خيري منصور.. قلق المُتعدِّد

حسين نشوان

كاتب وفنان تشكيلي أردني ‏

 

 

كان خيري منصور الشاعر والناثر والمفكر ينهل من بئر واحدة، ويقيم بيتًا على قمّة ‏بناء موسوعي في الثقافة أسَّس لجهازه المفاهيمي المتمرِّد على الواقع، متنكِّرًا أو منكرًا ‏للحنين المأساوي/ النستولوجي، وهذه الفكرة تقوم على التضادّ، والوعي السالب، مقابل ‏الوعي الشقي أو العدميّة، فهو صراع تخوضه الذات الحقيقيّة مع الذات الوهميّة في ‏أعماق النفس لينفي أحدهما الآخر ويقصيه؛ هذه الفكرة الأساسيّة التي يتراسل فيها ‏الصِّراع بين الكاتب/ المثقف والإنسان المتمرِّد، وتتنازعها النصوص بين القصيدة ‏والدِّراسة والمقال كحوامل وتجلّيات للصِّراع الذي يخوضه الكاتب مع نفسه.‏

 

يتشعَّب الحديث عن الأديب الراحل خيري منصور‎ ‎‏(1945- 2018) بين الشاعر ‏والناثر والمفكر وكاتب المقال، والإدارة الثقافيّة، وهي وإن كانت تدور في فلك حقل ‏واحد يتصل بالثقافة والإبداع، إلّا أنَّ لكل من تلك الحقول أسرارها ومهاراتها ‏وطبيعتها التي يمكن مقارنتها بالطبيعة التي تتشابه في أصلها، وتفترق بالتضاريس، ‏حيث لكل اختلاف في الطبيعة تمايُز في المناخات، والفضاء النفسي والمعرفي ‏والثقافي والخبراتي، وربما كان لتقلّبات المزاج الذي يخصّ شخصيّة منصور دور ‏إيجابي في الانتقالات من حقل لآخر في محيط الإبداع وبحاره ومنعرجات شواهقه ‏وجباله ووديانه ومنبسطاته، وهي رحلة تتنقل بين العناصر المختلفة في مربَّع الحياة: ‏الهوائي والناري والترابي والمائي.‏

كان المزاج الإبداعي هو الوسيط المرن الذي يتيح للشاعر استعادة غموض الحلم في ‏القصيدة، بينما يفتح باب النثر أو نوافذه لتشوُّف الأفق، أو على الأقل تخيُّله، وفي ‏الوسيط عينه ينظر في الوجود لقراءة معادلاته في الظواهر التي تتصل باتجاهات ‏الثقافة وقواها عبر دراساته الفكرية.‏

في كل تلك التشعُّبات القلقة والمتموِّجة كرمال متحركة كان خيري منصور يقف على ‏قنطرة ثقافيّة صلبة، وحيدًا، بأقل ما يكون من الأصدقاء الذين ينتقيهم نخبة، تتحمَّل ‏صمته الجمّ.‏

ربَّما كانت متطلبات الحياة والمعاش ورغبة السفر والمشي والحرية التي كان معها لا ‏يطيق لقميصه أن يمنع عن صدره الهواء، هي التي اختارته محرِّرًا في مجلة "أقلام" ‏العراقية، ومجلة "الفكر المعاصر" البيروتية، ومديرًا للدائرة الثقافيّة في صحيفة ‏‏"الدستور" الأردنيّة ليتوافق مع الوظيفة التي لم يسلم لها تمرُّده وتفلُّته من قيودها حتى ‏وهو على عتبة السبعين من العمر.‏

 

هو الذي رأى

كان خيري شابًّا في هيئته وروحه وقيافته، بعينين متوقدتين خلف زجاج النظارة التي ‏لا تخفي يقظته وهو يحدق في عين الوجود بإصرار السؤال الذي لا تنطفئ جذوته، ‏ويفرّ كطير ليرى بعين الصقر تفاصيل الأشياء التي يعيدها بلغة أنيقة وساحرة، ‏وأحيانًا بلغة ساخرة.‏

كانت الرُّؤية هي التي تزاحمت في رأسه بتعدُّد وسائل التعبير تتنوَّع بين الشعر ‏والدراسة والمقال، وتجتمع في المثقف العضوي الذي يحلِّق وراء الفكرة الذهنية، ‏يلامس تراب المعنى ليرتقي إلى فضاء الدلالة منطلقًا من أنَّ الكلمة تمثل فعلًا معرفيًّا ‏وتنويريًّا ليرى الأمّة على صورته التي هي صورة "متعددة وجامحة لا تقبل ‏الركون"(1).‏

وهو السبب ذاته الذي‎ ‎رأى في عدد من كتبه: "في حداثة الشعر"، "أبواب ومرايا: ‏مقالات في حداثة الشعر"، وحتى في كتاب "الكف والمخرز: دراسة في الأدب ‏الفلسطيني بعد عام 1967 في الضفة والقطاع" أنَّ الحداثة الشعريّة العربيّة في نهاية ‏الأربعينات من القرن الماضي تتطلّب إعادة نظر، واستقراءً نقديًّا من خلال رؤى ‏مغايرة لتلك التي تزامنت معها، والسياق نفسه الذي وجد فيه أنَّ "الوعي السالب جعل ‏معظم مثقفينا يتباهون بقراءة الأدب الغربي ولكنهم لم يفكروا للحظة أنَّ فهم تاريخ ‏العرب يحتاج لقراءة واعية لهذا التاريخ من مصادره، لكنه الوعي السالب وجلد الذات ‏هما ما يميّزان الكثير من عرب اليوم، ممَّن اختنقوا بنير الطغاة وحنظل الهزيمة‎."‎

 

بئر الطفولة ‏

كانت البداية من بئر الطفولة التي عاشها الكاتب في قرية "دير الغصون"، وقت وقعت ‏الحرب عام 1948، ولم يكن قد أتمَّ الثالثة من عمره، لتغدو صورة الحرب معادلًا ‏للتيه والضياع والحنين والانكسار والهزيمة التي لم يشأ أن تجتاح إلى داخله، ولا ‏وجدان الإنسان العربي، وفي الوقت الذي سعى للقطع مع تلك الذكريات الأليمة، فقد ‏ذهب إلى مقاربة تتصل بالتاريخ والفكر العربي تقوم على الاتصال والانفصال بنقد ‏المراحل المظلمة التي أنتجت حالة التشوُّهات في الجسم العربي، كما يقول في مقالة ‏له: "المقولة المتكررة عن تجفيف منابع الإرهاب تبقى ناقصة إذا اقتصر معناها على ‏البُعد الميداني، فمنابع اللإرهاب ليست سلاحًا ومالًا فقط، إنها أفكار وتعاليم وغسيل ‏أدمغة، لهذا لا بدّ من ثقافة تحمل مضادات جذريّة لهذه الأفكار"(2).‏

وفي تحديد منطلقه الفكري "الظاهراتي" تعامل خيري منصور مع وسائل التعبير ‏بوصفها وسائط لخطابِه الأساس في مشروعه الثقافي، أن "يؤسِّس القارئ القارّ في ‏وعيه وطرق تفكيره وأسلوب حياته ونمط عيشه،... وهو ما تجلّى في كتابة قصيدة ‏تنبني عادةً على صورة واحدة تحملها فكرة بسيطة لكنّها محتشدة بالتساؤلات ‏والإشارات الحرجة والمربِكة، حيث تحيل التفاصيل المنتقاة القارئ إلى ربط تاريخه ‏الشخصي بتاريخ الجماعة وبالحياة بمفهومها الوجودي العام"(3). ‏

حتى إنَّ بعض فقرات قصائده تتحوَّل إلى عناوين لمقالات له، كما في عنوان "أقلّ من ‏اعتراف"، من قصيدة "الحافة" حيث يناقش في المقال، أو يقارن بين المثقف العربي ‏الذي يسيطر عليه الخوف، وبين الكاتب الغربي الذي يسيطر عليه الحب، فالموضوع ‏لا يخلو من فكرة التراسل بين المقال والقصيدة على اختلاف المناسبة والفترة الزمنية ‏التي كتب فيها وسيلة التعبير في الشعر والنثر، وفي كليهما تأسّسا على فكرة التواصل ‏والانقطاع/ القطع الذي يرى فيه سبب الهزائم التي نخرت الجسد العربي أفرادًا ‏وجماعات، لكنه في الوقت نفسه يستعيد النص "بتحيين التاريخ" كما يقول الشاعر ‏والمفكر أدونيس، وهي الفكرة التي لا تسقط الماضي على الحاضر، وإنَّما تحدث قطعًا ‏مع الماضي لمصلحة الراهن بقراءة تفاصيله لوضع اليد على الجرح وإن كان ‏الاكتشاف موجعًا. ‏

‏"أقل... أقل من الاعتراف‏

وأكثر من نبأ لا يهمّ سوى اثنين

طفل توقَّف في فكرة

وأب مات قبل الزّفاف

وقد تستفيض القصيدة حتى الرّعاف

فتعدّدهم... من شمال القتيل... إلى غربه

ومن بذرة الحزن حتى القطاف".‏

ويسيطر على الشاعر منهج الشك، بينما اليقين هو الخطأ، معززًا فكرة التضاد التي ‏نجدها "كودات" وجمل مفتاحيّة في غالبيّة كتاباته، ومن ديوان "لا مراثي للنائم ‏الجميل":‏

‏"سوف أوقن يومًا بأنَّ الذي

ضاعَ.. ضيعْتُهُ للأبدْ‏

وسأوقن حتمًا بأني أخطأت باب الدخول

فالشكوك القديمة كانت كفيض الجسدْ

والتردُّد.. كان ابتداء القبول‏

كان حبلًا يحزّ الخطى.. من مَسَدْ".‏

 

الضديّة والوعي السالب

على هذا الأساس اجترح خيري منصور فكرة الضديّة في كتاباته الشعرية التي تقوم ‏على الصورة وبلاغة التكثيف والمفارقة كأسلوب حداثي شكلًا يتواءم مع المضمون ‏الذي اختاره لنقد الظواهر التاريخية في الفكر العربي أو العالمي، ومن هذه الجمل ‏المفتاحية أو التي تشكل شارات سيميائية معرفية تتصل بالأجهزة المفاهيمية للنقد، ‏عنوان كتابه "الاستشراق والوعي السالب"، وهو لا يختلف فيه عن مقولات إدوارد ‏سعيد "الاستشراق المعكوس"، وكذلك مقولته حول العزلة بـ"النوستالجيا المضادة‎"‎، ‏و‎"‎الأمكنة الفاسدة‎"‎‏ في توصيفه للاجتماع في منطقة الالتباس والشك التي تقيم في ‏المنطقة الرّخوة.‏

ما أريد قوله هنا إنَّ خيري منصور الشاعر والناثر والمفكر الذي صدر له في الشعر: ‏‏"غزلان الدم"، "لا مراثي للنائم الجميل"، "ظلال"، "التيه وخنجر يسرق البلاد" ‏و"الكتابة بالقدمين" كان ينهل من بئر واحدة، ويقيم بيتًا على قمّة بناء موسوعي في ‏الثقافة أسَّس لجهازه المفاهيمي المتمرِّد على الواقع، متنكرًا أو منكرًا للحنين المأساوي/ ‏النستولوجي، وهذه الفكرة تقوم على التضاد، والوعي السالب، مقابل الوعي الشقي أو ‏العدميّة، فهو صراع تخوضه الذات الحقيقية مع الذات الوهمية في أعماق النفس لينفي ‏أحدهما الآخر ويقصيه، هذه الفكرة الأساسية التي يتراسل فيها الصراع بين الكاتب/ ‏المثقف والإنسان المتمرِّد، وتتنازعها النصوص بين القصيدة والدراسة والمقال ‏كحوامل وتجلّيات للصراع الذي يخوضه الكاتب مع نفسه. فيقول في لقاء صحفي إنَّ:‏‎ ‎‏"زوربا وقارض الكتب كلاهما يعيش في داخلي، وأحيانًا يتصارعان في داخلي وربّما ‏يأتي يوم يقتل أحدهما الآخر وتنتهي المصالحة بينهما لصالح الأحمق المغامر أو ‏الحكيم المتأمِّل‎"‎‏.‏

 

الهوامش والقراءات:‏

‏(1)‏ ‏ محمود منير، خيري منصور: "أنا" متعدّدة وجامحة لا تقبل الركون، العربي الجديد، ‏‏20/ 9/ 2018.‏

‏(2)‏ ‏ فقة النحر والانتحار، صحيفة عمون الإلكترونية، 10/ 2/ 2015.‏

‏(3)‏ ‏ مرجع سابق، محمود منير.‏