فيلسوف الانْتباه ‏ ‏"قراءاتٌ في تجربةِ الكاتب خيري منصور"‏ ‏(1945-2018)‏

تُشكِّل تجربة الكاتب خيري منصور، ذات التنوُّع الأجناسي في بنيتها وأشكالها ومساربها ‏وثيماتها: شعرًا، ونقدًا، ومقالةً، وسيرةً؛ مرجعيّةً زاخرة للثقافة العربية المعاصرة، ومدوّنةً ‏راصدة لتحوُّلاتها وتغيُّراتها وتقلّباتها، وفلسفةً نقديّة عارفة لمنابتها وبنياتها وطرائق تشكّلها ‏ومآلاتها، إذْ امتثلت التجربة لطبائع المراس والمران والصقل والصهر على مدى عقود متوالية ‏من شهوة القراءة ولذاذاتها وقلق الكتابة وعذاباتها، لتتخلّق في جغرافيا محكومة بمناخ الانتباه. ‏

وكانت بلدته دير غصون قرب طولكرم درسًا في جغرافيا المَنْبَت المَفتوح على نضارة الدنيا ‏وشقوتها: فردوسه الأوَّل وجرحه الأبديّ، ترتحل معه على قلقٍ كأنّ الرّيح تحتهما، إلى القاهرة، ‏وبغداد، وعمّان، لتتخلّل بنداوتها مفاصل الأمكنة، وتعيد تشكيل صورتها وصوتها في صور ‏شعريّة وسرديّة باذخة، وتكتنز زمنها في رصيده المعرفي والثقافي والحياتي.‏

إنّ سيرته الحياتية والمعرفية ما تفتأ تكشف عن معارجها، فلكلّ معراج أنوارُه ومسرّاته، فكان ‏معراجه الأوّل الشعر، راقيًا فيه سماواته من خلال مجموعاته الشعريّة السبعة: "ظلال" ‏‏(1978)، و"غزلان الدم" (1981)، و"لا مراثي للنائم الجميل" (1983)، و"التيه وخنجر يسرق ‏البلاد" (1987)، و"الكتابة بالقدمين" (1992)، و"نعاس أزلي" (2014)، و"ثرثرة بيضاء" ‏‏(2014).‏

وفي رؤيته النقدية والثقافية، فقد تلبّس الانتباه بثاقب نظره، ابتداءً بـ"الكف والمخرز" (1980)، ‏ثمّ "أبواب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر" (1987)، و"تجارب في القراءة" (1988)، حتى ‏كتابه الأبرز والأكثر وعورة وأهمية: "الاستشراق والوعي السالب" (2000)؛ وفي معراجه ‏الأرضي، كان للسيرة وقفاتها المتأنية والمتأملة والمضيئة بعمق، وهي: "صبي الأسرار" ‏‏(1993)، و"العصا والناي" (2009)، و"ثنائية الحياة والكتابة" (2014)، و"سيرة خاطفة" ‏‏(2014)، و"الجغرافيا الحزينة: نصوص في نوستالجيا الأمكنة" (2021)؛ تلك المعارج التي ‏كان لمقالته الراسخة والجذريّة فضلُ بناء فضاءاتها وعوالمها. ‏

إنه، خيري منصور، كاتب المقالة الأكثر بلاغة وشهرة ومقروئيّة في العالم العربي، تلك التي ‏شكّلت الفضاء الرحب والأكثر سعة وشمولًا لروحه الجامح، في سرديات كاشفة ومنقبة تنبني في ‏فلسفتها على الحفر المعرفي، وتتوسل النثر أداة، لكنّه النثر الذي يستعير الشعر في كل تجلياته: ‏لغةً، وفكرةً، إنها سردية شاعر الفكرة: معنى ومبنى، وله في ثنائيّة الشعر والنثر تشبيه بليغ ‏وطريف، حيث يقول في إحدى أمسياته الشعرية: "إنني في كتابتي النثرية المنتظمة واستمراري ‏في الشعر، دائمًا ما يخطر ببالي ذلك القارب البدائي، الذي يسير بمجذافين: أحدهما، ولنقل: ‏الأيمن، يقترف الشعر؛ والكتابة الأخرى باليد اليسرى، فلا أرى إطلاقًا أيّ تعارض بينهما". ‏

وفي هذا الملف، تهدف أسرة مجلة "أفكار"، كعادتها في تكريم الكتّاب العرب، إلى تسليط الضوء ‏في أبرز معالم تجربته الشعرية والنقدية والثقافية والسّيريّة والصّحفية والحياتيّة، باستضافة نخبة ‏من الكتاب الذين يقاربون هذه التجربة بعين الناظر الخبير، حيث يرى الصحفي محمود الريماوي ‏أنَّ الثابت والجوهري لمقالات خيري منصور في الصحافة العربيّة انشغالها "بالنظرة الكلية ‏ومناقشة المفاهيم والأطر العقلية، والتطرُّق إلى القضايا المحورية، وتفادى في الوقت ذاته ‏الاشتباك مع الوقائع اليوميّة والتّطورات الملموسة"، في مقالته "خيري منصور: نجمًا أدبيًا في ‏الصحافة"؛ وفي رؤيته لمشروعه الكتابي، يؤكد الناقد الأستاذ فخري صالح أنه "شاعر موهوب، ‏وناقد حصيف متمرس، ومفكر مشغول بكيفية عمل الأفكار وتأثيرها في البشر والتاريخ، كما أنه ‏سائح بين الأمكنة مغرم بالارتحال، متحرك لا يطيق القعود أو لزوم الأمكنة" وذلك في مقالته ‏‏"تأمُّلاته العميقة تفرَّقت في جسوم مقالاته الكثيرة: خيري منصور المتأمّل في عنفوانه"؛ أمّا ‏الشاعر والصحفي نضال برقان، في رؤيته النافذة لمشروع خيري منصور الشعري، فيرى "أنَّ ‏قصيدته ظلّت طازجة وحارّة، ومختلفة أيضًا، إذ بقيت قريبة من شجون الناس وشؤونهم، ‏وبخاصة على الصعيد الوطني، من جانب، كما بقيت حريصة على التمسك بشرطها الفني، ‏مستفيدة من المخزون المعرفي لصاحبها، واهتماماته الكتابيّة"، في مقالته "خيري منصور: ‏الشاعر الذي وهب جناحيه لغير القصيدة".‏

ويكشف الشاعر والفنان التشكيلي حسين نشوان عن منازلات خيري منصور الثقافية، فهو ‏‏"المثقف العضوي الذي يحلّق وراء الفكرة الذهنية، يلامس تراب المعنى؛ ليرتقي إلى فضاء ‏الدلالة منطلقًا من أنَّ الكلمة تمثل فعلًا معرفيًّا وتنويريًّا، ليرى الأمّة على صورته التي هي ‏صورة متعددة وجامحة لا تقبل الركون"، في شهادته "خيري منصور: قلق المتعدِّد"؛ وبلغة ‏تتلّبس المفارقة، يصف الشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري صديقه وفق رؤيته للمشهد ‏الثقافي العربي بأنّه: "شذوذ ثقافي يحتاج إلى فقيه شاذ يوازي ذلك الشذوذ في الأسئلة الخشنة، ‏وهو المبضع الذي يذهب مباشرة إلى الورم الثقافي كي يبقر عينه"، وذلك في شهادته "خيري ‏منصور: الصقر الذي ترك ريشه في الأعالي"، ويسلّط الشاعر أحمد اللاوندي الضوء على ‏مفاصل حادة في سيرته الذاتية، في شهادته "خيري منصور فنجان قهوتنا".‏

لعلَّ لهذه الرُّؤى مجتمعة أن ترسم للقارئ صورة ذهنيّة للكاتب خيري منصور، وتمنحه في ‏الوقت ذاته مفاتيح قراءة تجربته برؤيةٍ وعمقٍ، لجدارته بأن يكون مشروعه الشعري والثقافي ‏أرضًا خصبة لقراءات نقديّة جادّة ثقافيًّا وأكاديميًّا وإعلاميًّا، بوصفه شجرة معرفيّة، جذرها في ‏دير غصون، وفروعها في العالم العربي أجمع.‏

د. خلدون امنيعم