جماليّات عمّان

محمد أبو عريضة

كاتب أردني

حينما بدأتُ العمل في صحيفة "العرب اليوم" عام 2000، ولأنني مسكونٌ بالمكان، وتفاصيل ‏أشيائه المدهشة، أخذتُ أبحث، أسأل، أكتب عن عمّان، إلى أن تجمّع لديَّ مواد عنها، مكثتُ أكثر ‏من عشر سنوات في كتابتها، فراجعتُها، وأعدتُ إنتاجها، ونشرتها عام 2014 في كتاب "أسرار ‏عمّان... تحقيقات في ذاكرة المدينة"، ولم أتوقف في متابعاتي وكتاباتي عند ما جاء في ذلك ‏الكتاب، بل وسَّعتُ إطار بحثي، فوصلتُ إلى مناطق بعيدة عن عمّان، لكنّي بقيتُ، وأنا أغادر ‏محبوبتي عمّان، أحمل في وجداني صورها، أستدعيها كلّما وصلتُ مكانًا آخر، فأراه جميلًا ‏بديعًا، كعمّان.‏

 

هل عمّان مكان جميل؟

‏"الجمال في التفاصيل، فلا تعتقدَنَّ أنكَ قادر على سبر غور المحبّة من دون هذه التفاصيل".‏

كنتُ، وأنا أهبط إلى وسط البلد، مسرعًا، أشعر أنَّ رأسي فارغ إلا من صورتها. وكلّما حاولت ‏استحضار إحداها في ذاكرتي، تنزوي كل الصور هناك في مكانٍ قصيّ. تظهر الصورة ذاتها، ‏فأقول لذاتي: لا تُتعب نفسك، احتفظ بذكرياتك وصورك كافة إلى أن تغادر وسط البلد.‏

فهل أنتِ جميلة يا صاحبة الصورة الوحيدة في رأسي الفارغ من باقي الصور؟

هذا هو السؤال الذي أخذ بتلابيبي، ورافقني أكثر من عشر سنوات، وأنا أبحث في عمّان وعنها، ‏والبداية ككل البدايات كانت جَنينيّة.‏

كنتُ، على غير عادتي ورغبتي، قد غادرتُ الأردن مدة طويلة، وحينما عدتُ مسرعًا، لم أنتظر ‏طويلًا في البيت، أجالس المرحومين والديَّ، وأحتضن أطفالي الصغار، وأطمئنّ على أحوال ‏زوجتي، وأنتظر المهنئين بسلامة العودة.‏

خرجتُ مسرعًا، ركبتُ سيارتي، وحاولتُ إدارة محرّكها، لكنها تمنّعت ولم تطاوعني، كما هي ‏عادتها كلّما كنتُ مسرعًا، فتركتها واستقلَلتُ أوّل مركبة أجرة، وقلتُ للسائق: بسرعة إلى وسط ‏البلد.‏

تفقّدتُ تفاصيل الأشياء في الطريق، فلم أجدها مدهشة، كما كنتُ أراها... ذلك البيت الأبيض في ‏قمّة جبل الأشرفية باهت اللون، مع أنَّ أشعة الشمس كانت تنعكس عن جدرانه ببهاء، تصنع ‏لوحة بديعة. وبقّالتي المفضّلة في رأس العين، التي اعتدتُ، وأنا ذاهب إلى محبوبتي، أن أشتري ‏منها سجائري، مُعتمة، مع أنَّ وسط النهار كان يتوسط المكان، وبابها مشرَّعٌ على اتِّساعه. ‏والإشارة الضوئية الأخيرة في آخر شارع الأمير محمد، معطّلة، تتدلّى منها هواجس الهابطين إلى ‏وسط البلد. مع أنني طوال عقود بقيتُ أقف أمامها، منتظرًا اللّون الأخضر، لأسرقَ النظرة الأولى ‏من محيّى محبوبتي.‏

سألتُ نفسي: لمَ كل الصور في الطريق باهتة؟

هل لأنّي غادرتُكِ يا محبوبتي طويلًا؟

أم أنني أرى ظلالك أيتها الصور، وأبحث عنكِ فيك، فلا أراكِ؟

أم هي الطبيعة، تجعلكَ ترى الأشياء مختلفة، كلّما أطلتَ الغياب؟

تجوّلتُ في محبوبتي، ناجيتُها طويلًا، تفقدتُ تفاصيلها المدهشة. أوّل الأمر أبَتْ واستمنعَتْ، لكني ‏من شدة اشتياقي ركعتُ عند أقدام ساحة فيصل، ما بين شرفتي "السنترال" و"الأوبرج"، ابتهلتُ ‏إليها، ناجيتها، قبّلتُ تفاصيلها، رجوتُها أن تسامح زلّتي، ووعدتُها أن لا أغادرها أبدًا، وأن ‏أرفض كل مغريات السفر.‏

في طريق العودة إلى البيت، وأنا أحتضن كلماتها الأخيرة، سألتُ نفسي: هل حقًّا عمّان مكان ‏جميل؟

أليست دمشق أجمل؟ ‏

أليست بيروت أحلى؟

أليست موسكو التي أحبها كثيرًا أبهى؟

أليست روما أكثر رشاقة؟

أليست باريس أشد تورُّدًا؟

أليست الحياة في القاهرة أقل تكلفة على الأعصاب؟

ألا تجاور عدن الجنّة؟

ألا تمنحك بغداد فرصة للتجوُّل في صفحات المجد؟

أليست القدس الأقدس على وجه الأرض؟

ومكة والمدينة المنورة أكثر قربًا إلى الله؟

أليست الخليل مدينتك، التي وُلدت فيها وتنتمي إليها؟

أليست يافا سيدة البحر؟

وعكا قاهرة الغزاة؟

التساؤلات كثيرة، لكني لم أتردَّد في الإجابة: عمّان هي الأجمل بين كل مدن الأرض.‏

سألتني: هل الأمر وجداني، له علاقة بمكوثك معظم سنوات عمركَ في عمّان، فقد دخلتَها طفلًا ‏لم يجلس بعد على مقاعد الدرس، وها أنت اليوم على أبواب الأربعين؟

كان ذلك عام 2000، حينما بدأتُ العمل في صحيفة "العرب اليوم"، ولأنني مسكونٌ بالمكان، ‏وتفاصيل أشيائه المدهشة، أخذتُ أبحث، أسأل، أكتب عن عمّان، والصحيفة تنشر، إلى أن تجمّع ‏لديَّ مواد مختلفة عن عمّان، مكثتُ أكثر من عشر سنوات في كتابتها، فراجعتُها، وأعدتُ ‏إنتاجها، ونشرتها عام 2014 في كتاب اخترتُ له عنوان: "أسرار عمّان... تحقيقات في ذاكرة ‏المدينة". ‏

‏"أسرار عمّان.. تحقيقات في ذاكرة المدينة"‏

الكتاب يحتوي 36 مادة، مبوّبة في سبعة فصول. كل فصل، باستثناء الفصل الأوّل، يحتوي ‏عددًا من العناوين، أمّا الفصل الأوّل؛ وكان بعوان: "قبل الدُّخول إلى المدينة"؛ ففيه مادة واحدة ‏هي "نزوح إلى عمّان ورحلة المئة عام".‏

المواد كافة، باستثناء العنوان الأوّل الوارد في الفصل الأوّل؛ عبارة عن تحقيقات استقصائية ‏صحافية، في كل تحقيق قصة، بطل القصة هو المكان، والعناصر الأخرى، الأشخاص يتحركون ‏في خط درامي لخدمة المكان، وهو المكان في عمّان، فمِنَ المكانِ كنتُ قد بدأتُ كل تحقيق، وفيه ‏انتهيت.‏

الفصل الثاني من الكتاب، بعنوان "بعد الدُّخول إلى المدينة" يحتوي أربع مواد؛ أوّلها: "عمّان.. ‏سيارات غزيرة ومياه عزيزة"، والثاني: "عائد إلى عمّان"، والثالث: "أدراج"، والرابع: "شجرتا ‏كينا"، أمّا الفصل الثالث، وهو، كما أعتقد، الأكثر غنًى؛ جاء بعنوان "أحياء"، وهو عبارة عن ‏‏14 عنوانًا، تحدّثتُ في كل عنوان عن حيٍّ من أحياء عمّان؛ منها أحياء موجودة باسمها ‏الحقيقيّ، كحيّ الطفايلة وحيّ الأرمن، ومنها أحياء أخرى لها سمات خاصة؛ أطلقتُ عليها أسماءَ ‏من وحي خيالي، بما يتناسب مع خصوصية كل حيّ، فمثلًا نجد: "الحيّ السياسي"، وفي الأردن ‏لا يوجد حيّ بهذا الاسم، وكذلك الحيّ الآسيوي، والحيّ الصناعي، والتجاري، أو حيّ النبلاء.‏

الفصل الرابع من الكتاب، جاء بعنوان "رحلات"؛ وهو عبارة عن أربع مواد؛ مادتان منها ‏تتحدثان عن رحلتين حقيقيتين، هما "رحلة إلى المغطس"، والثانية "رحلة إلى متحف الأطفال"، ‏وأمّا المادتان الأخريان، فهما رحلتان مجازيتان، أوّلهما باسم "رحلة الشتاء والصيف"، تناولتُ ‏فيها قصة العائلات البدوية، التي تعيش بين الشفا والغور في بيوت شعر، تنتقل في الصيف من ‏الغور إلى الشفا، وفي الشتاء، تعود إلى الغور، أمّا المادة الثانية، فهي بعنوان "رحلة الجيداء"، ‏تحدثتُ فيها عن فرس اسمها "الجيداء" بكت صاحبها لمّا مات، ولم تصبر على فراقه، فماتت ‏بعده بأسبوع، ما دفعني للغوص في عالم الخيول، وعلاقة عمّان المكان بها.‏

في الفصل الخامس، وهو بعنوان "أسواق"، أربع مواد، تناولتُ فيه الحركة التجارية في عمّان، ‏وقصصها، فتجد "سوق البخارية"، و"سوق الألبان"، و"المقاهي السياحية"، وأخيرًا "حمّام ‏النصر".‏

الفصل السادس بعنوان "مؤسسات"، وفيه ثلاث مواد، هي "البريد الأردني في زمن العولمة"، ‏و"الخط الحديدي الحجازي"، و"المستشفى الإيطالي"، وفي الفصل الأخير، الذي جاء بعنوان ‏‏"طُرُق"، تحدّثتُ فيه عبر ست مواد عن طرق افتراضية، وليست طرق للتنقل، ففيه "طريق ‏الفريكة"، و"طريق الصابون"، و"طريق الكهرباء"، وطريق الملح"، و"طريق العمارة"، و"طريق ‏الحجر"، تبحث هذه المواد الست العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وتشابكاتها منذ منتصف ‏القرن التاسع عشر وحتى مطلع الألفية الثالثة. ‏

وفي التفاصيل، سأتناول عددًا من هذه العناوين:‏

أولًا: نزوح إلى عمّان ورحلة المئة عام

‏"والدي يعيش أيامه الأخيرة"، هذه هي الحكاية. رجل اقتربت سنوات عمره من المئة عام، يرقد ‏على فراش الموت في إحدى مستشفيات عمّان.‏

مشاعر متضاربة هيمنت عليَّ على مدى أيام، أسأل نفسي: هل يحقّ لأبي أن يموت ويتركنا ‏هكذا؟ صحيح أنَّ أصغر أبناء الشيخ المريض تجاوز الأربعين، غير أنَّ الصبيّ، الذي هو أنا، لم ‏يبرح بعد ليلة بعينها، حينما بحثتُ عن حضن أمي، فوجدتُ أخي الأصغر قد سبقني إليه، ‏فأخذتني مخاوفي، على غير عادتي، إلى حضن أبي.‏

كان ذلك في أحد أيام حزيران عام 1967، حينما باتت قافلتنا بين سفحي جبلين من جبال القدس ‏الشرقية المُطلة على الغور، ننتظر ضوء النهار، لنكمل رحلة المجهول إلى مجهول جديد، نبحث ‏فيه عن حياة جديدة. ‏

ثانيًا: عمّان... سيّارات غزيرة ومياه عزيزة

قبل مئة عام أو أكثر قليلًا دخلت عمّان سيّارة، لأوّل مرّة في تاريخها، فالمركبات كانت عزيزة، ‏فهرب الأهالي من أمامها وجلين، فكان ذلك أوّل عهدهم بهذا الاختراع الجديد.. مركبة لا يقودها ‏حصان أو بغل أو حتى حمار، هذه إحدى عجائب الدنيا. هكذا كانت مشاعر الأهالي، وهم ‏ينظرون إلى هذا الكائن العجيب، كتلة من المعدن يركبها بشر.‏

مقابل هذه الصورة، ظلّت صورة المياه وهي تتدفق في أودية عمّان، مشكِّلة سيولًا في سنوات ‏الوفرة، تتجاوز كل شيء إلى أن تصل إلى مصبّها، وهو سيل عمّان.‏

هذه هي عمّان قبل مئة عام أو أكثر، لكن؛ عمّان التي ظلّت على مدى قرون طويلة، منذ أول ‏حضارة زراعية تشكلت فيها قبل عشرة آلاف عام، مدينة الوفرة المائيّة، أمست اليوم مدينة ‏وفيرة المركبات، شحيحة المياه.‏

ثالثًا: الحيّ السياسي في جبل عمّان

هو حيّ افتراضي، صنعته من مخيالي. فأنا وبينما كنتُ أراجع تفاصيل التحوُّلات العميقة في ‏عمّان، منذ عودة وسطها الحالي إلى الحياة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لاحظتُ أنَّ ‏حيًّا بعينه قيّض له أن يشكل مربعًا لكل التناقضات السياسية بعد نحو عقدين من تأسيس الدولة ‏الأردنية، وحتى نهاية خمسينات القرن الماضي.‏

ولأنه حمل هذه السمة، أطلقتُ عيه اسم الحيّ السياسي، مع أنه لا يحمل هذا الاسم، ولعلّي لا أبالغ ‏إن قلتُ إنني الوحيد الذي استخدم هذا التعبير. ففي هذا الحيّ سكن، خلال العقدين؛ من بداية ‏الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات، ملوك وأمراء ورؤساء وزارات وقادة جيش ووزراء ونواب ‏وسياسيون موالون، ومعظم رموز المعارضة السياسية، ناهيك عن الأرستقراطية العشائرية، ‏ورجال المال والأعمال.‏

حدود الحيّ من الغرب كنيسة الإدفنتست الواقعة في بداية شارع الرينبو، وينتهي بشارعي خرفان ‏وعصفور آخر الشارع، مع حوالي عشرة شوارع تتقاطع معه من الشرق إلى الغرب وبالعكس. ‏ناهيك عن امتداد الحي هبوطًا إلى وسط البلد.‏

التفاصيل كثيرة، غاية في الغرابة والتناقض، لكن كان يحكمها أنَّ كل مَن سكن الحيّ كان له دور ‏سياسي، كبر أو صغر، في التأسيس لما جرى بعد ذلك.‏

رابعًا: طريق الصابون

تشكّلت ظروف غاية في التعقيد منتصف القرن التاسع عشر، أسَّست للصعود الاجتماعي ‏والسياسي، في شرقي الأردن، لأصحاب معامل إنتاج الصابون في نابلس أو "جماعة ‏المصابنيّة"، وجماعة بدو البلقاء. وأصل الحكاية، يتمثل في علاقات تجارية متشابكة أسَّست لهذا ‏الصعود.‏

وفي التفاصيل أنَّ جزءًا من العائلات النابلسيّة، التي كانت تتاجر بالقطن حتى خمسينات القرن ‏التاسع عشر، حينما كانت زراعة القطن رائجة في الريف الفلسطيني، تحوَّلت، بعد دخول القطن ‏المصري منافسًا قويًا، إلى صناعة الصابون، ولأنَّ أكثر من ثمانين في المئة من مدخلات إنتاج ‏الصابون هو رماد "القلو" -من القلويّات- ويُستخرج من نبات "الحمض" المنتشر بشكل كبير في ‏بادية البلقاء ومعان، فإنَّ علاقات تجاريّة تأسَّست بين مصابنيّة نابلس وجماعات البدو في البلقاء ‏بشكل رئيس، وبادية معان بشكل أقل.‏

هذه العلاقة نقلت بدو البلقاء من الاقتصاد الغزوي البضاعي إلى الاقتصاد النقدي، فقبل هذا ‏التاريخ، لم تكن الجماعات البدوية تعرف التعامل النقدي؛ وبالتالي أسست هذه العلاقات للصعود ‏السياسي والاجتماعي لبدو البلقاء ولأصحاب المصابن في نابلس في الحياة السياسية في الدولة ‏الأردنية منذ التأسيس. ‏

ليست النهاية

أنا مغرمٌ بالمكان، بتفاصيله، بجماليّاته، لذا فإنني لم أتوقف في متابعاتي وكتاباتي عند ما جاء في ‏كتاب "أسرار عمّان... تحقيقات في ذاكرة المدينة"، بل وسَّعتُ إطار بحثي، فوصلتُ إلى مناطق ‏بعيدة عن عمّان، لكني بقيتُ، وأنا أغادر محبوبتي عمّان، أحمل في وجداني صورها، أستدعيها، ‏كلّما وصلتُ مكانًا آخر، فأراه جميلًا بديعًا، كعمّان.‏

وصلتُ العقبة جنوبًا، ولواء بني كنانة شمالًا، تخوم فلسطين المحتلة غربًا، وحدود العراق ‏والسعودية شرقًا... وكنتُ، كلما أعود من رحلاتي تلك، عند أحد أبواب عمّان، أجدُني، وقد ‏حملتُ معي بعض صورٍ المكان الذي عدتُ منه، أضيفها إلى أرشيفي من الصور الجميلة، أتوقَّف ‏قليلًا، أتأمَّل عمّان، فأجدها أجمل المدن، وأتذكَّر أشعار حيدر محمود:‏

‏"أرخَتْ عمّان جدائلها بين الكتفين

فاهتزَّ المجد وقبَّلها بين العينين ‏

بارك يا مجد منازلها والأحبابا ‏

وازرع بالورد مداخلها بابًا بابا".‏