من عمّان إلى العقبة ‏"مسيرة المناخ 5"..‏ اكتشافٌ.. انتماءٌ وعشقٌ لأرضٍ تستحقّ!‏

 

كتابة وتوثيق: إيمان مرزوق‏

كاتبة أردنية

 

 

القرارُ بذاتِه.. يُعادلُ الوُصولَ والانتصار.. ‏

من عمّان إلى العقبة مشيًا على الأقدام.. ولسان حالي يُردِّد:‏

‏"سأقْطعُ هذا الطَّريق الطويل، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخِرهْ.. ‏

إلى آخر القلب أقطعُ هذا الطريقَ الطويلَ الطويلْ.."(1).‏

خيمة.. "كيس نوم"، وحقيبة سفر، و"دبدوب"..! إنّ حصرَ ما تحتاجه من أشياء للعيش مُتنقلًا من ‏مكان لآخر مشيًا على الأقدام لمدة 6 أيام بعيدًا عن أهلكَ وبيتكَ وسريركَ ليس أمرًا هيّنًا.. ولكن؛ ‏بعد خوض التجربة كاملة.. تُوقِنُ أنَّ خيارَ العودةِ من الخيمة إلى بيتكَ نعمة يفتقدها كثيرون على ‏هذا الكوكب.‏

 

اليوم الأوَّل 18/10/2021‏

تجمَّعنا في عمّان وانطلقنا إلى الجامعة الألمانية الأردنية في مادبا حيث أقيم حفل افتتاح المسير ‏بشكل رسمي، الحماسة والنشاط باديان على الجميع، خاصة بعد أن لبسنا جميعًا "التيشيرت" ‏الأخضر الخاص بمسيرة المناخ(2)، هذا اللون أعطانا طاقة إضافية، واحدًا تلو الآخر بدأنا المشي ‏على بركة الله وباسمِه؛ في شوارع مادبا باتِّجاه الكرك، عبر (الطريق الملوكي).‏

مشينا بين البيوت، في الأسواق، وعلى أطراف الأراضي الزراعية المفتوحة، مررنا بمواقع أثرية ‏وتاريخية كثيرة، الناس تنظر إلينا بفضول سرعان ما يتحوَّل إلى استغراب "مشي من عمّان ‏للعقبة..!! طب ليش ؟"، "الله يقوّيكو". ‏

 

الحظّ حليفنا، الجوّ خريفي بامتياز، الغيومُ أكُفٌّ حانيةٌ تحجبُ وهجَ الشمسِ عن جباهنا، نمشي ‏بأريحية وانتعاش، عيوننا تسافر بعيدًا في الأراضي الزراعية المنبسطة مثل بحر بُنّي من التراب ‏السّخي، إنه الأفق الذي نفتقده في زحمة المدينة، زُرقة السماء مع نُدَفِ الغيم العملاقة.. خطٌ ‏طويل.. يقطع استقامته بضع شجرات من بعيد.. ليبدو المكان نوتة موسيقيّة ربانيّة.‏

نمشي باتجاه مَطَلّ وادي الموجب، نصله مع غروب الشمس، نلتقط الصور على عَجَل، ثم ننسابُ ‏مع الطريق الملتوية نزولًا باتجاه السَدّ كالمطر، يُخيّم الليل علينا، كعمّال المناجم يحمل كل منّا ‏مصباحه على رأسه ليرى موطئ قدميه، وفي قلبه شغفٌ يبدّد عتمة الخوف والتعب، تزداد ‏خطواتنا تسارعًا مع الانحدار الشديد للشارع الذي لا يخلو من الخطورة على الرغم من قلة ‏السيارات، ترافقنا على طول الطريق دوريّات الشرطة المخصَّصة لحمايتنا وتسهيل مهمّتنا، القمر ‏يُسامرنا، وينثر فضّتهُ على عتمة مياه السدّ الذي عبرناه لنستكمل طريقنا، كالأطفال أراقب ظلالنا ‏على سفح الجبل، تظهر فجأة عند مرور مركبة ما، تبدو ممطوطة بطريقة مضحكة وكأنها لعبة ‏تقفز من صندوق العتمة وتعود لتختبئ بانتظار ضوء آخر يُحرِّرها ولو للحظات لترافقنا من جديد.‏

وأخيرًا وصلنا إلى "قاعة الشهداء" في الكرك حيث سنبيتُ ليلتنا الأولى. 34كم هي المسافة التي ‏مشيتُها في يومي الأوَّل. ننزل حقائبنا وخيامنا من الحافلة المرافقة، الجميع يشعر بالتعب، يختار ‏كل منّا المكان الذي سينصب خيمته فيه، نقوم بتمارين الإطالة لنريح عضلاتنا استعدادًا لليوم ‏التالي، نتناول طعام العشاء المُعدّ لنا، نوقّع على "إخلاء مسؤوليّة"، أصوِّره وأوقِّعه على عجل، ‏علمًا أنني لم أقرأه إلا بعد شهر من عودتنا! هاجسي هو التمكُّن من مشي المسافة كاملة، يغالبنا ‏النعاس فمعظمنا لم ينل قسطه الكافي من النوم في الليلة الماضية، والسهر مقامرة خاسرة لأنَّ غدًا ‏يوم جديد سنمشي فيه أكثر من 6 ساعات!‏

 

اليوم الثاني 19/10/2021‏

أستيقظُ مبكرًا جدًا قبل الموعد المحدَّد بساعة أو أكثر، أحزم خيمتي وحقيبتي، وأُعِدُّ قهوة الصباح ‏في سخّان كهربائي صغير، أحمل فنجاني وأتَّجه خارج المبنى، أجلس على الدَّرج بانتظار أذان ‏الفجر، دقائق مُكثّفة! لا تساوي مثيلاتها في الزمن! رائحة القهوة، نسائم الفجر الباردة، الهمّة ‏العالية، النشاط الغريب! الهدوء، والحماسة ليوم جديد. نُصَلّي الفجر، نقوم بتمارين الإحماء، ونبدأ ‏المشي قبل شروق الشمس. الروتين اليومي في مسيرة المناخ كان يُشعرني وكأني أقضي أيامًا في ‏‏"الخدمة العسكريّة!".. روح الفريق، الانضباط، الالتزام بتعليمات القائد والمشرفين، هتافات ‏التشجيع، التعب، الصبر، التحمُّل، الاستغناء عن وسائل الرفاهية المعتادة، وغيرها من التفاصيل ‏التي عشناها بعيدًا عن الروتين ودائرة الراحة التي اعتدناها في حياتنا اليومية.‏

 

لكل يوم من أيام المسير طابع ودهشة مختلفة، ما زلنا في الكرك، اليوم الثاني كان حافلًا حقًا، فيه ‏حققتُ رقمًا قياسيًّا، فالمسافة التي قطعتها في يوم واحد كانت 37كم، بينما كانت أطول مسافة لي ‏قبل سنوات هي 27كم.‏

مرَّة أخرى الجوّ حليفنا، والغيم رفيقنا، نمشي مسافة طويلة دون أن نشعر بالتعب، معدتنا خاوية ‏فوقت الفطور لم يحن بعد، المكان يشحنني بطاقة عجيبة، مغازلةُ شمسٍ كسْلى استيقَظَتْ للتوّ ‏لتداعب بأشعتها الذهبية أشجارًا بعيدة، الأرض حولنا صفحة مفتوحة، كتابٌ؛ فطِنٌ مَن يقرأه. كنتُ ‏أتنفّسُ المكان وأشربه، تمامًا كالماء والهواء والطعام الذي يصبح جزءًا من دمنا وخلايا جسمنا، ‏كل الأماكن التي عبرناها سكنتني وأصبحت جزءًا منّي إلى الأبد. التناوب على حمل العَلَم كان ‏طقسًا محبَّبًا يضاعف من همَّتنا وعنفواننا.‏

تصوير اللافتات التي تدلّ على أسماء الأماكن على طول الطريق كان ضروريًّا بالنسبة لي، أنا ‏مررتُ من هنا! شعوران متضاربان أُحسُّهُما كلّما زرتُ مكانًا جديدًا في بلدي، الأوَّل؛ دهشة وفرح ‏طفولي غامر، والثاني؛ لوْمٌ وخجلٌ وشعورٌ بالتقصير، "عيب عليّ" كيف يمرُّ هذا القدر من عمري ‏وحياتي دون أن أعرف كل شبر من وطني!‏

ذيبان، الموجب، لِب، القَصر، الرّبّة، المشيرفة، العين البيضا، القادسية، ضانا، فينان، وادي عربة، ‏قرية رحمة، كل هذه الأسماء وغيرها أصبحت جزءًا من شجرة العائلة لكلِّ واحد منّا.‏

يحارُ كثيرون عندما يرون الصور التي نلتقطها "وين هاي؟ عنّا بالأردن؟"، نعم.. هنا في بلدي ‏الذي أراه بعينِ المُحب، وأنقله ليعرفه العالم أجمع.‏

في فترة الظهيرة بدأتُ أشعر بالتعب، ألمٌ شديدٌ في قدمَي، ألمٌ يشبه الحرق أو المشي على جرح ‏مفتوح، غالبتُ الألم حتى حان وقت استراحة الغداء، جلسنا تحت الأشجار، خلعتُ حذائي الرياضي ‏لأتفاجأ بإصابة كلا الكَعبين بفقاعتين نتيجة الاحتكاك جراء المشي الطويل، هذا النوع من ‏الإصابات تكرَّر معي ومع بقية الرفاق؛ وكنّا في كل مرة نعالجه بالطريقة ذاتها: تعقيم الفقاعة ‏بالكحول الطبي، ثم وخزها بدبوس مُعقَّم لإحداث عدة ثقوب، والضغط برفق لإخراج السائل ‏المتجمِّع، ثم تعقيمها مجددًا، ووضع شريط طبي لاصق.‏

على طول الطريق كنّا نهرب من الإسفلت إلى التراب كلّما أمكَن ذلك، سبحان الله! الأرض أحنُّ ‏علينا بكثير من الشارع المُعبَّد.‏

على الرغم من حُنوّ الأرض وسخاء الطبيعة كان يؤلمنا أن نرى "عقوق" بعض البشر لهذه "الأم"!‏

فعلى أطراف بعض الشوارع انتشرت القمامة والمخلّفات، بشكل مُستفز! قطعة واحدة من الزجاج ‏المتكسِّر كفيلة بإحداث حريق كارثي!(3) أنظُرُ إلى الأعلى فأرى بديعَ صُنع الخالق، وأنظُرُ إلى ‏الأسفل فأرى بُؤسَ فِعل المخلوق!‏

نمشي ونمشي.. ينتابنا الشعور بالتعب أكثر فأكثر، نتحايل عليه بتبادل الأحاديث والطرائف تارة، ‏وبالغناء وهتافات الكشّافة الحماسيّة تارة أخرى. قُبيل الغروب، فجأة يتعثَّرُ انسيابُ المسير، ‏يتجمهر عدد من المشاركين عند سيارة متوقفة على طرف الشارع، تتسارع دقات قلبي فزعًا، ‏وتتقافز إلى عقلي أسوأ الظنون! خِفتُ أن يكون أحد المشاركين قد تعرَّض لحادث! أقتربُ أكثر، ‏يتبدَّلُ هلعي إلى بهجةٍ مُفاجئة! رجلٌ من أبناء الكرك النشامى برفقة ابنته، "أبوخالد" رآنا من بعيد ‏فما كان منه إلا أن توقَّف لشراء الماء والعصير والحلوى، والعودة لنا بسيارته برفقة فتاته ‏الصغيرة ليُلقي علينا التحية، ويُقدِّم لنا الضّيافة في لفتة تقدير كان لها عميق الأثر في معنويّاتنا، ‏وفي تجديد همَّتنا ونشاطنا.‏

وصلنا مُنهكين إلى معسكر الحسين للشباب في المشيرفة/ الكرك، حيث سنبيت ليلتنا الثانية، ‏ننصِب خيامنا في القاعة، ونتناول طعام العشاء، بعد أن قمنا بالتمارين بإشراف مدرِّبة متخصصة ‏بالتأهيل الرياضي، هذه التمارين التي أصبحت جزءًا ضروريًّا من "روتيننا" اليومي نحرص عليه ‏حتى نتجنَّب الإصابات الرياضية. ‏

 

اليوم الثالث 20/10/2021‏

كان فَجرُنا معتادًا، نرتب أمورنا ونحزم خيمنا وحقائبنا، نقوم بتحميلها في الحافلة، لنكمل المسير ‏باتجاه الطفيلة، لكن ما جعل الأمور مختلفة اليوم هو "عقرب على رأسها!".‏

‏-‏ انظري هناك

‏-‏ ما هذا؟

‏-‏ عقرب.. قتلناه للتوّ.. كان يمشي على قبّعة "تغريد".‏

‏-‏ حقًا..! الحمد لله على سلامتكِ، ولكن أين كنتِ تضعينَ قبعتك؟

‏-‏ على كُرسيّي في "الباص".‏

شعرتُ بالخوفِ والرهبة! لأني أجلس خلف "تغريد" تمامًا! أخذتُ أقرأ القرآن وأُسَمّي، وأتفقّد ‏حقيبتي وأغراضي، خوفًا من حشرة أو عقرب آخر! إنه لطف الله الذي يجري ونحن لا ندري! ‏

برنامج المسير اليوم يتضمَّن ركوب الدراجات الهوائية لمسافة 30كم تقريبًا في منطقة "نزول سدّ ‏التنّور" شمال الطفيلة، ولأنني لا أتمتَّع بالمهارة الكافية، بقيتُ في هذا الجزء من المسار مع بعض ‏المُشاركات في الحافلة، وكانت تلك فرصة جيدة لأريح قدمي من إصابة الأمس، قبل أن أكمل ما ‏تبقى من اليوم مشيًا على الأقدام مرَّة أخرى، وصولًا إلى مخيَّم النواطف في القادسية/ الطفيلة، ‏حيث نقضي ليلتنا الثالثة.‏

الطفيلة البهيّة.. أرض الحكايات والأسرار والكنوز الخفيّة، بصمتٍ تناديك.. لتروي حكايا العتَبِ ‏والتّعب.. شامخة الجبين.. لا تلينُ إلا لِكُلِّ قلبٍ مُحِبّ.. كأهدابٍ أمٍّ تبلّلت وهي تلوِّح لأبناءٍ غادروها ‏لطلب رزقٍ بعيد. ‏

هذه الأرض التي لم نؤتها عُشرًا من حقها علينا، أُعاهدها أن أكون صدى صوتها، ومرآة عشقها، ‏لأجعل أفئدة الناس تهوي إليها كما هَويتُها!‏

صعودًا وهبوطًا في تلال "العين البيضا".. مشهد الجبال، والغيوم التي رافقتنا لليوم الثالث على ‏التوالي، ومَراوح توليد الطاقة البيضاء العملاقة المتناثرة على مدّ النظر، تذكِّرني بمصارعة ‏‏"دونكيشوت" لطواحين الهواء في رائعة الأديب الإسباني "ثيربانتس"، كلما اتجهتُ إلى الجنوب ‏وشاهدتُ هذه المَراوح؛ أشعر بالفرح.. لطالما تمنيتُ أن تكون هذه الأراضي عامرة بمشاريع ‏وطنية للطاقة المتجددة، ألواح شمسية ومَراوح، تحقق لنا اكتفاءً ذاتيًّا وفائضًا تجاريًّا، فنحن أوْلى ‏بأرضنا وشمسنا وهوائنا.‏

 

 

 

نواصل المشي في "أم سراب"، نعبر من بين بساتينها؛ نتذوَّق الزَّبيب من كرومها، وثمار الصبّار ‏الشهية، نتحدث مع شاب من أهل المنطقة عن مسيرتنا، وعن التغييرات المناخية العالمية، فيؤكد ‏لنا أنَّ هذا الجفاف وانحباس الأمطار هو "غضب من رب العالمين.. لأنَّ النّوايا ما هي صافية!".‏

نتوقف لمشاهدة الغروب على المطَلّ في القادسية، لوحة ربّانيّة لا يفيها أيّ وصف، نُجَمّدُ تلك ‏اللحظات المدهشة بمجموعة من الصور التي تُحْيي فينا ذاك الصمت أمام عظمة الخالق كلما ‏رأيناها، وكأنّ طائر الفينيق الأسطوري قد بَسطَ جناحيه المُشتَعِلين ليملأ الأفق نارًا ونورًا!‏

 

نستأنف مسيرنا باتجاه مخيَّم النواطف.. يسير المشاركون متباعدين؛ كلٌّ بحسب طاقته واستطاعته، ‏أمشي برفقة "عُلا"، ما تبقى من الطريق كان حكاية أخرى! أيقنتُ كم يحبني الله ليمنحني هذا ‏الخلاص؛ ويغسل روحي من أحزانها، أحبس الدمع في عيني.. لا أريد أن أبكي، أريد أن أشرب ‏هذا الجمال بكل ما أوتيتُ من حواس.. الشفق الأرجواني الموشّى برماد الغيم عن اليمين، وعن ‏الشِّمال شروقٌ لبدرٍ ذهبي عملاق، وأنا.. بين هذا وذاك. تختار "عُلا" أغنية لا أعرفها.. لنسمعها ‏معًا.. "يا قمر.. احكيلي مالك.. متغيّر عليّ.. طب كيف أحوالك"، أمشي وعيوني معلّقة بالقمر ‏الذي أخذ يرتفع في السماء شيئًا فشيئًا.. تمنيتُ لهذا الطريق ألا ينتهي.. أريد أن أمشي إلى ما لا ‏نهاية.. لا أريد أن أتوقف.. خطواتي المسحورة كانت غايتي ووصولي، القمر الآن في وسط السماء ‏أتوقف لأتمعَّن في تلك الهالة الكبيرة التي أحاطت به مثل قوس قزح! الظلام يزيد السماء بهاءً ‏وسحرًا ويزيدني يقينًا وسلامًا.‏

كنتُ آخر الواصلين إلى المخيَّم بحصيلة 17كم من الجمال الاستثنائي.‏

 

 

اليوم الرابع 21/10/2021‏

يفرض البرد هيبته في القادسية على الجميع، خاصة قُبيل الفجر، عبثًا أحاول تدفئة نفسي، ألملم ‏أغراضي وسط العتمة بالاستعانة بمصباح الرأس، أجهِّز الحقيبة التي سأحملها على ظهري؛ ‏فمسارنا اليوم وسط الجبال والوديان من قرية ضانا حتى وادي عربة، وهذا يعني أنَّ على كلٍّ منّا ‏حمل ما يحتاجه طوال اليوم، لأنَّ الحافلة لن ترافقنا، أُفكِّر؛ كم يحتاج تجهيز حقيبة "الهايك" ‏للحكمة والذكاء؛ أن تحمل ما هو ضروري لاستمرارك بالمسير، مستغنيًا عن أيّ حمل زائد، كم ‏نحتاج لهذه الحكمة في حياتنا.. ما أكثر الأشياء والعادات والأشخاص الذين يشكلون عبئًا وحملًا ‏ثقيلًا علينا!‏

يؤرِّقني المصير الذي ستؤول إليه "محميّة ضانا" التي لم تَعُد محميّة! بعد "كابوس" تعدين ‏النحاس. أنظرُ حولي، وأدعو الله أن تبقى ضانا على حالها؛ بهيّة مدهشة، بعيدًا عن دخان المصانع ‏وضجيج المناجم.‏

الكيلومترات الأربعة الأولى من المسير شديدة الانحدار، تَلقى فكرة استئجار "حمار" لحمل حقيبة ‏الإسعافات الأولية استحسانَ المُنظِّمين، نمشي ونمشي، وصولًا إلى "نُزل فينان البيئي"، نستريح، ‏نصلي، ونتناول الغداء، نواصل المشي في جبال ضانا؛ نقرأ تفاصيلها بتمعُّن؛ نتأمل أشجارها ‏ونباتاتها وصخورها. ‏

تستوقفني زهرة رقيقة نبتت من الأرض في منتصف الدرب بشكل غريب دون ساق أو أوراق! ‏خشيتُ أن يدوسها الفريق دون أن ينتبهوا؛ وقفت أحميها مثل "البودي جارد"! ينتبه لي "زيدان"، ‏يصنع حول الزهرة "سورا" من الحجارة ويقول لي: هكذا سينتبه لها الجميع ولن يدوسوها.‏

 

رغم بساطة الموقف لكنه عنى لي الكثير. المسيرُ يعلّمكَ فنّ التعامل مع التفاصيل، متى تتجاهل ‏وتتغاضى، ومتى تتوقف وتتأمل. ‏

شارفَتْ الشمس على الغروب وما زلنا نمشي، قطعنا حتى اللحظة 29كم، يبدو أنَّ بعض الرَّمل قد ‏دخل إلى حذائي، أسألُ "يوسف" قائد المسير:‏

‏-‏ كم من الوقت نحتاج لنصل إلى الاستراحة؟

‏-‏ عشر دقائق.‏

وقتٌ بسيط (قلتُ في نفسي) سأتحمّل، ولن أقف هنا حتى لا أتأخر عن المجموعة، أمشي بصعوبة، ‏فذرات الرمل على صِغَرها تسببت مع المشي باحتكاك مؤلم في أسفل القدم. أخيرًا نصل إلى مكان ‏الاستراحة "مركز استقبال نزل فينان البيئي"، أتخلّصُ من الرمل العالق في حذائي ولكن بعد ‏فوات الأوان! لقد تسببت تلك الذرات وتلك الدقائق التي مشيتها بحدوث فقاعة جديدة، عالجتُها ‏سريعًا، لكنها بقيت تؤلمني جدًا، الصبر على بعض المشاكل يفاقمها! هذا درس تعلمته ودفعت ‏ثمنه، لأنَّ هذه الإصابة منعتني من إكمال الجزء الأخير من مسار اليوم.‏

كان التخييم في "مركز زوّار رحمة" وسط الصحراء في وادي عربة.. وعلى مرمى حجر من ‏الأراضي الفلسطينية المحتلة، تجربة مدهشة، المكان له رهبة خاصة، كنّا أول مجموعة تُسجل ‏دخولها رسميًّا للمركز (المبني حديثًا)، طمأنينة غريبة سَرَت في أوصالي على الرغم من هدير ‏الطائرات الحربية الذي كان يشُقُّ سكون المكان.‏

 

 

اليوم الخامس/ الأخير 22/10/2021‏

نغادر "مركز زوّار رحمة"، نمشي على طرف الطريق بحذر، ونحيدُ عنه إلى الرمل كلما مرّت ‏شاحنة من شاحنات البوتاس الضخمة "المخيفة"! نبدأ نهارنا بهمّة ونشاط، هدفنا بات أقرب، ‏السماء صافية، الغيم رفيق سنفتقده كثيرًا، نتأمل شروق شمس وادي عربة عن يسارنا، كم تبدو ‏ضئيلًا وسط الصحراء، وحدنا وسط هذا المدى الفسيح، لا شيء سوى عَصفِ الشاحنات المُسرعة ‏التي تُقاد ببراعة، ترافقنا كالعادة دوريّة الأمن، نؤنس أرواحنا بهتافات التشجيع والحماسة وبعض ‏أغنيات الكشّافة، نمشي ونمشي، نُريح أقدامنا بالمشي على الرمل على الرغم من أنه يحتاج ‏لمجهود أكبر، آثار الكائنات في الصحراء أحجية رملية مسلّية.. (هذا أثر أفعى، وذاك لخنفساء، ‏ربّما عقرب، أمّا الجَمَل فآثار أقدامه صريحة لا تحتمل التخمين!).‏

ينتابنا الشعور بالتعب اليوم مبكرًا، الساعة التاسعة، نتوقف عند استراحة شعبية بسيطة على ‏الطريق؛ يوزّع علينا منظمو المسير طعام الفطور؛ نفترش الرصيف، نتشارك مع الكلاب ‏المنتشرة في المكان طعامنا بكل حُبّ. ثم نُكمل، درجة الحرارة ترتفع، والمشقّة تزداد، نمشي ‏ونمشي، نتوقف كل ساعة لدقائق قليلة لالتقاط أنفاسنا وتهوية أقدامنا وللتزوُّد بالماء. نفرح كلما ‏نشاهد لافتة تشير باقترابنا أكثر وأكثر إلى العقبة! نتوقف عند نقطة الجمارك، نستريح قليلًا. ثم ‏نستجمع قوّتنا، لم يبقَ إلا القليل.. نمشي بخطوات مُتعبة لا تخلو من "العرَجِ" أحيانًا!‏

 

‏ نصل أخيرًا إلى مدينة العقبة مع غروب الشمس؛ ندخلها "دخول الفاتحين"! نحمل العلم واللافتات ‏‏"البيئيّة"، ونردِّد نشيد "موطني"، الناس في الشوارع تنظر إلينا بفرح وفضول، وأخيرًا وصلنا إلى ‏‏(الدُّوّار) إلى قلب مدينة العقبة؛ نقطة النهاية، لقد فعلناها! يتقافز الجميع فرحًا، نتعانق، نُهنئ ‏بعضنا بعضًا بهذا الإنجاز، يحمل المشاركون الكابتن "يوسف" قائد المسير ويرمونه في الهواء ‏احتفالًا بالوصول! يختلط الفرح بالدموع. نهاية المسيرة.. بداية جديدة لأشياء كثيرة.. ‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ مطلع قصيدة محمود درويش "سأقطع هذا الطريق".‏

‏(2)‏ ‏ "مسيرة المناخ 5" تنظّمها جمعيّة الجيل الأخضر بالتعاون مع "آكشن إيد" المنطقة ‏العربية؛ من عمّان إلى العقبة مشيًا على الأقدام للمرَّة الخامسة على التوالي بفريق ‏مكوَّن من 30 مشارك ومشاركة، وتأتي هذه المسيرة تحت عنوان "استجابة الشباب ‏الأردني للطوارئ المناخية" وتهدف إلى تسليط الضوء على قضية التغيُّر المناخي ‏وآثارها السلبية على كوكب الأرض.‏

‏(3)‏ ‏ تعمل قطعة الزجاج على تجميع الضوء وتبئيره أو تركيزه (مثل عمل العدسة)؛ ممّا ‏يسبِّب إشعال حريق في الأعشاب الجافة.‏