"أم الدامي".. ‏ تراتيل الصُّعود ونشوة الكشف والوصول

‏كتابة وتوثيق: إيمان مرزوق

كاتبة أردنية

 

عند سفح "أم الدامي"، وللوهلة الأولى، بدا لي هذا الجبل صعب المنال! فهو شديد ‏الانحدار، فضلًا عن الانهيارات التي بدت واضحة من كتل الصخر الرمليّ المبعثرة على ‏امتداد السَّفح، ومن الطريف أنك تنظر إلى أعلى فلا تشاهد القمّة.. وتتساءل في نفسك.. ‏‏"هل حقًا هذه أعلى قمّة في الأردن!".‏

 

 

 

 

‏"كلَّما اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة".. ‏

وكلّما عَمُقَ الشعور؛ حارت الكلمات.. بين فلسفة الطريق، وتراتيل الصُّعود، ونشوة ‏الكشف والوصول! ‏

هي ثلاثيّة العشق؛ الجنوب، رم، وأم الدامي "أعلى قمّة في الأردن"... ‏

ومَن لا يحبّ صعود الجبال...!‏

يُجافيكَ النوم في وادي رم.. لا بل إخاله من "الحرام" أن تُغمض عينيك فيه لفرط الدَّهشة ‏وسحر السَّماء في اللّيل، لكنّني هذه المرَّة حاولتُ.. إنَّها تجربتي الأولى في التخييم الحُرّ... ‏تُرى كيف يبدو طعم النوم في خيمة صغيرة على سطح القمر!‏

 

بُعيد الفجر كان أعضاء الفريق يلملمون أمتعتهم وخيامهم استعدادًا للانطلاق نحو قمّة "أم ‏الدامي". ركبنا سيارات "البيك أب" وانطلقنا باتِّجاه الحدود السعوديّة.. ساعة ونصف من ‏الحماسة والهواء البارد الشديد يلفح أجسادنا المتشبثة بقوة خوفًا من السقوط، وبفرح ‏استقبلْنا خيوطَ الشمس الأولى التي أخذَتْ تلوِّن الرِّمال والجبال وتُلبِسنا شيئًا من الدفء ‏الذي نرتجيه في آخر أيام أيّار.‏

‏"كيف تعرف طريقكَ في الصحراء هكذا ولا شيء حولك سوى الجبال والرمال!؟"، ‏يضحك البدويّ الفتى اليافع الذي يقود السيارة قائلًا: "عادي.. كما تحفظون الشَّوارع في ‏عمّان نحن نحفظ الجبال هنا!".‏

 

‏7:10 صباحًا بتوقيت الشَّوق.. كُنّا عند قاعدة الجبل المنشود نلتقط الصور ونتلقّى بعض ‏التعليمات الضروريّة من قائد المجموعة قبل البدء بالتسلُّق.‏

للوهلة الأولى بدا الجبل لي صعب المنال! فهو شديد الانحدار، فضلًا عن الانهيارات التي ‏بدت واضحة من كتل الصخر الرمليّ المبعثرة على امتداد السَّفح، ومن الطريف أنك تنظر ‏إلى أعلى فلا تشاهد القمّة.. وتتساءل في نفسك.. "هل حقًا هذه أعلى قمّة في الأردن!".‏

بدأت حرارة الشمس تشتد.. تبعنا "الكابتن" الخبير الذي بدأ يتلمَّس طريق الصُّعود.. نسير ‏خلفه بطابور حذِر.. كل خطوة يجب أن تكون مدروسة وواعية حتى لا تَزِلّ قدمكَ ‏وتتدحرج ومَن خلفك كأحجار "الدومينو" إلى الأسفل.‏

 

 

 

 

فراشات الجبل

في عُرفنا؛ عندما تدخل فراشة إلى البيت نقول: "لا بدَّ أنَّ ضيفًا سيزورنا قريبًا".. وهذا ‏ما كان يحدث حقًا! وعلى سفح (أم الدامي) كُنّا ضيوفًا؛ وفي بداية صعودنا استقبلتنا ‏الفراشات.. نعم فراشات كبيرة حامت حولنا، استغربتُ وجودها في المكان! لكنّني ‏استبشرتُ بها خيرًا على الرغم من لونها الأسود المزدان ببعض الرتوش الذهبيّة.‏

لا يحتاج الجبل لمعدّات تسلُّق خاصة، فهو متوسط الصعوبة يحتاج لخطوات حذرة بسبب ‏وعورته وشدة انحداره، ولتجتاز بعض المقاطع الصعبة عليكَ أن تستعينَ بيديك أو ‏بمساعدة الآخرين. ‏

‏"الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين"؛ في قانون الجبل لن تجديك هذه القاعدة ‏الهندسية نفعًا على الإطلاق.. لا بل قد تودي بحياتك لو اتَّبعتها.. تمدُّ نظركَ إلى الأعلى.. ‏يغريكَ الوصول السريع واختصار المسافة والتعب.. فتفكر بتجاهل الدَّرب وتخطّي ‏الصخور بشكل مستقيم عموديًّا.. لكنّكَ سرعان ما تعدل عن الفكرة. قائد المسير يؤكد أنَّ ‏سلوك الدَّرب المتعرِّج هو الأفضل والأكثر أمانًا للوصول إلى القمّة دون حدوث إصابات ‏أو استنزاف للجهد. وما أشبه هذا الدَّرب بحيواتنا!‏

بذْلُ هذا المجهود في تسلُّق الجبل؛ مع الحرّ الشديد، ودون نوم "حقيقيّ"، ودون طعام، ‏جعلني أشعر بالإعياء وعدم الاتزان، لكنّني لم أُفصح عن ذلك حتى لا أدفع رفاق الدَّرب ‏للشعور بالقلق، أو أن يمنعوني من الاستمرار (خوفًا عليّ). شعرتُ بنوع من الخوف لأنَّ ‏تركيزي لم يكن كما يجب بسبب الإرهاق، شعرتُ برأسي خفيفًا.. لكنّني تغلّبت على ‏خوفي بشغفي العارم لبلوغ القمّة.. استجمعتُ قوّتي وصرتُ مع كل خطوة أردِّد: "يا قوّة ‏الله.. يا قوّة الله" لأجدني أحثُّ الخطى بثبات وثقة أكبر، ولتجنُّب (التدهور!) كنت أميل ‏بجسدي إلى الأمام أثناء الصُّعود حتى إذا تعثَّرتُ (لا سمح الله) أقع في مكاني ولا أهوي ‏إلى الأسفل!‏

كان لروح الفريق الإيجابيّة العالية وتشجيعنا ومساعدتنا لبعضنا بعضًا دورٌ كبيرٌ في ‏اجتياز المسافة بهمّة ومتعة أكبر.‏

 

‏"جاتوه" الأعراس!‏

أضحك ويضحك مَن هم حولي عندما أخبرهم أنَّ جبل (أم الدامي) مثل "جاتوه" ‏الأعراس.. يتكوّن من طبقات!!‏

كلّما ظننتَ أنكَ وصلتَ القمّة تجد أنَّ عليك اجتياز طبقة جديدة.. وكأنّه جبلٌ فوق جبل.. ‏وهذا ما يفسِّر أنكَ لا تشاهد قمّته وأنتَ في الأسفل!‏

الجميع يشعر بالتعب والعطش، ويبدو أنَّ ما حملناه معنا من مياه لم يكن كافيًا.. قائد ‏الفريق يشجعنا باستمرار.. "قرّبنا.. هانت..".. وفجأة يلوح علم الأردن.. ‏

هذا يعني أنَّنا أخيرًا وصلنا! ‏

 

 

 

 

 

‏ 8:40 بتوقيت الفرح!‏

تتلاحق الأنفاس، وتتسارع الخطوات، وتتعالى صيحات الحماسة والتشجيع ترحب ‏بالواصلين تباعًا إلى القمّة..‏

واااااو..!! أنا على أعلى قمّة في الأردن.. ‏

أخيرًا تحقق الحلم.. أتَّجهُ إلى سارية العلم.. أعانقها بفرح الأطفال.. ياااااه! فجأة اختفى ‏الإرهاق والدوّار والجوع والعطش والحَرّ!! ‏

أخيرًا وصل أعضاء الفريق الـ(12) إلى القمّة! بالنسبة لي كان التقاط الصور أهمّ من ‏التقاط أنفاسي.. أردتُ أن أُوثِّق هذه اللحظات إلى الأبد.. بلوغ هذه القمّة كان يعني لي ‏الكثير.. إلى الحدّ الذي تضيق به العبارة! ‏

 

‏"الزّلم" أو "فأر الحظ"!‏

بَدَت لي قمّة (أم الدامي) كومة من "الليجو" الصخريّ العملاق.. مشيتُ بحذر على حواف ‏الصخور الحادّة، وعلى بعد بضعة أمتار خلف السّارية وقفتُ أتأمّل الجبال "تحتنا"، أجولُ ‏بنظري في كلِّ الاتِّجاهات على ارتفاع (1854مترًا) وأشعر أنّني في مركز الكون، أتمنى ‏أن يتوقّف الزمن، أتناول "موبايلي" لأوثِّق إطلالة القمّة بالـ"فيديو" وفجأة..!! لمحتُهُ ‏خلفي.. يمشي بخفّة على الصخور قبل أن يختفي تحتها.. كتلة صغيرة من الفرو البنّي..! ‏دون وعي توقفت عن التصوير على الرغم من أنَّ الجهاز ما زال في وضعيّة التسجيل.. ‏كانت رؤيتي لهذا الكائن مفاجأة غير متوقّعة.. وجدتني أسأل بذهول: "يا جماعة.. عادي ‏يكون في فيران وجرادين هون!؟"، لم يأخذ أحد تساؤلي على محمل الجدّ.. كان قائد ‏المجموعة ينادينا لالتقاط صورة جماعيّة قبل مغادرة القمّة في الساعة 9:30. ‏

أمّا عن هذا الكائن الذي حيّرني، ولم يلمحه غيري؛ فقد تذكّرتُ فيما بعد أنَّني قرأتُ أثناء ‏تحضيري لتسلُّق الجبل عن حيوان ثديي صغير يُدعى "الزّلم"(*) أو "الوبر الصخري" ‏يعيش تحت الصخور على قمّة (أم الدامي) وأنه محظوظ مَن يحظى بمشاهدته! ولأتأكد ‏ممّا توصّلتُ إليه من استنتاج بحثتُ مجدّدًا عن صوره على شبكة "الإنترنت" لأجد أنها ‏مطابقة للحيوان الذي رأيته.. لقد أفرحني ذلك كثيرًا، واعتبرت رؤيتي له فأل خير!‏

 

 

 

طريق العودة

سبحان مغيّر الأحوال، عجيبةٌ هي الطاقة التي شحنتني بها القمّة! كُنتُ في غاية السعادة ‏والنشاط، أنزل برشاقة دونما خوف هذه المرَّة، لقد تغلَّبتْ نشوة الوصول والإنجاز على ‏أيّ إحساس آخر، سادت أجواء المرح والألفة بين أعضاء الفريق؛ فقد أصبحنا عائلة ‏واحدة. ‏

عند نهاية المسار سجدتُ شكرًا لله، لقد تحقق الحلم بعد طول انتظار، وها نحن جميعًا ‏بخير، نودِّع هذا الجبل المهيب الذي ترك في أرواحنا أثرًا يصعب وصفه. ‏

استراحة محارب في ظلِّ الجبل، مع كأس من الشاي حلو المذاق صنعها لنا شباب وادي ‏رم قبيل عودتنا إلى المخيَّم. طريق العودة كانت أشبه بـ"الفاردة" نلوِّح مثل "الفاتحين" ‏بالأعلام، ونردِّد أغاني "الشيلات البدويّة" التي تصدح من "البيك أب"، جرعة مكثّفة من ‏مشاعر كثيرة؛ كرنفال من مشاعر الفرح والتحدّي والمغامرة، فيضٌ من السحر والجمال ‏تشبّعت به كل حواسنا، لا بل كل خليّة فينا.. بعض الأماكن لا تراها بعينيك، بل تتشرَّبها ‏وتتنفَّسها لتتغلغل فيكَ إلى الأبد.‏

 

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) "الزلّم" أو "الوَبر الصخري" حيوان ثديي صغير (يُشبه القوارض ذات الجسم ‏الممتلئ) يعيش تحت الصخور، ويتغذى على الحشائش والسحالي والحشرات وبيض ‏الطيور، ويتراوح طوله بين (30-50) سنتمترًا.‏