تفكيك مجموعة من المفاهيم التي ‏شكَّلت مع الوقت "مقدّسات" دينيّة ودنيويّة، سواء كانت مرتبطة بالحالة الوطنيّة، أو ‏الحالتين العربيّة والإسلاميّة، وأخضعوها للمساءلة النقديّة الواعية، دون الانسياق وراء ‏‏"الخِطاب" التحريضيّ المباشر. في المقابل حاولت طائفة من الفنانين المواءمة بين آنيّة ‏ولحظيّة "الخِطاب" الثقافيّ التفكيكيّ المرتبط بهذا التيّار، وبين التحدّيات السياسيّة والثقافيّة ‏والاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي يواجهها المواطن العربيّ، نتيجة مشاريع الهيمنة الجديدة ‏في المنطقة، منها بعض أعمال الفنان عدنان يحيى (1960- 2020)، على سبيل ‏المثال.‏

 

لوحة رقم (11)‏

عدنان يحيى، أفريقيا، زيت على قماش، 120‏x‏110سم، 2005. نقلًا عن: موقع الفنان: ‏http://yahyaart.wordpress.com/‎‏.‏

‏ أمَّا على مستوى "الفنّ المفهوميّ"، فقد دشَّن بدوره أشكالًا من الانقطاع عن التاريخ ‏والموروث، بوصفه اعتراضًا على فكرة العمل المنجز، وترويجًا لمفاهيم "ما قبل العمل" ‏المكتمل. وعلى المستوى الأردنيّ فإنَّ هذا التيّار لم يحظَ بحضور مهم، في حين لم تخرج ‏الأعمال التي تبنَّته عن الأطر الخِطابية الغربيّة، التي دعت إلى تفكيك الثوابت وطرح ‏المرجعيّات التاريخية جانبًا، ومنها شرعيّة بعض المفاهيم التي أصبحت أشبه ‏بـِ"المقدَّسات" الدنيويّة، التي أخضعوها للمساءلة النقدية في سياق تفاعليّ وحواريّ، ‏خاصّة لجهة شرعيّتها في توجيه "الوعي الجماعيّ".‏

في حين شكَّل حضور "فنّ الجسد" عالميًّا وسيلة للتركيز على الذاتيّ، في سياق التعرُّض ‏لمفاهيم ذات طابع جماعيّ. أمّا في الأردنّ فلم تخرج التجارب التي استلهمت هذا التيار ‏عن هذا المعطى العامّ، لكن ما يميِّز التجربة الأردنيّة هو محاولتها توظيف هذا التيار في ‏إطار تقديم مجموعة من المفاهيم "الجماعيّة" ذات الطبيعة السياسيَّة، منها بعض الثوابت ‏و"المقدّسات" الوطنيّة والعربيّة، في إطار توظيف حساسيّة الجسد الإنسانيّ في استشفاف ‏معانٍ سياسيَّة مرتبطة بحالة الصراع الدائرة في المنطقة، خاصة في ما يخص القضيّة ‏الفلسطينيّة، وحالة الصراع الدائرة مع قوى الاحتلال، التي شكَّل فيها الجسد الإنسانيّ ‏المحور الأساس، كما ظهر في بعض أعمال عريب طوقان، على سبيل المثال.‏

 

لوحة رقم (12)‏

عريب طوقان، فوتوغراف، 2007، نقلًا عن النشرة المرفقة بمعرض عد الذكريات- دارة الفنون، ‏‏2007.‏

 

في حين كُرِّست نماذج من فنّ الجسد في الأردن لطرح قضايا سياسيّة ذات صلة ‏بالمشروع النضاليّ العربيّ المتجدِّد، المرتبط بالحالة الاستعماريّة الجديدة في العالم ‏العربيّ، القائمة على تثوير "خِطاب" الصراع الداخليّ، وتداعيات ما يسمى "الربيع ‏العربي".‏

خاتمة

في ختام هذه الدراسة التي تناولت تحوّلات "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، من ‏تمثلات حالة "الاستشراق" إلى تمثلات حالة "ما بعد الحداثة"، مرورًا بدراسة "المقدَّس" ‏في حقبة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيّة، من وجهة سيميولوجيَّة خِطابيَّة نقديَّة مقارنة، فقد ‏خلصنا إلى وجود ارتباط وثيق بين التحوّلات التي طرأت على تمثلات "المقدّس" في الفن ‏التشكيليّ الأردنيّ، وبين الانتقال من حقبة "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قيم "ما ‏بعد الحداثة"، وهي تحوّلات عزّزت قيم الثبات في المجتمع الأردنيّ بشكل عام، وأخلصت ‏إلى حدّ كبير إلى قيم "الدولة الوطنيّة" الأردنيّة في أبعادها العربيّة والإسلاميّة، على ‏المستويات النصيَّة والتمثيليَّة والمفهوميَّة العامَّة، مع وجود استثناءات لم ترتقِ إلى مستوى ‏التأثير الطاغي على المشهد التشكيليّ الأردنيّ. في المقابل نجح الفنّ التشكيليّ في الأردنّ ‏في التملُّص من حالة "الاهتزاز" في القيم السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيّة التي ترافقت مع ‏دخول مؤثرات تيارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة إلى المشهد الثقافيّ الأردنيّ، وبالتالي ‏النجاح في المواءمة بين حالة المعاصرة المنشودة تشكيليًّا، وبين القيم المؤثرة في بناء ‏وثبات "الدولة الوطنيَّة" الأردنيّة، واستقرار الحياة العامَّة الأردنيَّة (تاريخيًّا وسياسيًّا ‏واجتماعيًّا وثقافيًّا)، وعدم الخضوع الأعمى لموجة "اهتزاز" القيم، التي ترافقت مع تبنّي ‏التوجّهات الغربيّة، الدّاعية إلى تجاوز "المقدّسات" بكافة أشكالها الدينيَّة والدنيويّة.‏